سؤال النوع في ( شيطان صغير عابر) رواية: محسن عبد العزيز


بقلم:  سيد الوكيل
سؤال النوع في ( شيطان صغير عابر) رواية: محسن عبد العزيز


 بقلم: سيد الوكيل

"أمي ماتت.. ولا أحد يقول لماذا؟! وما معنى الموت؟.. الموت في القرى شيء عادي، وربما ليس له سبب.. ففي القرى كل شيء يموت حولك، من المواشي إلى الحمير، والجمال والأحصنة والكلاب، والطيور، والدجاج.. أينما تسير ترى الجثث النافقة"


هذا المقطع  المقتبس من الفصل الأول لرواية ( شيطان صغير عابر) قد يكون إرهاصًا بالدافع النفسي للتجربة كلها، فموت الأم هو رمز لفطام الذات. والرغبة في الاعتماد على النفس، والاستعداد لمواجهة العالم وحيدًا منفردًا. لهذا فبدلًا من ترسيخ مشاعر الفقد واليتم، وبدلًا من النبرة البكائية على الأم، ينقلنا الراوي بسرعة، وفي نبرة متحدية مرحة، إلى قدرته على مواجهة زوجة الأب، فهو الوحيد الذي يقدر على نطق اسمها مجردا، وكأنما يرفض دورها كأم بديلة.


تستمر النقلات بين فصول الرواية الستة، فالفصل الثاني ينقلنا سريعا إلى عالم المدرسة، ويكشف جانبًا من مهارات الطفل ( الراوي) المميزة في التعلم، وانفتاحه على عالم أوسع، يتعرف من خلاله على نماذج مختلفة من الناس الذين، منهم مدرسين وتلاميذ وشيخ المسجد، هؤلاء تركوا أثرا في صباه. إنها مرحلة اكتشاف الذات، وهي المرحلة التي تسبق المراهقة، وفيها يعلو الشغف بالآخر، وتزداد الرغبة في معرفة عالم الكبار وأسرارهم. كما يبدأ الصبي في البحث عن النموذج الذي يحب أن يكون عليه، ويتمثله أو يحاكيه فالآخر بهذه الطريقة، يصبح مرآة، يتعرف من خلالها على ذاته ويتمكن من تحديد ملامح هويته التي تميزه عن الآخرين. إنها المرحلة الأخطر في حياتنا، والأكثر قلقًا وارتباكا، بين التقاليد المجتمعية المسيطرة، والنزعات الغريزية والبدائية. إنها مرحلة بدائية  تقع بين (الهوَ) الطفولية و( الأنا العليا) بحسب سيجموند فرويد. وفيها يتشبب الصبي بنقيضين، رجال الدين ومكانتهم الاجتماعية، عفاف أبو هيف، وجسدها الفاتن المغوي. نقيضان  محاطان بالغموض، والحكايات عن الحرام والحلال، الرجولة والأنوثة، والروح والجسد.  


على هذا النحو يبدو أننا أمام بنية لسيرة ذاتية، فهذا الطفل، الذي رأيناه في أول الرواية، نستطيع أن نتتبع خطواته، وهو ينمو ويتطور ويكبر كلما تقدم السرد للأمام، متخطيا مراحل الحياة من الطفولة إلى الصبا إلى المراهقة، وهكذا إلى أن نراه شابًا، ثم رجلًا ناضجًا، بعد أن يتحرر من عالمه القديم ( القرية) ويثبت وجوده في مجتمع المدينة الأوسع والأكثر تعقيدًا، بل وفي بؤرة هي في حد ذاتها شديدة السخونة والتعقيد على ما فيها من تميز، ونعني بها: العمل الصحفي.


سؤال النوع في ( شيطان صعير عابر) رواية: محسن عبد العزيز
سؤال النوع في ( شيطان صغير عابر) رواية: محسن عبد العزيز



هنا يأتي السؤال الذي أظنه سيلح على أي قارئ، هل هذه رواية أم سيرة ذاتية؟


صحيح أن الكتاب يصنف نفسه كرواية، وصحيح أن لاشيء يلزمنا باليقين في أنها سيرة ذاتية  لكاتبها (محسن عبد العزيز) نفسه. إذ يمكن ملاحظة أن الرواية، ومنذ الفصل الرابع بدأت في التخلي عن ضمير المتكلم الذي يشير إلى الذات الراوية، واستبدلته بضمير المتكلمين فننتبه إلى ذوات عديدة، كما أن السرد نفسه، لم يعد متمركزًا حول البطل (الراوي) بل يتنقل بين شخصيات مختلفة تزاحمه البطولة، بل وتنفرد بالبطولة أحيانًا، كما رأينا في الفصل السادس، الذي يحتوي قصتين طويلتين، عن شخصيتين (رافع بيه الصحفي، والشيخ مختار الداعية) المغزى: أن الرواية تتخلص من بنيتها السير ذاتية بل وتتخلى عن راويها الأول (الطفل) بعد تجاوز طفولته ونضج، كلما تقدم السرد.  


يتعمق هذا التحول بشكل لافت بعد مغادرة السارد لمجتمع القرية البسيط إلى مجتمع القاهرة التي وصفها بمدينة الأحلام والأفلام. ليشير إلى رحلة فطام الوعي. فبعد الفطام النفسي بموت الأم الذي أفسح له المجال لمعرفة عالم القرية وشخصياتها وسلوكياتهم المختلفة، يأتي فطام الوعي بترك هذا العالم الضيق على ما فيه من حميمية، والاشتباك مع العالم الأكثر اتساعًا وتعقيدًا، إنه عالم المدينة. لدرجة أن الراوي الذي قد ودع القرية منذ زمن، وقطع شوطًا في المدينة، وخبر عالم الصحافة ودهاليزها، بل وانبرى ناقدًا لما فيها من فساد واستبداد، لا يمكنه أن ينهي الرواية، من غير نظرة أخيرة على القرية، راصدًا ما حدث فيها من تحولات، بل ومن ممارسات سياسية تابعة وهزيلة، وسلوكيات مشوهة، وعقيدة دينية ممزقة بين الحق والباطل، والتعصب والتكسب.

تأتي النهاية (الفصل الأخير) أشبه بوقفة طليلة، على الرحلة كلها، تفضح وترثي العالمين معًا، عالم القرية المتمثل في (الشيخ مختار) وعالم المدينة ممثلاً في (رافع بك) وبهذه النهاية، المكتوبة بلغة أكثر حدة ومباشرة لتعكس غضب كاتبها، تتضح معالم الحبكة السردية التي تمسك كالعصب، بالسرديات الصغيرة الموزعة على فصول الرواية التي تبدو أشبه بالقصص القصيرة أحيانًا، وبالمذكرات الشخصية في أحيان أخرى، بل وبالنظرات التسجيلية والنقدية في أحيان أخيرة. غير أن كل هذه التقلبات بين الأشكال المختلفة، لم تكن سوى حيل ووسائل للكشف عن معالم الرحلة. رحلة الذات التي بدأت بالفطام النفسي بعد موت الأم، ورحلة الوعي التي بدأت بالفطام الحيوي بمغادرة القرية.    

للقاري دائمًا حق التأويل، فقد يعتبرها سيرة ذاتية، وقد يعتبرها متتالية قصصية، ولكني، بالنظر إلى البنية التحتية العميقة المتمثلة في معنى الرحلة، والتي تمنح التجربة كلها دلالة موضوعية واحدة، لا أجد حرجًا في اعتبارها رواية. لأن الرواية أصبحت هي الشكل الحر والأكثر انفتاحًا وتعددًا، بما يناسب عصر السموات التي فتحتها العولمة والتكنولوجيا .

هل يعني هذا، أن تطور فن الرواية يرهص بموت النوع الأدبي كمحطة أخيرة في تاريخ الأدبية، تأتي بعد عبور النوع الذي مارسناه في الثمانينيات بشغف!! ومن ثم موت الرواية نفسها!!.

 إن هذه الظاهرة تنمو على مهل، ويمكن رصدها في أعمال عديدة، بدءًا من وردية ليل ( إبراهيم أصلان) التي اختلف النقاد على تصنيفها بين القصة والرواية، مرورا بالحالة دايت (سيد الوكيل) التي احتار النقاد في تصنيفها، وأخيرا.. (شيطان صغير عابر) التي تطرح علينا سؤال النوع من جديد. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

 

شيطان صغير عابرـ رواية محسن عبد العزيز ـ مركز المحروسة ـ 2016م

 

 

 


Post a Comment

أحدث أقدم