فئران طائرة بوداعة ولطف
أسامة علام


هذه مدينة أخرى غير نيويورك التى أعرفها ويعرفها الكثيرون. الحكاية كلها مرتبطة بالبشر. لا تبدأ أبدا بكل هذه المبانى التى كانت تستطيع أن تخفى وجه المدينة الأكثر توحشا فى العالم. لكنها تهبط بوداعة الى مدينة أخرى متخمة بحياة سرية لحيوانات مدهشة. سناجب، حمام، ثعالب حمراء، أرانب، راكونات وحتى فئران. مدينة لا تستطيع التعرف عليها الا بصحبة بشر غير هؤلاء الذين تراهم فى الشوارع والبيوت.

من أسابيع سكنت حمامة على حافة نافذة شقتى. هذه ليست المرة الأولى التى أصادق فيها حمامة. فى العادة أفرح بجوار الحمام. لكنى أترك للجيران الأحدث فسحتهم بلا مضايقات. فكائنات تسكن الفضاء بالتأكيد أكثر حكمة منى. أنا الأرضى بامتياز.

حمام نيويورك ليس ككل الحمام الذى رأيته فى حياتى. تقول التقارير أنه ليس من السكان الأصلين لأمريكا. أحضره المهاجرين الفرنسين معهم من الشرق الأوسط كمصدر للبروتين مع هجرتهم الأولى لنيويورك. ومثل كل المهاجرين تكاثر سريعا واحتل سماء المدينة. وكقدر المهاجرين كرهه أهل نيويورك فسموه الفئران الطائرة. 

بارعين للغاية سكان نيويورك فى اضطهاد بعضهم البعض. الايطاليون سموهم هامستر، ذو البشرة السوداء سموهم عبيد، أهل الجنوب لقبوهم بأصحاب الرقبة الحمراء والحمام فئران طائرة.

ولأول مرة من شهور أستيقظ على صوت هديل حمامة. كان الحدث يدعوا لابتسامة مستحقة. بعد أن اعتدت الاستيقاظ على أصوات عربات الاسعاف أو الاطفاء أو الدرجات البخارية المزعجة. فقررت أن أعد قهوتى على صوت مارسيل خليفة يغنى، يطير الحمام... يحط الحمام. رائحة القهوة تملأ المكان وحمامة رقيقة تسكن على طرف نافذتى. أى جمال يستطيع أن يهبه لى الصباح أكثر من ذلك.

قطع حالة السلام هذه صوت جرس الباب المزعج. انها السادسة صباحا وأنا بالتأكيد لا أنتظر أحد. نظرت لوجهى فى المرآة لأتأكد أننى حاضر لمقابلة أحدهم. لابد أنه أحد الجيران فى هذا المبنى العملاق. ربما حسناء تريد مساعدة. هكذا تخيلت استمرار الأجواء المفرحة لصباحى السعيد. لكنى ما أن فتحت الباب حتى قابلتنى أغرب مفاجأة يمكن تخيلها. أمام الباب مباشرة هندى أحمر بكامل ملابسه التقليدية. تاج من ريش الطويل يزين رأسه مرتديا معطفا من فراء الثعالب تدلى منه قطع فراء الأرانب. وأمام نظرتى الذاهلة عبر باب الشقة، متجها مباشرة الى حجرة نومى. 

أغلقت خلفه باب الشقة وأنا لا أجد ما أتحدث به. تتبعته. وبدون أن ينتظر حضورى فتح  النافذة ومد يده خارجها فقفزت عليها الحمامة وزامت بهديل لم أسمع مثله. ساعتها فقط ابتسم الهندى الأحمر وقربها من وجهه فوضعت الحمامة رأسها على خده. 

صباح الخير....تحدث بانجليزية سليمة .....أعتذر عن اقتحامى بيتك دون سابق معرفة. كنت قلق للغاية على يوركا. يوركا مهمة جدا بالنسبة لى. ما رأيك فى أن تقدم لى فنجان من القهوة ونتحدث كأخين فى الانسانية.
كنت أغرق فى الحيرة. لكنها المرة الأولى التى أرى فيها أحد السكان الأصليين بشكل حقيقى ومباشر. رأيتهم كتماثيل بملابسهم المميزة عشرات المرات فى المتاحف والأفلام الأمريكية. أما أن أرى أحدهم بتاج من الريش وحذاء من جلد الأرانب فهذه حكاية لا يمكن تفويتها.

قدمت القهوة للرجل الذى لا أعرفه. مستمتعا بهذا الحضور المبهر لشخص يدعونى بأخيه فى الانسانية، يحمل حمامة مهمة لا تريد أن يفارق رأسها خده. ابتسم، فابتسمت منتظرا أن يقدم لى تفسيرا ما عن أهمية يوركا وعن سبب زيارته المفاجأة فى السادسة صباحا بزيه العجيب هذا. ( يوركا لا تختلف فى وجهة نظرى عن الألاف من الحمام الذى أراه يوميا فى نيويورك وتلطخ مخلفاته زجاج سيارتى). 

وبعد الكثير من الصمت ورشف القهوة الساخنة جدا بلا صوت تحدث.
أسمى مايوشكا وهى يعنى بلغتنا المتتبع للحمام. أعيش فى مستعمر صغيرة لأهلى على بعد أميال من المدينة التى لا تحبنا. يوركا غاضبة لسبب لا أفهمه لكنها فى النهاية اختارتك أنت لسبب لا أعرفه أيضا. من فضلك لا تزعجها. كما ترى هى لطيفة جدا، حساسة للغاية وفقدانها يعنى فقدان قطيع كامل من الحمام النفيس لمجتمعنا. هى وقطيعها ليسوا مجرد حمائم. أنهم أخوة لنا. وهو أمر معقد جدا لكى أفسره لك. ولكنى أستأذنك بكل اللطف أن لا تضايقها. أيام وستخف حده غضبها وستعود لنا بالتأكيد. عليك فقد أن تتعلم منها لو استطعت. تبدو لى شخص يستطيع فهم حكمة اختيارها لك. 
وكما حضر بدون تفسير واضح رحل أيضا بدون تفسير واضح.

أنتقلت حديثا الى هذه الشقة باللونج أيلاند. وهى المنطقة الوحيدة التى لاتزال تحافظ على بكارتها بنيويورك. مسافة ساعة ونصف تفصلها عن مانهاتن الشهيرة وأقل قليلا عن كوينز وبروكلين الممتلئتان حد التخمة بالسكان. شبه جزيرة كلسان طويل أخضر بكثافة واقع فى قلب الأطلنطى. سمحت لى اللونج أيلاند وحدائقها وغاباتها الصغيرة ونسيم المحيط بهدوء ومتعة لم أعرفهما فى قلب ضجيج نيويورك. أصبحت لا أعانى من أرق النوم المزمن. والأغرب أصبحت أستمتع بنزهات طويلة وحدى بلا هدف سوى المشى وسط الطبيعة. وتوقفت تقريبا عن الذهاب الى المقاهى بالحى العربى فى أستوريا بكوينز.

اليوم أثناء نزهتى بغابة صغيرة تبعد ربع ساعة عن شقتى اقترب منى لأول مرة أرنب برى صغير. أدهشنى الأمر. فالأرانب البرية لا تقترب أبدا من البشر. لا تثق بهم وهو أمر مفهوم. كنت أجلس على مقعد صغير بالغابة أفكر فى يوركا والشاب الذى زارنى اليوم صباحا. فجأة شعرت بشيئ فوق قدمى اليسرى. نظرت فكان أرنب أبيض صغير. مددت يدى وربت على رأسه. فاستكان لحركة أصابعى فوق فرائه الناعم. نظر الى بعيونه البريئة فشعرت بجمال لا يوصف. فجأه أنطلق يجرى كسهم واختفى. وعندما رفعت رأسى للجهة المقابلة كان هناك ثعلب أحمر ينظر لنا. ثعلب أحمر؟ هكذا فى وسط ضوء شمس النهار. أمر لا يمكن تصديقه. قلت لنفسى.

عدت الى البيت جائعا ومتعبا كالعادة بعد يوم عمل طويل. اتجهت مباشرة الى الثلاجه. وضعت الوجبة المعدة سلفا فى الميكرويف. وقررت التوجه لأخذ دش سريع. تذكرت يوركا فذهبت لالقاء نظرة سريعة عليها. لكنها لم تكن موجودة. هززت رأسى وكأن الأمر لا يعنينى. أخذت الدش السريع وأكلت وجبتى التى لا طعم لها لكنها كافية لاسكات صراخ معدتى. تمددت أمام التليفزيون أشاهد مسلسل أمريكى أتابعه. لكن بعد ساعات ذهبت للاطمئنان على الحمامة. كان العش الصغير فارغا. فقررت النوم بلا الكثير من التفكير فى مصير الحمامة.

فى نومى حلمت بأننى مايوشكا المعتنى بالحمائم. كنت أرتدى ملابسه وأمشى فى غابة محاط بعشرات الحمائم. على كتفى يوركا تلصق رأسها بوجهى. لكنى فى الحلم كنت أنا أسامة علام. الطبيب البيطرى المصرى الذى يعيش بنيويورك. أعرف القصة كما حدثت تماما. أعرف أيضا أننى مهاجر كحمائم نيويورك. الغابة التى أمشى فيها مع الحمام الذى يحيطنى مليئة ببشر يبتسمون لى. لكنى أنظر لقلوبهم فأرها تكذب. ربما بسبب بشرتى أو لكنتى الانجليزية أو لأننى لا أستحق ما أنا عليه. الغابة أيضا مليئة بحيوانات متحابة. سناجب وغزلان و راكونات وحتى فئران. كنت وحدى بين عالمين أعلم من خلال حلمى أنهما غير حقيقين. لكنى أكمل السير وحيدا مستئنسا بالصحبة الغريبة من البشر والحيوانات. فجأة طارت يوركا بعيدا فاختفى الحيوانات والبشر من حلمى.

أستيقظت من حلمى بعد ضياع يوركا مفزوعا. كنت أبكى ودموعى تبلل وسادتى. الليل مضى أكثر من نصفه. وقفت فى النافذة أنظر الى عش يوركا الفارغ. أضواء نيويورك تسطع متلئلة من بعيد. الصمت يلف العالم. ونسيم لطيف يهب من ناحية المحيط الواسع. أغلقت النافذة التى كان عليها عش يوركا. متمنيا أن أستيقظ فى الغد على صوت هديلها أو صوت جرس باب شقتى فى السادسة صباحا، ليدخل شخص ينادينى بأخيه فى الانسانية.

ورغم أن ذلك لم يحدث أبدا. الا أننى اكتسبت عادة النظر الدائم للسماء باحثا عن الحمام والابتسام. الأمر الأغرب الذى لا أجد له تفسيرا، هو أن الأرانب والغزلان العابرة وحتى السناجب لم يعد يجفلها أبدا حضورى البشرى فأستمتع بملامستهم دون خوف منى أو منهم. وأمنت أخيرا بأن للمدن الكبيرة القاسية حياة أخرى تستطيع أن تهدى لك حكاية تدفئ قلبك.

أسامة علام – نيويورك – 6 يوليو 2024

Post a Comment

أحدث أقدم