المعني الثقافي للضحك

بقلم: سيد الوكيل

 

عبثا بقول واقرا في سورة عبس

 ما تلومش حد إن ابتسم أو عبس

 فيه ناس تقول الهزل يطلع جــــد

 و ناس تقول الجد يطلع عبث 

                               ( صلاح جاهين)

 

نفترض أن زائرًا، ينتظر في حديقة منزل صديقه، وفجأة انقض على قدميه كلب؛ سيفزع الزائر بالتأكيد، لكنه لو اكتشف أن الكلب ليس سوى طفل لعوب، سيتحول الموقف من الخوف والغضب، إلى الضحك والمرح.. كيف حدث هذا التحول؟

التفسير العلمي هو أن نسبة الأدرينالين ارتفعت في البداية، ثم انخفضت سريعا بعد اكتشاف أن الأمر مجرد مزحة. عندئذ يبدأ الجسم في دفق السيروتونين لاستعادة التوازن الشعوري للضيف. القاعدة البسيطة هنا: "  لكل فعل رد فعل، مساوً له في القيمة، ومضاد في الاتجاه" هذه المعادلة التي بنى عليها أرسطو فلسفته في مفهوم  التطهير، تصبح موضوعا فيزيائيا عند نيوتن، وبيولوجيا في الطب الحديث.  نظريا تبدو معادلة بسيطة، لكنها في الحقيقة  هي آلية عمل لمنظومة معقدة تنشأ بين الإدراك الحسي أوالغريزي،  والهرمونات، والمسارات العصبية، والمخ.

البعد الثقافي لكل من الطفل وزائر الحديقة رسالة مفادها : نحن شركاء يا رجل، لقد قمت أنت بدور اللص المتسلل، وأنا قمت بدور كلب الحراسة. إنها مجرد لعبة.

غير أن إدراك الزائر للرسالة، رهن ببعد ثقافي آخر، يعيده إلى الطفولة، وطرائق الأطفال في اللعب، والهدف من وراء اللعبة. إنها مجرد طريقة لتواصل سينشأ سريعا وقويا بمجرد أن يضحك الطفل ويتفهم زائر الحديقة مغزى الرسالة.

اللعب هو أكثر الممارسات الإنسانية لتأكيد التواصل الاجتماعي. يبدأ منذ الطفولة الباكرة، عندما تداعب الأم رضيعها على نحو ليشعر بالأمن، ويبتسم لها. هذا بالضبط ما حدث بين الزائر والطفل، وإن تبدلت الأدوار.ويظل اللعب مع الآخر مطلبًا إنسانيًا طوال العمر على الرغم من تعدد وسائله وأهدافه، وصوره. حتى أن مشاهدتنا لعرض مسرحي، أو مباراة كرة قدم، هي نوع من التشارك مع آخرين في لعبة واحدة، تمتلك نفس مقومات مزحة الطفل وزائر الحديقة: الأداء الفني، الرسالة المضمرة، والأثر الشعوري الناتج عنها... وغياب أي عنصر من هذه العناصر، قد يفقد المزحة معناها، فالذين يفتقدون إلى الذكاء الوجداني تجاه الآخرين، قد لا يجيدون تلقي مداعبات الآخرين. كما أنهم قد يشعرون بالاغتراب والقلق في جلسات الظرفاء. فيما يكون أصحاب الذكاء الوجداني الحاد شركاء مثاليين، فسرعان ما يتذكرون نكاتهم الخاصة وينتقون منها الجديد ليؤكدوا للآخرين أنهم شركاء مثاليين. نحن نتبادل النكات عن طيب خاطر كما نتبادل الهدايا، لهذا يُقال: إن الضحك مُعدٍ.

  لكن شيئًا آخر يجعل النكات معنى أكبر، وهو مساحة الإبداع فيها.

أذكر أن صديقًا تعرض لعملية نصب من محتال، كان صديقي يحكي لي تفاصيل الخدعة وهو يضحك حتى اغرورقت عيناه بالدموع، لكن حرص على أن يلفت انتباهي إلى طرافة الحكاية، وبراعة المحتال في سبك حيلته. ربما هو يريد أن يؤكد لنفسه، أنه ليس مغفلا، بهذا يحتال على نفسه بمنطق يرد له الاعتبار، ويطهره من شعور الضحية: الاحتيال فعل  فني بدرجة ما.

 التطهير تعويض نفسي، وبه تمكّن صديقي من التخلص من الأثر السلبي للخدعة، التي أسفرت عن خسارة مالية لا يستهان بها. هذا التلقي للخدعة هو نوع من التأويل الفني لسردية الخدعة. يمكنه من اكتشاف قوة المفارقة الطريفة بينه وبين المحتال، هذا يحتاج إلى قدر من الذكاء الوجداني أيضا. لكن الذين يتوقفون عند الأثر السلبي للمفارقة، سيتعمق إحساسهم بالخجل والشعور بالمهانة ليصبحوا في مأزق نفسي أقرب إلى الشعور بالدونية. أما عن رغبة صديقي في أن يسرد لي تفاصيل الخدعة، فهي دعوة لي أن أشاركه تأويل الخدعة، لتتأكد آلية التطهير. 

وإذا كان اللعب غريزة تسكننا منذ طفولتنا، فالضحك  غريزة تضمن استمراريته، ومن ثم، فمقولة: إن الإنسان حيوان ضاحك، تشير إلى أكثر عمليات الإنتاج الثقافي التي يمارسها البشر، في حياتهم اليومية. 

نفترض أن طفل الحديقة العابث، جرب مزحته هذه مع هرة ترقد في سلام بين الأشجار، ماذا سيحدث؟

ستفزع الهرة بالتأكيد - إنها غريزة البقاء - كما فزع زائر الحديقة، كلاهما يشترك في الإدراك الغريزي للخطر، ورد الفعل اللاإرادي له. لكن الهرة ستجري بعيدًا، وتظل مترقبة وحذرة من أي حركة. الطفل سيظل بالنسبة لها مصدر خطر. هي لم تتمكن من تأويل اللعبة، ولن تدرك المزحة، ولا مغزي التواصل. المراحل الثلاثة السابقة على الترتيب، هي تجسيدـ لآلية الإدراك المعرفي، تجعل الضحك فعلا ثقافيا، ودعوة للتشارك بين البشر.

لا ينبغي النظر إلى التشارك باعتباره مجرد تعبير عاطفي، بقدر ما هو القاعدة المؤسسة لإنتاج الحضارة الإنسانية، التي كانت عند الإنسان البدائي في صورة طقوس وعبادات، تطورت مع الزمن، لتصبح فنونا خالصة، كما في الدراما الإغريقية. وسواء كانت كوميديا أو تراجيديا فإنها تمر بالمراحل الثلاثة، التأويل، الإدراك، التواصل. عندئذ يتشارك مشاهدو الدراما في شعور واحد، وسواء كان مأساويا أو كوميديا فهو دعوة إلى التطهير؛ إنه حيلتنا لمواصلة الحياة.    

في الإنسان قشرة مخية مدججة بالمراكز والموصلات العصبية، تقوم على تحليل الإشارات الإدراكية المرسلة من الجزع المخي (مصنع الشعور) وفي هذه القشرة المخية، نجد إدراكًا معرفيًا بالمشاعر، يحيلها إلي ما نسميته بالذكاء الوجداني.

 ولكن، ما الذي نعنيه بالذكاء الوجداني؟

يذهب علماء الدماغ إلى أن تطور إنسان (الهوموسبيانس) عن غيره من الإنسانيات البدئية، هو أن أنثاه امتلكت غدة فوق جذعية، مسئولة عن تحريك المشاعر العاطفية. وبها تمكنت من مشاركة زوجها وأطفالها الطعام، فتكونت الأسرة، ثم الجماعة، ثم القبيلة. احتاج الأمر لابتكار لغة تواصل فيما بينهم، أفضت إلى رسم خطط لحماية الصغار، وتدريبهم على المهام اللازمة للحماية والطعام والتزاوج، بما يعني أن تاريخ الحضارة البشرية مدين لأنثى (الهوموسباينس ) فمع الوقت تحولت جينات التشارك إلى سلوك غريزي يعزز مفهوم الاجتماع. كان ذلك ضرورة في رحلات الصيد بديلا عن الالتقاط ، ومن ثم يصبح الطعام مآدب جماعية ، مرتبطة بطقوس احتفالية ذات طابع ديني بمفهوم الطوطم، الذي عادة ما يكون الأنثى الأكبر سنا. وعلى ما سبق ، يمكن اعتبار جلسات السمر -التي نتبادل فيها الحكايات والأغاني والنكات - امتدادا لتلك الطقوس. لكن المؤكد أنها مثلت الطور البدئي للفنون والآداب التي نعرفها اليوم.      

ربما استبدلنا مسامراتنا اليوم بالجلوس أمام التلفزيون لمشاهدة فيلم كوميدي لنحقق نفس الوظيفة. ففنون الإضحاك في عصرنا هذا دخلت في مجال التوظيف الاقتصادي، والسياسي، والنفسي. ففي حالات الطوارئ الأمنية، يكون من الأفضل بث البرامج والأفلام والمسرحيات الكوميدية لتخفيف جرعة القلق، في مقابل رفع جرعات السيروتونين والدوبامين. في الواقع هي حيلة قديمة، كان الإغريق يخصصون يوما في العام، ليصبح كرنفالاً للضحك، ينصبون فيه ملكا من بينهم، يمارسون عليه كل صور التهكم والسخرية. إنه التقليد الذي التقطه ( فيكتور هوجو ) عندما جعل من أحدب نوتردام ملكًا للحمقى. 

ومهما أصبح الإضحاك صناعة في صور فنية مركبة ، فإن المزحة  ( النكتة ) في صورتها الأولية تظل هي مادة الإضحاك الجماهيرية التي يمكن لأي شخص، وفي أي مكان أن يمارسها. صحيح أن أثر النكتة مرتبط بطريقة أدائها ،لكن للنكتة نفسها مقومات نجاحها. فكلما تمتعت النكتة بذكاء الحبك، ومهارات السبك في الإلقاء تكون أكثر تأثيرًا في متلقيها. لكنها أيضا تحتاج إلى عملية أكثر تعقيدًا في هضمها. وهكذا تتضح لنا أهمية المثلث البنيوي في شيوع النكتة وتداولها ( المرسل، الرسالة، المرسل إليه ) شأنها في ذلك شأن أي نص أدبي. ومن ثم تفرض نفسها على التحليل الفني والدلالي كأي نص أدبي؛ لما تحتويه من طاقة جمالية ومعرفية في آن. ربما لهذا فإن النكات القوية تدعونا للتفكير دائما في عبقرية مبتكرها الأول. غير أن السعي وراء أسئلة من قبيل: من يصنع لنا النكات؟ وكيف تصل إلينا؟ هو درب من العبث. لكأن النكات مصفوفة بحرفيتها في كتاب كوني مفتوح لمن يقدر على اقتطافها. 

يمكن للنكتة، بوصفها وحدة سردية صغري، أن تدخل في سياق كلي سردي لتدعم الخطاب التهكمي، أو درامي لتنشأ الكوميديا بوصفها فنا. وتُقدّر مهارة الممثل الكوميدي بقدرته على انتزاع القهقهات من المتفرجين، وذلك بالاتكاء على المفارقات الكامنة في تلك الوحدات الصغرى، لتضيء الأثر الدلالي الكامن فيها. إنها تلك التقنيات الملازمة للعرض الكوميدي والتي يسميها الممثل بالإفيه ( (effect وهي الذي ينطبع في ذاكرة المتفرج، بل ويأخذ بعدا ثقافيا على ألسنة الناس، ينطقون بها في مواقف شبيهة لسياق الإفيه. وهذه الآلية التداولية للنكتة، تعطيها القدرة على إعادة إنتاجها (تدويرها ) في سياقات مختلفة. إذ يمكن للإفيه أن يعيش خارج السياق الدرامي، ليظل نصا مستقلا بذاته. ولكي يفعل هذا، يجب أن يخلق نسقا أو نظاما يخصه سواء من حيث لغته، وتقنية أدائه، أو من حيث قدرته على الإحالة إلى سياق خارجي سواء كان ماديا أو معنويا. ولعل هذه الإحالة تقوم بدور الدلالة التي يضمرها النص لكي يعيد إنتاجها المتلقي، وهي آلية أكثر شيوعا في النكات السياسية والجنسية؛ التي تحتاج معالجة لا تعرض صاحبها للمسائلة القانونية أو الأخلاقية

المهرة في إلقاء النكات بحسب طبيعتها الفنية وموضوعها، يحظون بترحيب خاص في الأواسط الاجتماعية، ويعرفون بالظرفاء، ويتمتعون بسرعة البديهة، والتلقائية، وهي مهارات تجبر الآخرين على أن يغفروا لهم الطبيعة التهكمية مهما كانت محرجة، أو ممعنة في كسر التابوهات الأخلاقية أو الدينية. ويعني هذا أن الظرفاء يكونون وسطا ثقافيا رحبا.

من ذلك مثلا: يحكى أن أحد التلاميذ سأل شيخه:

-أتقوم الليل يا مولانا؟

فقال الشيخ: نعم لأبول ثم أنام.

وليس غريبًا ولا شاذًا، أن يكثر أمثال هؤلاء الظرفاء، في مجتمعات الأدب والعلم، والفقهاء من رجال الدين. فالطبيعي أنهم يتمتعون بسعة الحيلة، ومهارات السبك والحبك، والذكاء الوجداني الذي يمكنهم من التواصل مع مريديهم وخلق مساحة من الألفة الآمنة فيما بينهم. فيكون الضحك والإضحاك بمثابة التعويض النفسي المقابل لجديتهم، وداعا لدعواهم عند الجد. وفي ذلك يقول  ابن الجوزي: " ومازال العلماء والأفاضل يعجبهم المُلح، ويهشون لها لأنها تحجم النفس، وتريح القلب من كد الفكر"

ولعل مهارة سبك النكتة وتلقائيتها، التي تعتمد على المفارقة بين سؤال التلميذ وإجابة شيخه، هي التي تحميها من المسائلة، فإجابة الشيخ لا تحيل إلى معنى ديني بقدر ما تحيل إلى سلوك طبيعي يمارسه كل البشر. وهذه الإحالة تجعلها مقبولة بين شرائح اجتماعية مختلفة وواسعة، إذ أن التوافق الاجتماعي على طبيعة النكتة شرط من شروطها. فالنكتة التي تحظى بالقبول في مجتمع ما،  قد تحظى بالاستنكار في مجتمع آخر. وهكذا فموضوع النكتة وسياقها والواقع الاجتماعي لها عوامل مؤثرة في بناء النكتة وأثرها، شأنها في ذلك شأن أي منتج ثقافي.

لقد حفلت الثقافة العربية بالظرفاء والمضحكين عبر التاريخ، يجمعون بين الجد والهزل كل في مكانه، على نحو ما جمع المتنبي بين الضحك والبكاء في بيته الشهير:

كم ذا بمصر من المضحكات     ولكنه ضحك كالبكا

 

وبغض النظر عن ما وقع بين المتنبي وكافور الإخشيدي (والي مصر) فإن الضحك والبكاء متلازمان، ومرتبطان بطبيعة الموقف الشعوري، وقد يجمع بينهما موقف واحد كما حدث لصديقي الذي تعرض لخدعة محتال فكان يضحك وتدمع عيناه في آن. إنه الضحك.. الضحك من، والضحك على، الضحك من الزمن ومغايراته، ومن تعديات الآخرين وهوان الذات.  الضحك على البخلاء والطفيليين والحمقى، والصعاليك والسلاطين والفقراء والأغنياء والجهلاء والمثقفين .. المهم أن نضحك فهذا أسرع طريق للنسيان.

 وكان أبو نواس يضحك وكأنه يبكي ساخرا من قبحه وزهد النساء فيه. وكانت امرأة قد لفظته وهي تذكره بقبح وجهه فأنشد يقول:

فقلت لها لو كان فى السوق أوجه   تباع بنقد حاضر وسوى نقد

لغيرت وجهى واشتريت مكانه   لعلك تهوى وصالى من بعد

وإن كنت ذا قبح فإني شاعر، فقالت     والله لو أصبحت نابغة الجعدي

وقد انتبه ( العقاد ) في تحليله التاريخي والنفسي لأبي الحسن ابن هانئ ( أبو نواس ) لتلك الظاهرة، التي تومئء إلى الشعور العميق بالقبح والهوان في نفس أبي نواس، وقد بالغ في السخرية من نفسه حد الابتذال في قوله:

عجبت من إبليس فى تيهه         وحيث ما أظهر فى نيته

تاه على آدم فى ســـــجدة         وصــار قواداً لذريــــته

وفي ذلك يقول عباس محمود العقاد: " إن أبا نواس هنا يقصد بذرية إبليس إنهم جماعته، وندماء أبى نواس نفسه ،وأن السخرية تشمل أبا نواس نفسه "

والطريف أن الظرفاء من شعراء الهجاء سليطو اللسان، كانوا يحظون بمكانة طيبة عند الحكام، ليس فقط من باب الإعجاب والاستظراف ، إنما اتقاءً لشعرهم اللاذع ، وخشية التعريض بهم والسخرية منهم. وكان الحكم بن عبدل من أشهر هذه النماذج، وكانت له من الأوصاف والعاهات مايضفي عليه طابع النكتة والفكاهة ، فكان أعرج وأحدب ، لا تفارقه العصا، فترك الوقوف بأبواب الملوك، وكان يكتب حاجته على عصاه ، فيبعث بها مع رسله ، ولا يحبس له رسول ، ولا تؤخر له حاجة ،وفى ذلك يقول يحيى بن نوفل:

عصا حكم فى الدار أول داخل    ونحن على الأبواب نقصى ونحجب

وكانت عصا موسى لفرعون آية   وهذى لعمر الله أدهى وأعجب

تطاع ولا تعصى ويحذر سخطها   ويرغب فى المرضاة منها وترهب

في أبيات نوفل سخرية مضمرة، ليس من حَكمٍ وعصاه، بل من ملوك وسلاطين استسلموا لابتزاز شعراء الهجاء الساخر، وأثروا هزلهم عن جد الصادقين من الشعراء. وظني أن تلك الظاهرة لا تخص التاريخ فحسب، ففي حاضرنا، وفي كثير من الأحيان يكون الهجاء السياسي طريقة تلفت انتباه رجال السلطة، ليغدقوا على الهجائين بالوصال والعطاء، فيحظون بمكانة أكبر من قيمتهم الشعرية.

خذ مثلاً للنكتة الذكية فى مجتمع بلغت فيه الديكتاتورية شأواً عظيماً:

كانت أرملة (لينين) تحدث التلاميذ في إحدى المدارس عن شفقة ورحمة زوجها فقالت إنه ذات يوم كان يحلق ذقنه خارج المنزل في الريف، عندما مر به طفل وسأله ماذا تفعل؟ فقال لينين: أحلق ذقنى أيها الطفل.

سكتت الأرملة فسألها أحد التلاميذ.. وما الذى فى هذا يجعل لينين رجلاً شفوقاً رحيماً؟ فقالت الأرملة: ألا ترى أن شفرة الحلاقة كانت فى يده وكان يستطيع أن يقطع رقبة الطفل ولكنه لم يفعل؟؟

نلاحظ في بناء النكتة، حضور أرملة (لينين ) نائبة عنه، وحضور طفل المدرسة نائبا عن طفل النكتة. بمعنى أن النكتة تستهدف المحاكاة لتبدو أكثر واقعية وإقناعا، كما لو كانت واقعة لينين والطفل قد حدثت بالفعل.

وهكذا فالنكتة السياسية تتجاوز نقد الواقع الاجتماعي ،والتندر بالحمقى ،والبخلاء ،والطفيليين إلى نقد ذوي النفوذ السياسي ،بما يعني اتساع الفضاء الثقافي للنكتة لتشمل كل مجالات الحياة وممارسات البشر كافة. وقد كان (محمد سعيد الصحاف) وزير الإعلام في عصر (صدام حسين ) موضوعا لعشرات النكات بعد أن سلم نفسه -عن طيب خاطر - إلى قوات الغزو الأمريكية، وحظي بمكافأة إطلاق سراحه.      

 يرى الصحفي (عادل حمودة ) أن النكتة السياسية، نوع من أنواع المقاومة الثقافية، ويؤكد أن النكتة السياسية، تصبح أكثر انتشارا في المجتمعات التي تجتاحها الأزمات السياسية وتداعياتها الاقتصادية على الناس، ويشير إلى شيوعها بين المصريين في أعقاب نكسة يونيو/ حزيران. من بين هذه النكات، حكاية عن رجل فقير اصطاد سمكة، وطلب من زوجته أن تقليها، فقالت ليس لدينا زيت؛ فقال: إذن اشويها، فقالت ليس لدينا ردة. غضب الرجل وألقى بالسمكة في البحر، فهتفت زوجته: يعيش الزعيم جمال عبد الناصر.

ويذكر أن شيوع النكتة السياسية في أعقاب النكسة، أقلق عبد الناصر، حتى أنه في إحدى خطبه، حذر من تفشي هذه الظاهرة. مشيرُا إلى أنه يمكن استخدامها سلاحًا لتفكيك عزيمة المجتمع في إزالة آثار العدوان، لافتًا الانتباه، إلى أن أجهزة الاستخبارات الأجنبية، ضالعة في ترويج هذه النكات.


Post a Comment

أحدث أقدم