المشهد النقدي قبل نهاية القرن العشرين
كان
للقرن العشرين مكانته البارزة في علوم الدراسات الأدبية، فهو ذلك القرن الذي
تعاقبت فيه النظريات وتعددت حتى نكاد نظن أن الأدب لم يحظ باهتمام في تاريخه بقدر
ما حظي به في القرن العشرين، حيث من المؤكد أنه منذ ما بعد البنيوية وعبر العقود
القليلة التي تلت ذلك شهد النقد الأدبي تاريخًا جديدًا فانبثقت إشكال جديدة من
النقد، توازن بين النظرية والتطبيق، كالتفكيكية ونظريات التلقي واستجابة القارئ،
والنقد القائم على التحليل النفسي والنقد النسائي، ثم النقد البيئي.. الخ. ولعل
نظرية القارئ والاستجابة شجعت قطاعًا كبيرًا من المثقفين غير الأكاديميين المتخصصين على الاقتراب من النقد، وربما مع
الانتشار الواسع لمواقع التواصل الإليكتروني، وانكشاف واسع للمعلوماتية والمعرفة،
أتاح للكثيرين فرصة الممارسات النقدية، بمستويات مختلفة، راحت تتطور مع الوقت.
ولا شك أن هذا الزخم – في البداية - أصاب متلقي
الأدب ونقده ببعض الارتباك حيث يصعب عليهم فض الاشتباك بين هذه النظريات التي قد
تتناقض فيما بينها أو تتكامل وتتداخل
فكان من
المناسب، ونحن على وشك الانتهاء من القرن العشرين، أن نلقى بنظرة أخيرة على سبيل
المراجعة التاريخية المبسطة لنظريات الأدب خلال هذا القرن، نقول مبسطة حيث أحد أهداف
هذه المراجعة نشر ثقافة نقدية يتفاعل معها القارئ العادي قبل المتخصص، إسهاما في
ردم الهوة التي اتسعت بين متلقي الأدب ومنتجيه، حتى بات المبدع يشكو اغترابًا دائمًا
وعزلة صارمة عن قارئه. ولاشك أن التطور النظري الهائل للأدب والذي أصبح وريثًا
للفلسفة جعله ينأى بنفسه عن الإدراك المباشر، وحصر متابعته على مجموعة المشتغلين
به، وبعد أن تعددت نظريات التلقي، لم تعد قراءة النص الأدبي امرأ موكلاً إلى
الذائقة الشخصية أو الانطباع الخاص. وأصبح على قارئ الأدب أن يلم ببعض المعارف الأولية
التي تسهم في قراءة النص قراءة منضبطة.
وربما
كان احد أهداف هذه المراجعة التاريخية لنظريات الأدب في القرن العشرين ، هي أنها
تقدم بانوراما يمكنها أن تساعدنا في تكوين رؤية استشرافية لما يستجد في القرن
المقبل، إذ أن الأدب ذو طبيعة تراكمية، ينبني فيه الجديد على القديم ويتأسس عليه.
وهذه الطبيعة التراكمية تبدو مسئولة عن التداخل القائم بين بعض النظريات كما سنلحظ
- على سبيل المثال - عند الشكلانية الروسية، وحلقة براغ وجماعة النقد الجديد في
أمريكا.
وقد
حاول بعض الباحثين الغربيين إن يبينوا اتجاهات النقد الأدبي ويعرضوا لمدارسه التي
توزعت في كل أوروبا وامتدت إلى أمريكا. وانتهوا إلى تحديد في عدة اتجاهات نقدية قد
تتشابك في بعض جوانبها، لكن يظل لكل منها سماته الخاصة التي تميزه عن غيره، ومن
الملاحظ أن هذا التقسيم قائم أساسًا على وظيفة الأدب وماهيته....
وكان (رينيه
ويليك) من أبرز الباحثين في القرن العشرين وقد حدد ستة اتجاهات نقدية أهمها :
- النقد الماركسي: ويقوم على
ربط المنتج الأدبي بالمحيط الأيديولوجي القائم في لحظة إنتاجه تاريخيًا، ويخضعه
للشرط الاجتماعي والاقتصادي ولهذا يكون الأدب تعبيرًا وانعكاسًا للواقع وقد أسفر
هذا الاتجاه عن نظريتين رئيستين هما الواقعية الاشتراكية - الواقعية النقدية.
- النقد القائم على التحليل النفسي،
ويؤخذ على هذا الاتجاه انه اغرق في البحث عن المشكلات النفسية عند المبدع وربط الإبداع
بالحالات المزاجية واعتمد كثيرًا على التفسير الرمزي للغة، تماما كما يحدث في
الحلم، وقد اهتم هذا الاتجاه بطبيعة المتلقي وتأثير الإبداع عليه
- الاتجاه الأسلوبي واللغوي، والشكلانية العضوية
الجديدة. وفيهما ينظر إلى العمل الأدبي بمعزل عن أي عوامل خارجة، فلا المؤلف ولا
المتلقي ولا أي ظروف اجتماعية أو اقتصادية توضع في الاعتبار عند دراسة العمل الأدبي،
فهو يدرس من داخله دراسة جمالية؟
- الاتجاه الأنثروبولوجى، الذي
يضع في الاعتبار المكون الثقافي للمبدع وهو يعتمد على الأساطير، والموروث الثقافي
في الضمير الجمعي للمجتمعات، في تفسير بعض جوانب الإبداع، وبدا أقرب أفكار كارل
يونج عن الإنسان البدائي.
- الاتجاه
الفلسفي الجديد الذي انبعث من الوجودية وقد تعددت مدارس هذا الاتجاه وآثرت - فيما
- بعد تأثيرًا كبيرًا.
مما
تقدم نلحظ أن ثمة منطقين يحكمان الدراسات الأدبية:
المنطق الأول: يركز فيه الباحث على العوامل التي
تضافرت على إيجاد العمل الأدبي بما فيها حقائق البيئة أو ما يسمى بالظروف
الموضوعية.
والمنطق الثاني يسعى إلى جعل الإبداع الأدبي
منطلقا لإبداع آخر، يضيف إلى العمل الأدبي ما لم يعبر عنه الأديب صراحة من معان وأفكار
حيث يقوم القارئ بدراسة العلاقات الداخلية للعمل وبمعزل عن الظروف المحيطة بإنتاجه .ولعل هذا المنطق هو ما أكد رؤية كل من ( أيزر و ياوس) في
تشجيع القارئ على إضفاء وجود داعم للعمل وإتمامه للمعنى عبر تفسيره الشخصي.
وعموما
فأي من المنطقين لا يخلو من عملية، إذ إن البحث الأدبي أصبح موقوفا على عمليات وإجراءات
منهجية منضبطة تضمن له موضوعيته .أما بالنسبة للقارئ/
المتلقي، والذي يجب أن يكون مسلحًا بقدر من علوم النقد واتجاهاته، إلا أنه يجب أن
يمتلك قدرًا من الحدس الذاتي، الذي يرقى بوعيه عن التلقي الانطباعي الذي يقف عند
حدود المعنى المباشر. وبهذا المعنى يصبح القارئ، شريكًا في إنتاج النص.
"النقطة التي نريد أن ننبه إليها
هنا هي أن استخدام الطرق العلمية في البحث الأدبي ليست شيئًا جديدًا، فقد استخدم أرسطو
في كتابه فن الشعر الاستقراء والاستنتاج والتحليل والمقارنة ، وهى مناهج أساسية
للمعرفة المنهجية، أما الجديد فهو التطبيق الواسع الانتشار للعلوم الطبيعية على
الدراسة الأدبية ومن الطبيعي أن يؤدى التوسع في تطبيق أي منهج إلى تجاوزات، وقد
يثير بعض المشكلات، لكن هذا لا يعنى بالضرورة أن الرؤية النقدية فاسدة من أساسها، فقد
أثبتت المناهج العلمية صلاحيتها للتطبيق في أكثر مجالات البحث الأدبي، لكن المشكلة
قد تمكن في التشابه. أي الوصول إلى نتائج متشابهة تفضي إلى نمط قرائي وفقًا لآليات
الالتزام المنهجي، والنظري. فعلى سبيل المثال، نجد كثيرًا من النقاد يدخلون إلى
النص من خلال عتباته الأولى التي حددها (جيرار جينت) أي أنهم يلتزمون بتفسير النص
وفقًا لهذه العتبات، متجاهلين قوة وفاعلية النص نفسه، حيث يجب أن يكون مصدراً
أوليا لقراءة العتبات. وفي سياق مشابه، ونعنى به المداخل الإحصائية في قراءة النصوص
الأدبية، حيث تفضي إلى نتائج أولية متشابه.
لكن مثل هذه الممارسات النقدية، مهما كانت
تلقائية أو انطباعية، لن تسهم في تطور الإبداع الأدبي، بدون مناهجية علمية.
إرسال تعليق