مصباح كفيف، لسوزان عليوان.
بقلم: سيد الوكيل
سوف
يدعوك غلاف الكتيب إلى تأمله لحظة قبل أن تفتحه. الألوان الصريحة تقسمه إلى نصفين:
الأعلى بلون السماء، وتحتها مساحة عريضة خضراء وثمة خطوط زاهية ومباشرة تجسد
أطفالا تشعر أنهم يتجهون إليك، ينظرون في توسل، يمسكون بمصابيح صغيرة، في أول الصف
ستراهم بوضوح، وفي امتداد الأفق تتماهى أجسادهم كتيب بعنوان (مصباح كفيف) وعلى
زاوية من الغلاف تلحظ بخفة اسم الشاعرة (سوزان عليوان) وهي تصر أن تلفت انتباهنا
إلى أن لوحة الغلاف لطفلة تصارع الموت على سرير صغير في المعهد القومي للأورام
بالقاهرة.
هذه
الملاحظة تذكرنا بأطفال يموتون في أماكن أخرى من العالم، ربما فوق مقاعدهم
المدرسية أو في الطرقات وهم يرددون أغنياتهم الجديدة، أو في بيوتهم عندما تقصفها
طائرات صهيون.سنفكر أن ثمة زهورًا تدهس في حقول بعيدة، ومصابيح تطفأ في صمت قبل أن
تنتهي صفارات الإنذار في كوكب أحمر .
أولى قصائد الديوان تذكرنا بالدمار الذي يتربص
بالعالم، تبدأ بكلمات بسيطة، وأصوات خافتة لتبدو كزفرة عميقة تخرج من روح ضائقة،
بلاد الله ما عادت واسعة .الأرواح أيضا ضاقت كأحذية قديمة، ثم فجأة يدوي الصوت
العميق، أشبه ما يكون بقعقعة السلام، يأتي في خلفية المشهد بإيقاع صوتي يستفيد من
قلقلة القاف (القارات - القرى - القلوب - قبائل من القتلة، والقتلى.. هكذا تصبح
الأصوات علامة على المعنى الضمني الذي لا تصرح به.
سوزان
عليوان شاعرة لبنانية من أم عراقية عاشت في طفولتها ويلات حرب وتشهد في شبابها
حربا أخرى. إننا ببساطة أمام شاعرة من جيل الحروب التي لا تنتهي، فهل يعني هذا
شيئا؟.. سنرى.
ديوانها
الأول جاء في 1994 بعنوان ( عصفور المقهى)، ثم تلته بـ (مخبأ الملائكة، لا أشبه
أحدا، شمس ،مؤقتة، ما من يد كائن اسمه الحرب، ثم مصباح كفيف) ذلك الذي بين أيدينا
تلك .شاعرة يمكنها إن تتمثل العالم شعرا،
لهذا فهي على الرغم من اختيارها لقصيدة النثر إلا أنها لا تخضع لمواصفاتها
القياسية، وإنما تتحرك في فضاء أكثر رحابة، تقارب الفضاءات الرومانسية دونما
إيغال. إنها طريقة الشعراء في الخلاص من
ارض ما عادت لهم رغبة فيها، أو على حد تعبيرها الأرض بلغت هاويتها - ما عادت إمامنا
طرق - والوقت بحجم دمعة - اقل مما نحتاج - كي نموت مبتسمين.
إنها روح متأسية بمشاعر كونية مفعمة بعذابات بشرية كبرى، وهكذا
تتوق للانفلات من قيود الأماكن التي يكمن فيها الموت، تقول افترض فضاء وأدخل - افترض
احتمال المكان، تقول: (لنفترض زمنا لا يهرب من الزمن - مكانًا لا يخاف من المكان -
بشرًا جميلين).
وفي
قصيدة (كوكب احمر ) نقرأ: (ما عادت لي رغبة في ارض ثم تصمت تعلق الإيقاع هنيهة،
تتعلق فيها كلمة (ارض) في فضاء العموم بلا تعريف ليعكس شعورًا عاماً بغصة تقتل
الكلمات، لم لا نراها أن رغبة في الخلاص هي آخر ما تفكر فيه شاعرة من جيل الحروب
التي لا تنتهي، وكأن ثمة نزوعًا رومانسياً يعاود الظهور في ظروف أشبه ما تكون
بظروف الرومانسيين الأوائل، هكذا يبحث المبدعون عن بدايات أخرى في أماكن أخرى
بعيدا عن ارض بلغت هاويتها، لان الجثث هنا - أكثر من الزهور وساقية الدم - لا تتوقف
عن الدوران.
تقول
سوزان في قصيدة بعنوان: نافذة ما (لنفترض حياة أخرى - خارج الجسد وأبعد من الروح)
غير أن هذه الرغبة تبدو أكبر دراماتيكية في قصيدة (الروح في مصيدتها) حيث يتجسد
الحلم بفعل الخلق ذاته وإعادة تشكيل العالم على نحو أكثر جمالاً على الكرسي نفسه (كل
ليلة . والعالم من إمامي عابر
ابتكر مخلوقات ناعمة تبدد رتابة المربعات
تضيء في الزوايا عزلتها.
زهرة حائط، غزالة من عين الدمع تشرب، قرية من تراب وقناديل)
تجسد
الجملة الأخيرة المعنى الجديد للرومانسية التي أعنيها عند جيل جديد، أنها ليست
عالماً مثالياً خالصاً على نحو ما حلم به الرومانسيون الأوائل، وليست يوتوبيا لا
مكان لها على الأرض، أنها ببساطة قرية من تراب مثل كل القرى، فقط تضيئها القناديل.
تبدو كلمة (البيت) ومرادفاتها: الجدران الحجرات النوافذ.. رموزًا يطرحها (مصباح
كفيف)
في قصيدة نافذة ما نقرأ..
لنفترض بيتًا سقفه الخلاء
جدرانه من جلدنا
صمتُنا غفوة حارسة وحديقة يسيجها العشب
وفراشات مرقعة بألوان المطر
-
ظلالها نمور نفتت لأجلها خبز الأصابع.
إن
دواعي الألم والحنين والعزلة ومفردات عن الروح والظلال والأنين وصورًا مفعمة
بمعاني الوجد والتحنان والبراءة المهدرة، تستدعي في باطنها أحلامًا بعوالم أخرى
وكأن ثمة نزوعًا مغايراً يوجه دوافع الإبداع الجديد، فسوزان عليوان ليست حالة
مفردة، بل هي شعور جمعي عند جيل فتح عينيه على عالم الجثث فيه أكثر من الزهور.
ظني
أن تحولًا ما يطرأ على طبيعة الوعي الإبداعي تتشكل ملامحه الأولى على مهل ولاسيما
لدى المبدعات الشابات، كأن الكتابة في احد تصوراتها تعبير جمالي عن شعور عام
بالإحباط، وكأنه ليس على المبدع سوى الخلاص على طريقته الخاصة، ولكنها على أي حال
ليست رومانسية خالصة من ارتباك الشعور، بل هي ورؤية غير واضحة على ضوء مصباح كفيف.
إرسال تعليق