عن النواة اللدنة .. وعطاياها
تماس خفيف .. مع مجموعة (مثل واحد آخر)
بقلم: عاطف عبدالعزيز
منذ نحو ثلاثين عامًا كتبت إليه إهداءً على نسخة من ديوان، ربما كان (حيطان بيضاء)، قلت له فيه: « تعلمت على يديك يا سيّد أشياء في الفن والحياة، وأحب أن تعرف ذلك»، الغريب أن صداقتنا إذاك لم يكن قد تجاوز عمرها السنتين، وإلى الآن أحاول أن أعرف على وجه اليقين ما هي تلك -بالضبط- الأشياء التي كنت قد تعلمتها في هاتين السنتين البعيدتين على يديه.
أغلب الظن أن هذه واحدة من سمات الرجل التي سوف تلازمه على طول الخط، أو لنقل واحدًا من مفاتيح شخصيته، أعنى تلك القدرة -أو كما يقولون الكاريزما- التي منحها الله إياه، والتي جعلت منه مُعلِّمًا على الدوام، معلمًا في منطقه وفي صمته، معلمًا دون مقاعد درس لكل من عرفه عن قرب، ولا أظن أن أحدًا من الممكن أن يخالفني في قيمته كأب روحي لأجيال عدة من المبدعين والنقاد، سواء كان ذلك في مصر أو خارجها.
من العسير أن يجد المرء نفسه فجأة داخل إهاب رجل آخر، غير أن هذا ما جرى حين قرأت (أيام هند)، ثم حين قرأت (للروح غناها)، ثم حين قرأت ما تلى ذلك من أعمال حتى (الحالة دايت)، إذ كاد سيّد الوكيل أن يحمل ذاكرتي كاملة، صحيح أننا من مواليد حقبة زمنية واحدة تقريبا، وصحيح أيضًا أننا من أبناء البرجوازية الصغيرة الذين عدوا أطفالًا عبر شوارع القاهرة في نسختها الشعبية، ثم صحيح أننا من أصول ريفية دلتاوية، لكن هل يكفي هذا لإنتاج وجدان واحد مقسوم على اثنين!
في مطلع عام 2011 وتحديدًا في أعقاب حادثة كنيسة القديسيْن بالإسكندرية، كتب سيّد الوكيل على حسابه في الفيسبوك قصة بعنوان (نُنُّس)، كتبها باللغة الدارجة لا بوصفها عملًا أدبيًا، بل بوصفها طرفًا من سيرته الذاتية، ذلك قبل أن يضمنها القسم الرابع والأخير من مجموعته هذه (مثل واحد آخر).
كان سيّد يحدثنا في قصته تلك عن فتاة مسيحية أحبها في مطلع شبابه، هكذا بقوة الفن وجبروته، يستحضر لنا شبرا أوائل السبعينيات بعبقها ومذاقها، هنا كان التطابق الوجداني بيننا قد وصل ذروته، ما ألهمني واحدة من أهم قصائدي وهي قصيدة (الشهيق) التي جاءت ضمن ديوان (برهان على لا شيء).
لهذا كله أسائل نفسي منذ أيام، هل يجوز لمثلي -والحالة كما ترون- أن يتخذ مجلسه هنا من أجل الكلام بموضوعية عن عمل لسيد الوكيل؟ الحقيقة: لا يجوز، ولكنني سأفعلها، نعم سأفعلها بوصفها عملًا استثنائيًّا لا يليق إلا بمبدع استثنائي مثل سيّد الوكيل، ذلك كمحاولة متواضعة من أجل تلمس بعضًا من مفاتيح عالمه.
**
شاء كاتبنا أن نرى مجموعته القصصية (مثل واحد آخر) منتظمة في أقسام أربعة، وتلك إشارة لا يجوز إهمالها، لأننا سوف نعود إليها فيما بعد، ذلك بما تحمله من معنى التعدد في الواحد، إذ أن المجموعة بدت لنا سهامًا تخرج من جعبة واحدة، لتضرب في اتجاهات عدة.
منح الكاتب أول هذه الأقسام عنوانًا مخمليًا موحيًا: (ضفاف الحياة البعيدة)، والحق أنه في ذلك لم يخالف توقعنا حين بدأ بـ (قصة حب صوفي)، وهي القصة التي يمكنني -بحكم صداقتي بالكاتب- القول بأنها مقتطعة من سيرته الذاتية، حين كان يعبر سنوات مراهقته المبكرة، كما بوسعي التأكيد على أن تلك القصة يمكنها أن تجسد النواة الصلبة الجامعة لخصائص سيّد الوكيل الإبداعية، التي يمكن لنا تلخيصها كالآتي:
أولًا: اللغة المتقشفة والشفافة في آن واحد، اللغة التي لا يتعطل فيها السرد لبرهة واحدة، فنراها ترسم لنا المشاهد بفرشاة سريعة من وضع الحركة، كي يتدفق السرد دون أدنى تزيد، كي يصل ما بين المحسوس المتعيّن، وبين انعكاساته في دخائل النفوس في اللحظة ذاتها، حتى ليبدو المشهد على شاشة السرد أشبه بخطين دراميين متوازيين كلاهما يحاور صاحبه، الأمر الذي يبين كتجسيد حيّ لفكرة جدل الداخل والخارج.
دعونا نتأمل معًا تلك الفقرة التي تتجاذبها أطراف عدة، بعضها مرئيٌّ مُكوِّنٌ لعناصر المشهد، والبعض الآخر يدور في فضاءاته السرية البعيدة، وهي كالآتي: (سريرة الزبونة- البترونيست- السارد- صور فتيات العرض بالمجلات- جسد الزبونة- المرآة)، إذ يقول بطل القصة عبر هذه الفقرة، وهو يصف الفتاة زبونة والده البترونيست:
« في البداية تتصفح المجلات بأصابع متوترة، بضع دقائق وتسترخي تمامًا، وتترك لجسدها حقّ التعبير عن نفسه. وهي الآن تحاول محاكاة عارضات الأزياء اللاتي يبتسمن لها من بين صفحات (elle). ستمنحها شيئًا مثيرًا بالتأكيد. تلك صورة لشقراء تبتسم بأسنان ماسية، وشفتين مغريتين بالتهامهما. دون وعي، تعض شفتها السفلى وتتنهد بعمق، فيفوح عطر تخبئه بين نهديها. تنتبه لنظرات البترونيست في المرآة المقابلة، ترتبك للحظة، ويطوف بوجنتيها حمرة خفيفة، تتخلص منها سريعًا عندما يمنحها ابتسامة آمنة، فتشعر أن جسدها الآن حرّ»
يمكننا أن نتأمل فقرة أخرى من هذه القصة أو غيرها، من أجل تعميق الإشارة إلى تلك الخصيصة، ولتكن من قصة (شرفات مغلقة)، التي سوف نرى فيها ذلك المزج البديع بين الخارج المتعيَّن في وضعيته شبه الاستاتيكية، وبين الداخل السريّ في حالته الموّارة:
« ياله من مبنى شائخ وقبيح، نفسي الآن صافية، فأرى الأشياء في جوهرها، أنظر لنافذتي التي اعتدت الوقوف بها وأرى من خلالها ملامح الجمال القديم، والشرفات المغلقة لعمارة القبطان. الآن أحس وأشم خضرة الشجرة التي تخشخش على الباب وكأن الحياة بداخلي، تلسعني نسمة باردة فأجلس، دكة خشبية، وفروة خروف بيضاء نظيفة، أدس أصابعي فيها وأشعر بدفء ملمسها، عم دكروري بجواري، ينفض النعاس من عينيه، وينادي أم كبير، فتجيء براكية النار وتدس الكنكة السوداء»
ثانيًا: اصطياد حادثة هامشية من الماضي، ثم إعادة تفكيكها في مختبر الكتابة، لا من أجل استحلاب ذلك الماضي أو رثائه، بل من أجل كشف ما تنطوي عليه القوانين الخفية لهذه الحياة من صرامة أحيانًا، أو اضطراب واعتباط في أحيان أخرى، ذلك -بالضرورة- في ضوء المآلات والمصائر.
ثالثًا: الالتفات العميق للشبق، لا بوصفه وعاءً للمتع أو محفزًا للخيال، إنما بوصفه محركًا رئيسًا للوعي بالذات وبالعالم، ينجلي لنا ذلك حين نتأمل المشهد المحوري في قصتنا هذه الذي يجيؤنا على لسان السارد الرئيس، وهو يصف بطله الذي يتعثر في عتبة المراهقة ليقول لنا:
« توقف فجأة عندما وصل إلى الدرجة الأخيرة من السلم. لم يكن ينوي ذلك أبدًا، كان يفكر في ردة فعل الزبونة التي تجلس على المقعد الوثير، ويبتسم ابتسامة تلاشت بسرعة، عندما باغته ذلك المشهد ... سمراء تجلس على ماكينة الخياطة، تتصفح إحدى المجلات المكومة على مقعد بجوارها، وتترك لساقيها براحًا ساحرًا يشع من تحت الجوب القصير. لم يفكر أبدًا أن هذا المشهد سوف يرسم المخطط الحيوي لحياته كلها. نعم كلها .. حتى في تلك اللحظة التي يجلس فيها على مقعد متحرك، أمام بحر صامت بلا موج كأنما يشاركه وحدته»
رابعًا: -وهذه النقطة في حقيقتها ليست سوى تأسيس على ما ورد فيما سبقها- ومفادها: إعادة الاعتبار إلى الجسد بوصفه كيانًا مستقلًا، يحمل ذاكرة ووعيًا خاصين، بل لعلنا لا نغالي حين نقول إن سيّد الوكيل يرى الجسد وعاءً للوعي المطلق في نقاوته وفي حالته الغفل، ما يجعله قادرًا على كشف مساحات الوعي الزائف التي نتركها خلفنا عبر سيرورتنا في هذه الحياة.
**
الآن بات علينا أن ننتبه لما سوف نسميه -ولو بشكل مؤقت- (النواة اللدنة) في تجربة سيّد الوكيل، نعني هنا تلك النواة التي كانت قابلة -طوال الوقت- للتشكل وإعادة التشكل، عبر عمليات التفاعل الخلاق مع تجارب الآخرين، ذلك من أجل تجنب الوقوع في فخ التنميط أو عبادة الماضي، فبعد مجموعته الجميلة (للروح غناها)، تبدى بوضوح قلق سيّد الوكيل إزاء تصوراته الثابتة عن السرد، وكان عليه البحث المستمر عن سكك جديدة، تربطه باللحظة الراهنة بمراوغاتها وتحولاتها اللاهثة، هكذا، ومنذ رواية (فوق الحياة قليلًا)، كانت قد استقرت داخله تلك النواة الرخوة، التي كان قد جرى استيلادها من رحم التشكك والقلق، كي يقدم لنا سيّد أشكالًا جديدة من الكتابة، أقرب ما تكون إلى شبكات معقدة وملهمة، تتقاطع فيها الفنون المرئية والأنواع الأدبية من مثل السينما والدراما والشعر والسرد القصصي والسيرة الذاتية، كما تظهر فيها ما يمكن تسميته بالشخصيات فوق الروائية -إذا صح هذا التعبير- أي الشخصيات القادرة على اختراق أكثر من عمل، تمامًا مثلما فعلت (هدى كمال) وهي تتنقل بشحمها ولحمها من (أيام هند) إلى (فوق الحياة قليلًا) إلى (مثل واحد آخر).
من هنا يمكن القول بأن (مثل واحد آخر) بأقسامها الأربعة، تعد في هذا المقام معرضًا ناجزًا وكاشفًا لتجربة سيّد الوكيل وخريطة جيناته الإبداعية، فالحس التجريبي -المرتكز على النواة الرخوة- بدا حاكمًا لاسيما حين نقرأ قصصًا عديدة غير تقليدية بالمطلق، إذ أنها تبدو مجلوبة من فضاء تخييلي شديد الخصوصية، ولعل من النافع أن نلقي نظرة عجلى على بعض منها، كاشفين عن النزعة التجريبية التي ظلت تخايل الكاتب على نحو ما نجد في قصص مثل: (كمزحة خفيفة تصعد الروح)، أو (حجرة الأشياء المنسية)، أو (مثل واحد آخر) وغيرها.
ففي قصة (كمزحة خفيفة تصعد الروح)، سوف نرى كيف أن الكاتب سوف يفاجئنا بابتعاده عن عالم السرد بمسافة معتبرة، مقتربًا من الدراما، فنجده يدير حوارًا ذا باطن فلسفيٍّ معمق، بين الشاعر وبين ملك الموت، كاشفًا من خلاله، عن حقيقة الإنسان القابعة في ذلك الفناء المظلم خلف لاوعيه، كاشفًا كذلك عن ذلك الصراع الخفي بين الأخلاق بطابعها الاستاتيكي الكابح من جهة، وبين محبة الحياة بطابعها الدينامي الجامح من الجهة الأخرى، وهذا باعتبارهما ميكانزمين يعملان في اتجاهين متعاكسين، ففي أعقاب موت صديق الشاعر، ينبثق الحوار الآتي مع ما سوف نظنه ملك الموت على هذا النحو:
وكيف لي أن أعرف أنه مات؟ ظننته نائمًا .. كما أني لم أعد قادرًا على تحمل تلك الرائحة، ومع ذلك كنت حزينًا ومتأسيًّا لدرجة أني بكيت بحرقة بمجرد أن أغلقت زوجته الباب ورائي.. كنت أبكي وأرتعد حتى أنني تعثرت على سلالم البيت.
لا تحاول خداعي.. أنت تعثرت لأنك كنت تفكر في قصيدة رثاء لصديقك.
كيف تعرف كل هذا.. من أنت؟
هل أنت أحمق؟ قلت لك كنت جالسًا في المقعد المجاور لك، ورأيت كل شيء.. حتى نظرتك إلى نهديّ زوجة صديقك وهي تنحني لتضع كوب الشاي أمامك.
هنا سنكتشف أن ملك الموت لم يكن في حقيقته سوى صورة من صور الضمير، ما يعني أيضًا -من طرف خفيّ- أن الموت ليس خصمًا خارجيًا يعدو خلفنا كما نظن، بل هو جزء لا يتجزأ من تكويننا، خصم نحمله ونعدو به.
في قصة (حجرة الأشياء المنسية) يقدم سيّد الوكيل عالم الحلم بسورياليته وكابوسيته في آن واحد، الحلم هنا -بالطبع- ليس انعكاسًا محضًا للواقع، بل هو إعادة صفٍّ وترتيبٍ وفق قانون خاص، قد يبدو للكثرة قانونًا متسمًا باللامعقولية، بيد أنه كاشفٌ -كما تعلّمنا مدرسة التحليل النفسي- عن رغباتنا المقموعة، أي الجانب المعتم فينا. على أن الأمر لم يكن هنا بهذه البساطة، إذ أن سيّد الوكيل -عبر قصته تلك- كان يعمد إلى فتح غرفة الأشياء التي لا يمكننا نسيانها، أي التاريخ السريّ للروح والجسد معًا منذ الطفولة الباكرة:
« تقدمَني، ومشيت خلفه صامتًا. كانت الطرقة ممتدة بلا نهاية، أشبه بسفن الفضاء في الأفلام الأمريكية. لكننا فجأة كنا أمام باب معدني كبير. ثمة لافتة مكتوبة بخط كوفيّ قديم: "حجرة الأشياء المنسية" وأنا أتأملها انفتح الباب من غير أن نطرقه، فإذا بطفل وحيد في الداخل.
سألت عامل المصعد بصوت عال "لماذا تضعون طفلًا وحيدًا في حجرة الأشياء المنسية؟ لكنه لم يرد.. عندئذ لاحظت أن الطفل لم يأبه لوجودنا، لم ياتفت إلينا أصلًا. كنت أصرخ في عامل المصعد فيما ظل منهمكًا في رسم صورة لشخص يشبهني »
ولا ندري لماذا بدا لنا في هذه القصة، أن ثمة شيئًا من التفاعل لدى الوكيل مع مجموعة نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة)، ومن يدري .. ربما أيضًا كانت تلك القصة -إن لم تخنِّي الذاكرة- إرهاصةً مبكرة بمجموعته اللافتة (لمح البصر) التي صدرت عام 2014.
في القصة المركزية التي اتخذت المجموعة اسمها (مثل واحد آخر)، سوف يأخذ المنزع التجريبي لدى سيّد الوكيل مداه الأقصى، كي يصطنع نصًا شفافًا، أشبه بمسرح سقطت حوائطه وانكشفت كواليسه، نصًا لا يجلس فيه السارد العليم على منصته الإلهية العالية، بل سوف نراه يتمشي إلى جوارنا ليحدثنا مباشرة عن هواجسه حول النص إبان كتابته، شيء يشبه ما يطلق عليه في صناعة السينما الـ (Making)، وهو الأمر الذي قد يذكرنا ببعض أعمال ميلان كونديرا. ففي فقرة من القصة يحدثنا السارد العليم عن خطته في إماتة البطل فيقول لنا:
« سوف أستبعد تمامًا أن يموت على سرير عشيقته القديمة، سوف أستبعدها من الحدث فزوجها قد سلم الشفت الآن، وعاد ليرتاح على سريره بضع ساعات. كما أني لن أدعه يمارس عادته السرية قبل أن يموت لتتمكن الملائكة من حمل روحه إلى السماء»
على أن القصة سوف تنتهي بهزيمة الإله السارد، حين يفشل بطله في أن يفتح شقته كواحد آخر، يفشل في الإفلات من سجن الذاكرة، الأمر الذي قد يلقي ضوءًا ساطعًا على فلسفة سيّد الوكيل الإبداعية ونواته اللدنة، ونحن نعني بذلك اعتقاده في حاجتنا إلى التجدد الدائم عبر مقاومة الخبرات المتراكمة، وعبر التصدي لسطوة الذاكرة.
**
مع الأسف لم أكن موضوعيًّا كما وعدت، لأن سيّد الوكيل أكثر كثيرًا مما قلت.
عاطف عبد العزيز
يوليو 2024
إرسال تعليق