مسيرة الشعر
والألم
في حياة
عائشة التيمورية
بقلم:
سيد
الوكيل
حياة عائشة التيمورية
ثرية بالمفاجئات، ومشحونة بالملابسات الدرامية المؤلمة ،ولا أحد يدرى إن كانت هذه
الحياة هي التي أسهمت في صقل موهبتها على نحو باكر، أم أنها كانت عاملاً من
العوامل التي أدت إلى تهميشها وتعطيل الدور البازغ الذي كان يمكن أن تلعبه في
تاريخ الشعر الحديث على نحو ما لعبته ـ فيما بعد ـ واحدة من بنات جنسها ( نازك الملائكة).
تزوجت عائشة التيمورية في سن مبكرة وفقا لعادات
الزواج في هذا الوقت ، وكانت في الخامسة عشرة عندما اقترن اسمها باسم ( محمد توفيق
بك الإسلامبولى ) ، وهذه سن تبدأ فيها أزهار الموهبة في الطلوع، ومن ثم فإن
التجربة العاطفية والنفسية للزواج، وما اتبعه من مسئوليات جديدة تقع على عاتقها
زوجةً وأماً كانت كافيةً لصرفها عن الشعر والثقافة، وتعطيل النبوغ الذي كان قد بدأ
للتو في الطلوع، ولاسيما أنها اقترنت بتجربة اغتراب أيضاً، فبعد الزواج سافرت عائشة مع زوجها إلى استنابول
(1854 ) وأمضت هناك ست سنوات، فعانت زهرة الإبداع
قسوة اقتلاعها من التربة التي نمت فيها، لكن الهزة التي كانت أكثر عنفاً في تجربة الزواج تمثلت في وفاة زوجها بعد ست سنوات ـ تقريباً ـ
عاشتها معه، وهكذا كان عليها أن تعود إلى
مصر، أرملة بصحبة أربعة من الأطفال لتزيد مسئولياتها، وتتدثر بثياب الأرامل الثقيلة، ولا شك أن تجربة الترمل في هذه الفترة
كانت أشد قسوة مما هي عليه الآن، ولا سيما لامرأة شابة في مقتبل عمرها، لكن عائشة
امتلكت إرادة قوية، ففي غمار انهماكها بشؤون المنزل وتربية الأولاد أكبت على كتب
الشعر العربي ونهلت من عيونه، كما كانت نهمة في اطلاعها على الكثير من مجالات
المعرفة والثقافة قديمها وحديثها، فألمت ببعض علوم الفلك والطب والنبات ، واستأجرت
من يعلمها فنون العروض والإيقاع، وخلال هذه الفترة أنجزت ديوانين هما: ديوان (
حلية الطراز ) وديوان (شكوفة) ، والأخير نظمته بالفارسية والتركية.
تجاوزت عائشة
محنتها بإرادة قوية، وبوعي حاد بإمكاناتها وموهبتها الفذة التي ظهرت ملامحها الأولى في سنوات الطفولة الباكرة
، وذلك عندما لاحظ والدها كثرة ترددها على
مكتبته ، وشغفها بالورق، ثم تنصتها على مجالسه، في صالونه الثقافي الذي كان يستضيف
فيه كبار أدباء ومثقفي عصره، وبهذا السلوك العفوي بدأت الطفلة تحفظ كل ما تسمع أو
تتهجى قراءته من الشعر، عندئذ عهد بها والدها إلى أثنين من المعلمين، فحفظت القرآن
الكريم، ودرست علوم العربية من نحو وصرف وغيرهما، كما أتقنت اللغتين التركية والفارسية، فما كادت الطفلة
تشب عن الطوق حتى كانت تقضي جُل يومها في
الاطلاع، ورأت أمها في ذلك خطراً، إذ اعتبرته خروجاً على ما درجت عليه النساء في عصرها، فأخذتها بالعنف تارة ، وبالحيلة أخرى
لتصرفها عن غيها، وكانت أمها جارية من أصل جركسي، أعتقها جد عائشة وزوجها لابنه،
فلم تفهم طموح ابنتها، واستنكرت غوايتها وانصرافها عن شؤون المنزل وشغل
الأبرة إلى الورق والحبر، غير أن أبا
عائشة حسم الأمر ، ومنع زوجته من التدخل في حياة الطفلة، وكان على عائشة أن تكون
عند حسن ظن أبيها، وأن تثبت له أنها جديرة بهذا الامتياز .
"وحدث ذلك في موقف أشبه برومانتيكيات العصور الوسطى في أروربا، فقد كانت عائشة ذات
ليلة تقف في مشربية منزلها، وكانت الليلة ليلة بدر، فجاءتها
مربيتها ووضعت باقة ورد أمامها، فراق ذلك لعائشة، وبينما هي كذلك نادتها
أمها، فتركت الورد أمانة لدى البدر، أو هكذا هيأ لها خاطرها ووجدانها، ولما عادت
من محادثة أمها وجدت أن ريحاً قد بددت الورد ونثرته، فحزنت لذلك، وراحت تفكر
فيه، ثم كان وهي على هذه الحال، أن جادت
قريحتها ببيتين من الشعر الفارسي، وعندما أسمعتهما لأبيها أنشرح صدره، فشجعها على
المزيد وراح يفاخر بها بين ضيوفه من أرباب
القلم، فكانت أعجوبة بينهم لما عليه من
تمكّن في النظم على السماع، ومن فصاحة البيان في اللغات الثلاث: العربية والتركية
والفارسية، فيما هي لم تبرح بعد عامها الثالث عشر .
بعد عودتها من تركيا، كان
عليها أن تحرق المراحل التي فاتتها، ولم تمض بضع سنوات حتى بزغ نجمها وذاع صيتها،
ونضجت تجربتها الشعرية، غير أن القدر أبى ألا يتركها لحال سبيلها دونما جراح، إذ
رزئت بموت ابنتها ( توحيدة ) بعد مرض قصير،
وقبل موعد زفافها ببضع أسابيع، وكانت ( توحيدة ) أقرب بنات عائشة إلى قلبها،
وأقدرهم على فهم التركيبة النفسية للممسوسين بالشعر، حيث أن البنت قد أبدت نبوغاً
شعريًا ورثته عن أمها، وحيث كان توارث الأدب معهوداً في العائلة التيمورية .
كان موت ( توحيدة )
صدمة مروعة لعائشة، امتدت آثارها لعدة سنين، هجرت فيها الورق، توقفت عن قرض الشعر، إلا من بضع مراثي في
ابنتها، وأحرقت بنفسها كثيراً مما نظمته
من قبل، وعاشت في عزله وصمت، واتخذت
لنفسها سرباً من القطط تؤانسها وتداعبها، غير
أنها لم تفارق الحزن لحظة، حتى قيل
إن المشيب أدركها قبل الأربعين، ودخلت في
نوبات من الاكتئاب والاضطراب النفسي ، ولم
تزل هذه النوبات تعاودها، حتى انتهت ـ في أواخر أيامها ـ إلى نوع من المرض العقلي
، وكانت تنتابها نوبات من الإفاقة تعود فيها إلى كتبها وشعرها بتشجيع من ابنها ( محمود ) لكن كثرة
الاطلاع والبكاء أصابتا عينيها حتى ضعف بصرها وكانت تعانى آلاما مبرحة.
والطريف أنها سجلت تجربتها مع رمد العين في أكثر من قصيدة (
تربو على 10 قصائد ) منها ثمانية أنشئت خصيصاً في هذا الموضوع حتى يمكن تسميتها
بالعينيات على الرغم من أنها لم تنظم
واحدة منها على حرف العين. وفعلت هذا في حين لم تصلنا سوى قصيدة واحدة في رثاء
ابنتها توحيدة، أتمتها في خمسين بيتاً ، وهي حسنة الديباجة متينة التراكيب عذبة في
ألفاظها ومعانيها إذ تعد من عيون شعر الرثاء
وقد بزت بها مراثي الخنساء، وربما تكون قد توفرت على نظمها بكل هذه الروعة
بعد مدة من وفاة ابنتها، كما يمكن أن يكون بعض ما نظمته في الأيام الأولى من
الفجيعة قد ضاع بين ما ضاع من شعرها، والقصيدة ذات طابع حواري تتعدد فيه الأصوات،
ويكثر فيها الالتفات، إذ تقول على لسان ابنتها:
أماه قد
سلفت لنا أمنية يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام
مضت وتخلفت مذ بان يوم البين وهو
عسير
عودي إلى
ربع خلا ومآثر قد خلفت عنى
لها تأثير
صوني جهاز
العرس تذكاراً، فلي قد كان منه إلى
الزفاف سرور
إلى أن تقول :
ولك الهناء،
فصدق تاريخي بدا (توحيدة) زفت ومعها الحور
ويبدو أن فكرة تمام زفاف ( توحيدة ) رغم موتها قد تلبستها منذ البداية،
إذ قيل إن عائشة أصرت على تمام الزفاف، فوضعت ابنتها في ( الكوشة ) وهي ميتة،
وأمضت الليلة بين رقص وفرح، حتى الصباح، فإذا هي حين تستيق، تبدأ في الصراخ
والعويل حتى سقطت مغشياً عليها .
تركت عائشة ـ من غير الشعر ـ ثلاثة كتب أولها : " نتائج
الأحوال في الأقوال والأفعال " وهي سيرة ذاتية صيغت في أسلوب أدبي وروائي ، ولعل الطابع السير ذاتي للرواية النسوية العربية ـ الذي مازال ملمحاً
هاماً فيهاـ قد بدأ مع هذه التجربة. و كتابها
الثاني كان مسرحية، كتبت عليه:" تمثيلية اللقاء بعد الشفاء ".
أما كتابها الثالث:
"مرآة التأمل في الأمور " فكان بحثًا مطولاً في الاجتماع وشؤون الأسرة
والعلاقة بين الرجل والمرأة، وأهمية تعليم النساء، ولما كان الموضوع جديداً والتناول جريئاً، فقد
أثار الكتاب ضجة بين الناس، حتى انبرى أحد الفقهاء، واسمه عبد الله الفيومي فأفتى بمصادرة الكتاب
ومنعه من التداول، ولم يغفر اجتهادها في تفسير بعض آيات القرآن الكريم، ولم يفهم
أن الكتاب لا يعدو كونه مبحثاً في الاجتماع والسلوك، وليس كتاباً في التفسير أو
الفقه.
نظمت عائشة في الأغراض الشعرية القديمة مثل: المدح والرثاء
والنسيب والفخر وغيرها، كما نظمت في أغراض كانت محدثة على الشعر العربي مثل
الاجتماعيات ، غير أنها ـ في جميع الحالات ـ لم تلتزم التقاليد القديمة، فعملت على
التخلص منها والتجديد في لغتها ومعانيها، وابتكرت من الصور كثيراً مما استوحته من
معطيات عصرها ولغته وفنونه وعلومه، فظهر كل ذلك في شعرها سمة امتياز وتفوق على نحو
ما نجد في غرضي: الوصف والشكوى، إذ تسرب إلى شكاواها ـ مما أصابها من رمد ـ نوع من المناجاة والطرافة في وصفها الممتع
لمؤرقات العيون، لكن أكثر ما لفت الانتباه، هو جرأتها في تناول النسيب، الذي قاربت
فيه كثيراً من معاني الغزل وتلاعبت فيه بفنون البديع، فأثار حنق البعض أن تتغزل
امرأة برجل كما يتغزل الرجال بالنساء، فكتب أحدهم مقالاً في هجاء عائشة والتعريض بها وأسماه ( الإصابة في
منع النساء من الكتابة ) تقول عائشة في إحدى غزلياتها الطريفة التي تتلاعب فيها
بالبديع وتشاكل أساليب النحاة وأقوالهم:
سيف بجفنك
دائما مسلول ما أنت عن فعلاته
مسْول
شهدت عيونك أن لحظك قاتلي وقصاصه حق وهن عدول
لما رأت
منصوب قلبي وهو في صلة العذاب لوصله
موصول
بنيت على
كسر وعامل سحرها تقديره أن الشجي
مقتول
عائشة التيمورية
إرسال تعليق