حوار من طرف واحد
شعر بندر عبد الحميد
بقلم: سيد الوكيل
في قصائد ( بندر عبد
الحميد ) روح محاصرة، تهفو طوال الوقت إلى الخلاص من أسرها، تحلم بالحرية الأولى،
تلك التي لم نعد نجدها في عالم مكبل بالقوانين والشعارات الزائفة، ثمة ضمير بدائي
يصرخ في القصيدة، ويدين الإنسان الذي يبدو (في الحياة العارية هو المقنع الوحيد)
حوار من طرف واحد،
الذي صدر عام( 2002م) هو آخر ديوان لبندر قبل رحيله عن عالمنا، والذي ينتبه لعنوان
الديوان، ويعكف على قراءته، يشعر في قصائده بثقل الحياة، وحصارها الطاغي على
الوجود الإنساني. فنشعر وكأنما بندر الشاعر السوري، ينعي نفسه قبل الرحيل.
إن أول قصائد
الديوان، تعلن عن استراتيجية الخطاب الشعري بوضوح، بدءاً من عنوان القصيدة (أرض
مزدحمة بالعيون)، وحيث العيون تتشكل في صور مختلفة، عيون العازلين على الأحبة،
عيون المراصد الدقيقة، وعيون حاملات الطائرات في المحيطات، وعيون القتلة
المحترفين، إنه عالم مكتظ بالعيون، تترصد لعيون أخرى، وتحاصرها في غفلة منها.
يقول بندر عبد
الحميد:
إننا محاصرون بخطوط الرؤية
بين عين النملة
الذكية، وعين المرصد العملاق،
وفي الماضي البعيد، كان التفاح يتساقط بنظرة
سريعة ساحرة
وفي الفضاء الواسع، أو
في البحار القديمة
في السفن الغارقة، أو
في حاملات الطائرات
عيون لا حصر لها .
في ديوان (حوار من
طرف واحد) يتجسد معنى العزلة، ويلوح معنى الحصار في كل سطر تقريبا، ورغم ذلك فثمة
بساطة تسرب إليك روح متفائلة، تشف عنها اللغة التي تحقق شعريتها بعيداً عن الغموض،
والمجاز الملغز المفتعل. هنا ما يمكن أن نسميه بشعرية الكلام، لأن الكلام مختلف عن
اللغة، فاللغة تستدعى نظاماً محكما ومثقلاً بتراث هائل من البلاغة، فيما الكلام
أكثر تحرراً، وقدرة على مواكبة الخطاب اليومي المنتج في أطر ثقافية أكثر هامشية،
وأكثر تأثيراً واشتباكاً بحياة الناس .
فسد الهواء يا والت
ويتمان.
فسدت الأنهار
والجبال، والبحيرات، والصحارى، والغابات.
والمدن التي كتبتُ
عنها.
ونحن محاصرون
بالأفيون والإيدز والتلفزيون.
والتفرقة العنصرية،
والجنسية / والتعذيب بالكهرباء / وإطارات السيارات / وسباق التسلح / وكوارث
الطبيعة الأم / والمفاعلات النووية/ والتعصب الأعمى/ والوجبات المسمومة لكل
العائلات السعيدة.
إن الشعرية التي
تمثلها اللغة لا تتعالى على الواقع الذي أصبح يومياً يطالعنا كل صباح بعالم شديد
الصخب والعنف، والقبح. إنها ذات قادرة على تمثل أكثر المشاعر وضوحاً في عالم بات
مختلفاً كل الاختلاف ربما عن بضع سنوات مضت، هذا الاختلاف الذي يهدد الوجود
الإنساني، فيستدعى بالضرورة لغة مختلفة أقرب إلى البوح أحياناً، وإلى الصراخ في
أحيان أخر.
في مقابل الحاضر
المثير للرعب، يبدو الماضي جميلاً، ويحضر من منطق الحلم والأسطورة، والحياة
البدائية. فيقول:
نحن أبناء الرعاة
الخرافيين
والنساء البرونزيات/
كنا نعيش في الطبيعة بانسجام تام
مع النسر والأفعى.
نقضم التفاح الوحشي،
ونلبس أوراق التوت.
بين الغابات الخيالية
والكهوف.
ولكن دعاة الحرية خربوا
حياتنا
بالخطابات والقوانين.
الحلم هو داعي
التوازن الممكن في واقع يستحيل التوافق معه، وتنعدم فيه فرص التواصل الإنساني،
ليمضى الحوار من طرف واحد دائماً، في الأحلام وحدها يتواصل الناس، في الأحلام
وحدها تتحقق الأحلام، هكذا يبقى كل شئ بعيداً عن حدود البشر والواقع، ويبقى
المستقبل على هذا النحو رعباً مخبوءًا، يتوق للرعب حاضر.
الطيور تحوّم فوق
القلعة .
منذ أيام قليلة /
تنتظر شيئاً ما .
في العيد الذهبي
للاستقلال
المدعوون ينفضون
الغبار عن القبعات والأوسمة.
أمام المرايا
المحدبة.
قبل الاحتفال الكبير
لا أحد يعرف الموعد
الدقيق للمذبحة القادمة
سوى الطيور.
يضم ديوان
حوار من طرف واحد إحدى عشرة قصيدة
يسترجع بعضها أصداء بعض، حتى ليبدو الديوان كله دفقة واحدة من القلق الشعري
تجاه الواقع.
الديوان من إصدارات
دار المدى بدمشق .
دائمًا هناك حقيبة
شبه فارغة
في سَفَر غامض
قميص وأقلام ملونة
رسائل حب وأوراق بيضاء
وأدوات حلاقة
جواز سفر
يصدر بصعوبة دائمًا
وعلى ارتفاعات عالية
فوق ممرَّات النسور
يمكن أن يحدث حب
من نظرة خاطفة
وأنا أغرف الثلج من الغيوم
وأراقب السفن الحربية
والصحون الطائرة
وليس معي سوى أوراق
وقميص مخطط
وأطول قبلة في التاريخ
إرسال تعليق