المسافر الأبدي
علاء الديب |
بقلم: سيد الوكيل
يعرف
القارئ العربي الكاتب الكبير(علاء الديب) بوصفه واحدًا من أبرز كتاب الستينات في مصر
الذين اتحدت تجربتهم الإبداعية بقضايا الواقع العربي، وعبرت عنه تعبيرًا دقيقًا
خلال مرحلة اتسمت بحراك سياسي يتأرجح ما بين صعود الحلم القومي الذي صاحب الازدهار
الكبير لليسار العربي. في تلك المرحلة، وبين سلسلة الهزائم العسكرية والسياسية التي
أصابت أبناء جيله بالإحباط وقد عكست كتابته هذا الشعور ودمغت لغته وشخصياته بقدر
كبير من المرارة والمأساوية. ولعل أشهر رواياته (زهرة الليمون) جسدت ببراعة تيمه
المثقف المأزوم التي تم تداولها بكثرة بين كتاب هذه المرحلة، باعتبار أن وقع
الانكسار كان أكثر فداحة بين المثقفين الذين آمنوا، بل وتبنوا المقولات والأحلام
الاشتراكية الكبرى، ثم شاهدوها وهى تتهاوى إمام أعينهم. ومن ثم فقد كانت زهرة
الليمون تجسيدًا صارخًا لهذا المثقف الذي اتسم خطابه بروح انتقادية جادة ليس فقط
للنظام الحاكم - المتهم الأول عن هذا الانكسار - ولكنها تمتد لتكون لهجة شديدة
الانتقاد لمثقفي المرحلة، كما لو كانوا شركاء بقدر ما، في المسئولية عن الهزيمة،
وقد يبرر هذا ذلك الطابع الذاتي الذي تميزت به تجربته الإبداعية والتي انتهت صراحة
إلى تجربة سير ذاتية تسجل للحراك الثقافي لتلك المرحلة.
المسافر الأبدي.. علاء الديب |
وفي
مجموعته القصصية الأخيرة (المسافر الأبدي) سنجد آثارًا واضحة لهذه المرحلة سواء
على مستوى الموضوع أو على مستوى اللغة، غير أنها في كثير من الأحيان تتخلص من ذلك
الطابع الطوبوي، وتتجه إلى لغة أكثر مباشرة وأقل تشكيلًا، ولكن هذا لم يحرمها من
العمق الوجداني الذي يتناسب مع الحالات شديدة الإنسانية التي تتناولها، والتي يبدو
بعضها صدىً واسعًا للتجارب الشخصية للكاتب والنماذج الإنسانية التي التقى بها.
ولعل هذا الإغراق في الواقعية هو أبرز معالم
الانحراف الفني في قصص علاء الديب كإضافة إلى كتاباته السابقة التي كانت مصحوبة -
من قبل - برصيد أكبر من التشكيل، والميل إلى التحليل النفسي والاجتماعي، وتوجيه
الشخصيات على نحو يجسد الأفكار الطوبوية التي يتبناها الكاتب وتمثل إيديولوجيته وأفكاره.
ويبدو
أن الكاتب اتخذ من ثيمة المسافر، وهي ثيمة كثيرًا ما وظفها في أعمال سابقة، لتمثل
معادلًا موضوعيًا للاغتراب الوجداني الذي يصيب الإنسان، عندما يشعر أن سنوات العمر
الجميل تتسرب من بين يديه، فيما هو متأكد من أن هذا العمر قد ضاع هباء، وأنه لم
يستطع أن يحقق فيها أحلامه الكبرى، إلا أنه يجد نفسه مضطرًا للقبض على ما آخر ما تبقى له
من أمل في الأيام القليلة. هكذا يتضاءل حلمه ليبقى مجرد رغبة دفينة أن يتوقف الزمن عند هذا الحد خشية أن
تكون السفرة القادمة، أخيرة وأبدية.
وفي
قصة (المسافر الأبدي) يتحدث الكاتب عن صديقه (سالم) الذي مات دون أن يسافر ولو مرة
واحدة، كان سالم قد أمضى نصف حياته يتطلع في الخرائط ونشرات المدن.. ويجمع قصاصات
عن المغامرين وأصحاب الرحلات الكبيرة والمثيرة، هكذا كان السفر هو العالم الأبدي
والوحيد لسالم حتى انه استخرج جواز سفر،
وراح يعرضه على الأصدقاء، ويؤكد انه سيسافر بعد أسبوع، أو أيام ولكنه لم يسافر أيضًا.
إن
الحلم بالسفر هو حلم يتجاوز واقعًا غير مرضي عنه، إلى عالم طوبوي أكثر قدرة على
تحقيق الذات، ولقد ظل الحلم يطارد سالم وظل هو متمسكًا به، مع يقينه بان الحلم لن
يتحقق. ولقد كان الموت كسفرة وحيدة وأبدية، وهكذا ينقلب الأمر من واقع رومانسي
جميل إلى واقع تراجيدي مأسوي.
وللزمن
موقع خاص في قصص المسافر الأبدي وكثير منها يمتد سرديًا ليغطي مساحة زمنية كبيرة،
قد تكون بعرض الحياة كلها، مثل قصة ياسمين من نابلس المهداة الـ "فدوى طوقان".
تأتى القصة في صورة رسالة موجهة من امرأة إلى صديق ميت، هي أذن رسالة لا تتوقع
الرد، لتظل بمثابة حوار من طرف واحد. لكن السرد ينطلق من لحظة زمنية أنية، وهى
لحظة قراءتها لخبر وفاة الصديق، ليفتح باب التداعيات الحرة، التي تتقافز فوق مساحة
زمنية كبيرة عن حياة المرأة صاحبة الرسالة. وهذا الزمن الممتد يسمح بالقفز فوق كل
رؤوس الجليد البارزة من جبال المحيط السردي، قفزات سريعة متتابعة لكنها كافية ليس
لكشف الأعماق والجذور فحسب، ولكن لمجرد اختبارها. وهكذا فالقصة التي تنطلق من
الزمن الآني تعود إلى لحظة الانطلاق الأولى، نفس اللحظة الزمنية، لكن الرحلة
الجليدية داخل الذاكرة طبعت أثارها القاسية، لتنتهي القصة بسؤال لفتح فضاء جديد،
وزمن جديد، لكنه كاف لينتهي عُمر كامل. عندئذ يعلن الراوي عن حضوره، ومسائلاً نفسه
على نحو مونولوجي: " هل شعر أحد بتلك الجذبة القوية العنيفة التي أحسست بها
في شعري الأبيض الناحل".
إن هذا الحضور الزمني الساري في السرد والمتداخل في كل مستوياته يتبلور، ويتجلى بوضوح في القصة الأخيرة من مجموعة المسافر الأبدي وهى قصة "نقوش على الزمان".... لتبدو أنشودة وداع للزمن والحياة.
إرسال تعليق