اللجوء إلى الماضي (كأنك حد تاني) لمقاومة الحاضر 


خلق الدهشة من العادي في المجموعة القصصية "مثل واحد آخر" للكاتب سيد الوكيل

 

اللجوء إلى الماضي -(كأنك حد تاني)- لمقاومة الحاضر
 اللجوء إلى الماضي -(كأنك حد تاني)- لمقاومة الحاضر 


هاني منسي

     مجموعة قصص "مثل واحد آخر" للكاتب سيد الوكيل والصادرة عن دار ميتا بوك للطباعة والنشر، الطبعة الأولى عام 2022، تتكون من أربعة أقسام "ضفاف الحياة البعيدة" ثم قسم بعنوان "همس الأرواح" و"انفعالات ليست لنتالي ساروت" ثم يختتمها بقسم عنوانه "حكايات عابرة" لتحتوي جميعها على أثنين وعشرين قصة يتراوح طول نصوصها من أثنى عشر صفحة تقريبا إلى عدة أسطر، كما جاءت أغلب عناوين القصص نكرة لتؤكد فكرة التعميم خصوصا مع تلك الحالة الإنسانية الشفيفة التي تتحدث عنها النصوص في المجموعة، وجاء عنوان المجموعة مبتورًا غامضًا يثير التساؤل، من هو الذي مثل واحد آخر، ومثله في ماذا، وكيف يكون الشخص مثل واحد آخر، ولماذا؟ تحاول النصوص الإجابة على هذه التساؤلات عن طريق الإحالة وليس التقرير.


اللجوء إلى الماضي -(كأنك حد تاني)- لمقاومة الحاضر


      يسيطر على أجواء القصص النوستالجيا لأيام الطفولة والصبا والشباب والمقارنة الحاضرة دائما بين الآن وهنا والحنين لما كان، ربما يظهر جزء كبير من السيرة الذاتية للكاتب نفسه بمثابة  "طبطبة" على الروح من خلال اللجوء إلى الماضي -(كأنه حد تاني)- لمقاومة الحاضر، فيقيم السارد في أغلب القصص حوارا مع النفس وتربيت على الروح، وأحيانا تطعيم القصص بأغنيات بعينها بنت الزمان والمكان ومرتبطة بنفس وروح ووجدان أبطالها، وخلقت ارتباطات شرطية لم يدركها الأبطال وهم في قلب الحدث بل تم الكشف عنها عن طريق الاستدعاء الحميمي للأحداث مما يؤكد وبقوة الكتابة العلاجية، وأننا لا نستطيع أن ندرك المشهد بالكامل إلا أن نكون خارجه وعلى بعد مناسب يسمح بوضوح الرؤية ويحقق الموضوعية بعيدا عن أي تأثر أو انفعال.


      في قصة "شباك حبيبي"، نجد وعي البطل ومن خلفه الكاتب هيئ له إن كلمات الأغنية التي تقول " دوار حبيبي يا عيني" وكان يغنيها "شباك حبيبي يا عيني" لأنه ارتبط بالنظر بلهفة وشوق إلى شباك "كوثر" أثناء سماع الأغنية، فلم يكن يهمه "دوار حبيبي" في شيء، فما يشغل باله هو تلك الفتحة التي تطل منها، ويرى عالمه من خلال النظر إليها أما الدوار يحجب هذا العالم فينكره في داخله ويرفضه اللاوعي ويعدل الأغنية فيتصدر الشباك ويختفي الدوار من أغنيته، كما تأتي مرحلة كشف أخرى لم تدركها الشخصية من قبل وهو أن هناك ارتباطا شرطيا يحدث، كلما نظر إلى شباك الحبيبة شعر بالعطش، وهنا تربط الشخصية العطش المعنوي في الأغنية لرؤية كوثر إلى العطش المادي الذي عانى منه الجنود المصريين التائهين في جبال اليمن، حيث تذكر حكايات الأب " كنا نموت من العطش" ماتوا من العطش للماء، وربما ماتوا قبلها من عطش العودة للبيوت والشبابيك.


     هناك سمة في أغلب النصوص وهي دائرية السرد، ففي قصة شباك حبيبي تبدأ القصة بفرد الأمن النائم وتنتهي به، يبدأ الكاتب بموقف آني ويرجع بفلاش باك للمواقف المؤثرة في حياته ويربط الوجداني بالمادي بنعومة، كما يمزج الإنساني والذاتي بالاجتماعي والوطني ثم يعود إلى الحاضر مؤكدا إن أمة بلا ذاكرة هي أمة بلا تاريخ وإنسان بلا ذاكرة هو مجرد عدم ولم يأت على هذه الأرض بعد.


          في القسم الثاني من المجموعة "همس الأرواح" هناك تصور للكاتب عن عالم الأرواح، وكيف تكون أرواحنا بعد أن تفارق الجسد، وكيف تنظر لنا أرواح الراحلين، في قصة " كمزحة خفيفة تصعد الروح" يقول سيد الوكيل " إنه تمرين بسيط يعتمد على التنفس بعمق، مع غلق العينين وتسمح لروحك بالخروج من الجسد، فقد عليك أن تضع تصورًا لروحك وهي تصعد بحيث تستطيع أن تراها وتراك، تحادثها وتحدثك" ذكرني ذلك بما يحكى عن وفاة محمود المليجي ربما بسبب اندماجه الشديد في مشهد من فيلم " أيوب" يقوم فيه بدور شخص يحتضر، هيئ نفسه لخروج الروح من الجسد، فمات بالفعل في هذا المشهد أو بعده بقليل وبهذا التصور لصعود الروح مهد للنص الذي يليه مباشرة بعنوان "كل ما عليك، أن تموت"  وبإهداء في عنوانه الفرعي " إلى روح سيد عبدالخالق، الذي جاء خفيفًا ومضى خفيفًا"، في هذه القصة لا نستطيع أن نجزم أن ما حدث للسارد حدث في الواقع أم في الحلم أم ما تراه الروح التي صعدت من الجسد، فالبطل في قبو وتمتد يد إليه بألبوم صور لوجوه لا يعرفها، فيفكر أن يتمرد ويدس وجه مجدي الجابري لكنه يتراجع " علي تجنب تزييف الأحلام بتاعة ربنا، أنا أتحدث عن موتى، وللموت حرمة" ثم يتذكر الصورة التي في درج مكتبه -كما ذكر في الهامش أسفل القصة- والتي تضم إبراهيم أصلان وجار النبي الحلو وسيد عبدالخالق ومعهم الكاتب نفسه، بينما الصورة التي رآها في الحلم بها سيد عبد الخالق فقط وهو يتحرك لخارج الكادر، وهنا يأتي السؤال السارد " هل هذا دليل على أنني حي؟" ليفتح باب التأويلات كما ذكرت سابقا.


اللجوء إلى الماضي -(كأنك حد تاني)- لمقاومة الحاضر


        هناك تناص مع آية من الكتاب المقدس " إيلي .. إيلي.. لماذا شبقتني"، قالها السيد المسيح وقت  صعود الروح من الجسد، والذي تفسيرها إلهي .. إلهي .. لماذا تركتني؟ وكما أن موت المسيح في العقيدة المسيحية هو هزيمة الموت بالموت ويقال في لحن القيامة " بالموت داس الموت" وهنا نجد الكاتب يقول " إذا أردت أن تتخلص من الموت، فكل ما عليك هو أن تموت."


     هناك سمة في أغلب القصص وهي خلق الدهشة من العادي والبسيط، ففي القصة السابقة جعل من صورة فوتوغرافية هذا العالم الرحب والطرح الفلسفي وتصورات للحياة والموت والجسد والروح، وفي قصة "مثل واحد آخر" والتي تحمل عنوان المجموعة جعل من عطل في كالون باب الشقة متكأ لخلق عالم درامي متماسك، كما إنه جعل السارد يقفز داخل الأحداث ويصبح شخصية درامية داخل لعبة السرد، فبالرغم إنه هو الراوي العليم والإله - كما زعم- الذي أعلن وقرر موت البطل في صباح اليوم التالي على سريره، إلا إنه تعاطف معه وتراجع عن فكرة الموت ولكن وجد نفسه منساقا لرغبة الجار في تعجيل موت البطل ولم يستطع أن يعدل من ذلك، فنجده يعلن كراهيته للجار السلفي وتعاطفه مع البطل، كما عمل على إشراك المتلقي وانغماسه معه في ورطته واستمالة القارئ للتفاعل والتفكير في حلول معه، وجعله شريك معه في عملية الكتابة، فنجده يكرر أكثر من مرة كلمة " بطلنا" و "بطل قصتنا هذه"، فيقول في موقف "بطلنا لم يدرك أن جاره فعل ذلك بقصد"، وفي موقف آخر يظهر الراوي العليم قوي وواثق يقول" أنا الراوي العليم، أعرف ، هذا المصباح سيظل مطفئا للأبد" ومرة يظهر ضعيفا وكاره للسلفي، ومرة يظهر في حيرة ومشتت الذهن ليختار مكان للبطل ليبيت فيه كي يموت في الصباح كما خطط له، ويحاول أن يجد حلولا بتغيير المكان، وتعديل طفيف في الأحداث، يطرح مجموعة احتمالات، هل يموت على السلم أم على مقعد هادئ في مقهى المعاهدة أم على كنبة صديقه؟ واستبعد أن يموت على سرير عشيقته القديمة لأن زوجها (سلم الشفت الآن).


         هنا نحن أمام قصة داخل قصة مثل مسرح داخل مسرح، حيث هناك خط درامي للراوي العليم  وورطته وتنافسه مع شخصية الجار السلفي في وضع نهاية لبطل القصة وخط آخر هو البطل الذي يفترض إنه سيموت على سريره، الجميع يعرف ذلك - بما فيهم القراء - ما عدا البطل نفسه، والجار السلفي يريد أن يعجل من موت البطل، هناك أيضا ميتا سرد، الكتابة عن الكتابة، خلق الشخصيات والراوي، والزمان والمكان ولحظة التنوير والكشف...إلخ، فالكاتب هنا استطاع أن يستحوذ على تفكير القارئ وجعله يفكر معه في حلول للخروج من الورطة، في الوقت نفسه جعل ذهن القارئ لا يشك لحظة في إنها قصة ويتعامل معها كأنها الواقع ذاته، ولا يتعاطف مع البطل لأنه سيموت بل ما يشغله هو إيجاد المكان اللائق للموت.


      نجح سيد الوكيل أن يمرر لنا الموت، الحدث الجلل، ذلك الوحش الكاسر، واستأنسه، وجعلنا معه نتجاوزه كأي حدث عادي، وأن مسألة فتح الكالون للبطل - لكي يموت- أكثر أهمية من الموت نفسه، هكذا ببساطة كما جاء في عنوان القصة السابقة "كل ما عليك، أن تموت".


       يستخدم الكاتب في هذه القصة الاستباق flash forward فمثلا في نهاية القصة حين يتحدث عن الجار المنافس له " سيهدم سلطتي أنا الراوي العليم، سيبتسم في وجه بطلي المسكين، سيمد يده يده ليأخذ المفتاح، وبطلي سيعطيه له بلا تردد، وأمام عيني سيرشق المفتاح في الثقب ويحركه فينفتح الباب" يحدث كل هذا رغمًا عن أنف الراوي العليم الذي كان مستعدًا لتأجيل موت البطل لكنه لم يستطع وقرر النهاية أحد الشخصيات السيئة، ويتضح لنا في النهاية أن الراوي خدعنا وإنه ليس راويا عليما بل وليس راويا من الأساس إنما هو نفسه شخصية في متن الدراما، فمثلما يحاول البطل فتح الباب مثل واحد آخر غيره، يحاول الراوي هنا أن يكتب عن نفسه أيضًا مثل راوٍ آخر غيره.


      تبدأ المجموعة بقصة "قصة حب صوفي"، هناك ربط بين مهنة البترونيست الحريمي والتفصيل عموما ومهنة الكتابة حيث الاهتمام بالتفاصيل - من التفصيل- والخلق والإبداع و نصب أعينهما على المتلقي (سواء كان مرتديا في تفصيل الأزياء أو قارئا في الكتابة) كما يقال دائمًا لمدح الأزياء على الجسد "الفستان هينطق عليكي" كما تنطق الكلمات، وكما يبدأ البترونيست بتحسس ملمس القماش عندما يخرجه من لفافته وينتهي بتأمله على جسد الزبونة ينطق بالحياة كذلك الإبداع في الكتابة حيث يهتم الكاتب بالتفاصيل الدقيقة والأبعاد الثلاثة للشخصية كي تخرج للمتلقي كشخصيات من لحم ودم.


      تبدأ القصة والبطل أمام بحر صامت بلا موج على مقعد متحرك وكررها أكثر من مرة للامعان في العجز للتمهيد للمفارقة في النهاية عندما تذكر صباه وعنفوان مشاعره ناحية صوفي، دفقات هرمونية اثارت دهشته لتؤكد الجملة التي تم زرعها في بداية القصة وأيضا انتهت بها "إن هذه المهنة تصنع من خياله وجودا جماليا مؤكدا، أليس هذا ما تفعله الكتابة بنا." كما يقول "أدرك أن حكايات الجمال الأولى لم تهجرني بعد، كل شيء يحضر كأنه يحدث الآن" للتأكيد على أهمية الخيال والإبداع، ولكم في الخيال حياة.


       لم يفوت الفرصة للإشادة بإحدى رائدات الأدب المصري وهي صوفي عبدالله (1925-2003) واقتبس مفتتح قصتها بعنوان " عاصفة الصيف" كنوع من الاحتفاء والتقدير والعرفان، وقد اعد عنها سيد الوكيل ملفا خاصا على موقع صدى ذاكرة القصة المصرية جاء فيها " في طفولتنا وقائع وشخصيات لا يمكننا نسيانها مهما كبرنا هي في الواقع علامات أسهمت في تشكيل هويتنا... ومن أكثر هذه الشخصيات التي لعبت هذا الدور في تشكيل هويتي: السيدة صوفي عبدالله."


      نوستالجيا الحب الأول لا تنسى، التفاصيل كما في تفصيل الأزياء، مهمة، اهتم البترونيست بوجود المرآة لمراقبة وجه الزبونة، واهتم الصبي بالصعود إلى السندرة لمراقبة الملكة المصرية السمراء، الخياطة صوفي منير، هناك أيضا نوع من التوثيق للزمان والمكان من خلال الاحالات فنجد هناك حذاء باتا، قصة صوفي عبد الله وجزء من مفتتح القصة، هناك الجوب القصير ودير الراعي الصالح وكوكاكولا ومجلة elle.


        هناك ربط بين صوفي عبد الله بقصتها وصوفي منير الخياطة المسيحية التي انتهى بها المطاف -ربما - إلى الذهاب إلى الدير، ليس هناك يقين فقط هناك احتمالات، هل احبها الوالد كم احبها البطل نفسه؟ فكانت "قصة حب صوفي" تحتمل الصوفية في الحب كما تحتمل صوفي اسم الخياطة صوفي منير واسم الكاتبة صوفي عبد الله وقصة حب صوفي منير الصوفية ربما للوالد وربما للبطل نفسه، كما أن هناك دائرية في السرد حيث يبدأ الكاتب من نقطه وينتهي عند نفس النقطة لتؤكد على المفارقة أن الذكريات لا تزال حية تنبض بهذا الشعور الجارف رغم وهن الجسد القابع على كرسي متحرك.


        في قصه حجره الأشياء المنسية يبدأ الكاتب بالتأكيد على إنه ترك شيئا ما، كما يستخدم الفلاش باك لمراحل الطفولة والشباب، يستخدم أيضا الاستباق flash forward عندما يقول "في تلك اللحظة سأضع سجائري وقلمي في جيب الجاكت الداخلي..." ويطرح  احتمالات عن هذا الشيء الذي تركه هل هو صوره هدى كمال ام قداحة أبيه الرونسون، ام الشيك الذي جاء من صديقه محمد عبد العال وانتهت صلاحيته ووضعه في غلاف امرأة حزينة وربما تبكي وهنا جاءت (الحزينة والباكية) على غلاف الكتاب كنوع من التنبؤ بموت محمد عبد العال لأنه تذكر قصاصة من جريدة تحمل نعيه ولهذا ربما يكون نسي اسمه وشكل الكتاب لرفضه الداخلي لفكرة موت صديقه، لنكتشف في النهاية إن لا شيء تركه هناك غير 30 عاما من عمره لم يعد لها وجود الآن، وأثناء البحث عن الشيء المفقود، يرى البطل الطفل الذي كانه، والذي اهداه المجموعة القصصية " إلى الصبي الذي قرأ الشوارع والوجوه..سيد الوكيل"، ويرى صورة له قبل ان يطلق لحيته وكأنه يمهد لقصة "مثل واحد اخر". 


        هناك حالة ضبابية مقصودة من الكاتب، هل البطل ميت بالفعل أم هو يعيش في حالة إنكار للموت عندما يقول حانقا " لفائف كتان؟ أنا لم أمت بعد." فيريد ان يثبت ان الجاكت الكتان -الكفن- رمز الموت هذا لا يخصه لكنه يفشل في اثبات ذلك وبالفعل يتضح أن الجاكت يخصه وبه اشيائه، فخرج مسرعا يغمره إحساس عميق بالعدم، كما إنه لم يجد صورة لهدى كمال، ربما لأن هدى كمال مازالت على قيد الحياة، وأن حجرة الأشياء المنسية مثل القبو في قصص أخرى في نفس المجموعة ترمز إلى الموت، طما أن روح البطل تطوف المكان ولا أحد يراها أو يشعر بوجودها عدا الحارس الذي يمثل هنا الملاك للربط بين العالمين المادي والروحي.


       هناك صور لمراحل مختلفة في حياته فيظهر في حديقة الميريلاند مع هدى كمال ويرى في الفناء يرى نفسه في مرحله الجامعة وتعود ويعود الشاب البطل يرتدي نفس الجاكيت الكتان ويبدو انهم يقومون بعرض مسرحي ينتهي بالتصفيق، وتنتهي القصة بطفل المريلاند الذي يقف خارج المشهد، ويبكي وحيدا بالنيابة عن البطل الذي يبكي على عمره الذي شعر إنه سرق منه فجأة.


في القسم الأخير بعنوان "حكايات عابرة" هناك مجموعة من القصص القصيرة والقصيرة جدا، في الغالب العنوان نكرة مفرد أو مضاف ومضاف إليه، القصص في هذا القسم تكثيف للحالة الشعورية للكاتب في القصص المشبعة في القسم الأول والثاني والثالث.


        ففي قصة بعنوان "انتفاضة"، يبدأ الكاتب بمحاولة القبض على طائر هرب من القفص، ولأن زوجته لا تحب الفوضى والثورات، ثم نكتشف إنه حلم، ويستيقظ البطل ليجد نفسه مسجون في زنزانة، في كلمات بسيطة عبر عن أحلام الحرية المكبوتة واسقاط على الفوضى والثورات.


        وفي قصة بعنوان "موعد غرامي" يجلس البطل منتظرا حبيبته ولم تأتي - كما فعلت ننس في آخر قصة في المجموعة وكما فعلت صوفي منير بالذهاب إلى الدير، وتأتي المفارقة في النهاية بصوت الجرسون: تشرب إيه يا جدو، ربما يشعر حينها أنه كبر فجأة وتمت سرقة عمره كما في قصة حجرة الأشياء المنسية وقصة شباك حبيبي ووحيد وبائس مثل شخصية بطل مثل واحد آخر. 


       وفي قصة "بيت" في جمل قصيرة استطاع الكاتب أن يعبر عن الوحدة في آخر العمر، هناك دائما تعليمات من الخادمة ثم تتركه لوحدته وتسرع لمشاهدة مسلسل تلفزيوني عن شخص آخر وحيد مثله، فيظهر هو مثل واحد آخر كما جاء في عنوان المجموعة.


         في قصة "كبرياء" يختصر الرجل العجوز كل أحلامه "أن تموت وأنت ماشي على رجليك"، ولأننا نحلم بما ينقصنا، فيطلب العجوز من ابنه أن يساعده لدخول الحمام، ويعود بنا إلى نفس المعنى في قصة كل ما عليك، أن تموت، فالموت ليس أسوأ الأشياء، ونفس المعنى في قصة كمزحة خفيفة تصعد الروح، وقصة مثل واحد آخر، حيث جعلنا الكاتب نتجاوز فكرة الموت ونفكر معه في فتح الكالون لكي يموت مستريحا في سريره.


       ينهي سيد الوكيل مجموعته "مثل واحد آخر" بالعامية المصرية بعنوان "حكاية ننس" سيلا من تدفق المشاعر الشفيفة والعفوية ممزوجا بخفة الظل والروح المصرية الخالصة ننس هذه الحروف الأولى من اسمها الحقيقي، نادية نبيل سند، وربما كانت جانب آخر من حياة الخياطة المسيحية صوفي منير، علاقة حب شفيفة بين مسلم ومسيحية، يفرق اختلاف الدين بينهما، تعترف بحبها له في اللقاء الأخير لهما وتبرر رفضها " لو كان ربنا رايد إننا نكون لبعض كنا طلعنا من دين واحد" فيرد نبيل البطل بخفة ظل تضمر سخرية من القدر " بس مكنتش عارف تقصد ربنا بتاعها لا بتاعي" بعد انقطاع مقابلاتهم كان يدور حول بيتهم مثل المجنون ويزور كنيسة سانت تريزا ويولع شمع ويقول لها متوسلا " والمصحف الشريف أنا باحب ننس." 


     تتسم المجموعة بسلاسة اللفظ والمعنى، البعد عن الألفاظ المقعرة وزخرفة الأسلوب، والتركيز على فنيات العمل وجمالياته ليخرج لوحة متناسقة معبرة بصدق فني عن المعنى الذي يريده بالضبط، يمتلك براعة في استخدام اللفظة المناسبة بعينها ولا تصلح مكانها لفظة أخرى مهما كانت قريبة في المعنى، لديه قدرة هائلة على رصد التفاصيل بدقة شديدة، ووصف المشاعر الداخلية للأشخاص ويقدمها شخصيات من لحم ودم، تخطئ وتصيب.


      تتسم الكتابة بالغيرية، لتقديم العرفان والامتنان للآخر والولاء لأصدقاء راحلين او أحياء يرزقون، كما نجح سيد الوكيل في خلق الدهشة من المستهلك واليومي والمعتاد، في هذه المجموعة - وكعادته - لم يعتمد على تناول أو معالجة القضايا أو المقولات الكبرى بل ينصب همه وشغله الشاغل على الإنسان والمشاعر الإنسانية الشفيفة التي تهم  الإنسان في كل زمان ومكان.

 

 

Post a Comment

أحدث أقدم