الحقيقة التاريخية، عن يهود إسكندرية
بقلم: سيد الوكيل
عندما يلجأ الروائي
إلى التاريخ، يبدأ التساؤل الذي يتكرر دائمًا، ماذا عن العلاقة بين الحقيقة
التاريخية، والمتخيل الروائي؟
وعلى ضوء البحث عن الحقيقة، تبدأ محاكمة الخيال
وربما محاكمة الروائي، على الرغم من أن التاريخ، الذي مهما تدثر بعباءة العلم، يظل
معتمدًا على المروايات، بل ويظل هو نفسه رواية، لا تسلم من الخيال والاجتهاد
الفردي، والتحريف العفوي، أوالتزييف المتعمد في كثير من الأحيان.
صحيح أن تاريخنا الذاتي، الذي عشناه وشاهدناه،
يسكن داخلنا، فنراه حقائق، وعندما نكتبه نغلفه بأخيلة ونناور في معطياته، أو بمعنى أدق
لا نفصح عنه ليظل بداخلنا، في حضانة ذواتنا، أما التاريخ الذي لم نعشه، فيظل في
وعينا مجرد مرويات، مرت بتحولات، وانحرافات كونها ابنه الخطاب الشفهي، لهذا نلجأ
إلى التاريخ المكتوب، لنستند إليه بوصفه حقائق علمية، بتوقيع المؤرخ، مع إنكار تام
لكونها في الأصل وقائع وأحداث موروثة عن رواه. فعندما نقرأ كتابا في تاريخ
المماليك مثلا، ونفكر في سرده، فنحن نرويه من جديد، أو بمعنى أدق نؤرخه بطريقتنا، أي
أننا نعيد إنتاجه من جديد، لكننا لا ندرك، أن موضوع النص، ليس موضوعنا الذاتي،
لهذا تبدو المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع شاسعة.
وعلى العكس من المؤرخ تمامًا، فإن هذه المناطق
الرجراجة والملتبسة في التاريخ، هي أرض الروائي الخصبة. وربما هذا ما يدعو (مصطفى
نصر) أن يؤكد لنا في كثير من الحوارات التي أجريت معه عن حدود الحقيقة والخيال في
روايته (يهود الإسكندرية) أنه ليس مؤرخًا. ومع ذلك فهو لا ينكر شغفه بالتاريخ
الاجتماعي لمدينته (الإسكندرية) لكن معنى الشغف، وتوجهه إلى التاريخ الاجتماعي
بالتحديد، يعفيه –في حد ذاته- من حسابات المؤرخ. ربما لأن التاريخ الاجتماعي، قد
نجا من هذه المسحة االتوثيقية الصارمة التي عومل بها التاريخ الرسمي والسياسي
بوصفه يقوم على وقائع محددة، فيما يتداخل التاريخ الاجتماعي مع المشاهدات والمحكيات
الشفهية ويلتبس بمفردات الحياة اليومية، والعادات والتقاليد. هذه الطبيعة الرجراجة
و العفوية، تفرض عليه مدخلات متعددة في مصادرها، وربما متضاربة. كما أن طبيعتها
الشفهية، تجعلها أكثرمرونة وقدرة على استقبال المزيد من هذه المدخلات، ولا سيما في
مجتمع له طبيعة التنوع (الكوزموبوليتاني) مثل المجتمع السكندري، الذي أثرت فيه
ثقافات عديدة، واحتوى العديد من الجاليات، فتأثر بها، وأثر فيها بنفس القدر.
ربما من خلال هذا
الوعي الثري والمركب، يرى مصطفى نصر أن التاريخ السكندري الحديث مادة خصبة لإذكاء
الخيال السردي لكثير من أعماله، ولا سيما فيما يتعلق بتاريخ الفنون من: غناء وشعر
وفن تشكيلي وسرد وعمارة. أما روايته (يهود الإسكندرية) فهي تقف على التخوم الحرجة
بين التاريخ السياسي والاجتماعي، وتتعرض لموضوع حساس في وجدان الشخصية العربية المعاصرة
عن دور اليهود في الحياة المصرية. وهو دور ملتبس في حد ذاته، ومتضارب إلى حد
التناقض، مما أدي إلى اختلاف الأراء حوله بين الإدانة المطلقة من ناحية، والاعتراف
بأثر إيجابي مع تحفظات كثيرة. لهذا، فإن رواية (يهود الإسكندرية) تخوض منذ البداية
في أرض ملغومة، وعلى قدر ما يحسب لكاتبها من شجاعة، كان عليه أن يمشى طوال الوقت
بحذر وتحسس.
وربما هذا الحذر هو ما دعى الناقد (أحمد فضل
شبلول) أن يقول في مقال منشور ببوابة الأهرام الأليكترونية 26/8/2016م تحت عنوان:
مصطفى نصر والتأريخ ليهود الإسكندرية، إن الكاتب اجتهد في "محاولة التغلغل في
الأوساط اليهودية والكشف عن عاداتها وتقاليدها وطريقة تفكيرها
واتجاهاتها في عقود عدة، محاولاً خلخلة الصورة النمطية السائدة عن اليهود
المصريين، ولكنه لا ينجح في ذلك، لأن اليهود هم اليهود، في جشعهم وتملقهم
وأكاذيبهم وكراهية الآخر والمتاجرة بالجنس واستخدام المرأة للوصول إلى أغراضهم.
وبذلك يثبِّت السارد تلك الصورة النمطية أكثر وأكثر".
فالقول بإن الكاتب استهدف خلخلة الصورة النمطية
عن اليهود، ولم ينجح لأن اليهود هم اليهود، يعبر عن مأزق آخر يحيط بهذه الرواية،
عندما نتصور أن تناول الموضوع السياسي في الرواية، يفرض علينا الالتزام بالقضايا
الوطنية. بحيث يصبح الفشل هو مآل الكاتب الذي يسعى لكسر الصورة النمطيةعن أعدائنا،
لأن العدو هو العدو، بكل ما اسبغنا عليه من صور نمطية. وهكذا فرواية (يهود
الإسكندرية) تعاني منزلقين، كونها: رواية تاريخية تتقاطع مع موضوع سياسي. إذ كان
على الكاتب، أن يتحرك في هذه الأرض الملغومة بكثير من الحذر، دونما إخلال بمقتضيات
البناء الفني لعمل روائي، يخلق حقيقته الجمالية، بغض النظر عن الحقيقتين:التاريخية
والسياسية.
أمر كهذا يتطلب خيالاً واسعًا لإيجاد حلول
مبتكرة وذكية، للسيطرة على الفضاء الشاسع والمعقد لرواية على هذا النحو من الأحداث
المتشابكة، والامتداد الزمني. فثم نوع من دقة الصياغة الفنية، والحرفية في تشكيل
التراكيب وخلق العلاقات الدالة، لتضعنا أمام رواية جيدة الصنع. فهي مثلا: تفيد من
وقائع واسماء حقيقية، ولكنها تزرعها في بيئة سردية فنية خالصة، ومن ثم يبدو سؤال
الحقيقة التاريخية بلا رصيد من المنطق. فمن الحقيقة أن واقعة انفجار مصنع الألعاب النارية
التي وردت في الرواية، قد وقعت في حارة اليهود بالقاهرة، لكن الكاتب وفقا لمقتضيات
السرد، يجعلها تحدث في منطقة (الطابية).
تصبح الطابية ميدانًا لمعظم وقائع الرواية،
بأطيافها التاريخية، وأصدائها التخيلية. من الناحية التاريخية ستكون الطابية،
واحدة من تحصينات عديدة، أمر محمد على
باشا بإنشائهاعلى الساحل الشمالي الشرقي لمصر لمواجهة حملات الاحتلال الأوروبي؛
ولا سيما بعد حملة فريزر. لكن المخيال الروائي يترك الفضاء المكاني مفتوحًا، فلا
نعرف على وجه اليقين في أي طابية تقع أحداث الرواية!!
لكن.. من المعروف أن لليهود مقابر في منطقة
طابية النحاسين، التي أصبحت الآن جزءًا من معالم مدينة الإسكندرية المعروفة
بالشلالات. أما الرواية، فتوقفنا على أن الطابية المقصودة تقع خارج حدود المدينة
وربما على مسيرة يوم منها. هذه المراوغة الصغيرة، تنبه القارئ ليضع في اعتباره
العمق الزمني لأحداث الرواية، لهذا سيغض الطرف عن الحقيقة الجغرافيا للمكان
الروائي، ومن ثم ينتبه إلى البعد الرمزي له،عندما تصبح (الطابية) مرادفًا للحلم
اليهودي بوطن ينهي شتاتهم التاريخي.
نزح يهود الإسكندرية – كما في الرواية- إلى
منطقة الطابية بعد أن وهبها سعيد باشا لحلاق يهودي اسمه (جون). كان جون من
القرائين الفقراء، وكان موسومًا بالعته إلى جانب تدينه الشديد – وهي صفات تؤهله
ليكون وليًا- في نظر العامة. ولكنه نجح، وبمحض الصدفة، في علاج الخديو (محمد سعيد
باشا) من مرض عضال ببعض الوصفات والمراهم. هكذا يبدو أننا أمام صفقة من العته
المتبادل. لكن سعيد باشا نفسه شخصية حيرت المؤرخين في الحكم عليها، فهو الذي ألغى
التعليم العالي وقال: أمة جاهلة أسلس في قيادتها ن أمة متعلمة، وهو الذي منح
الفرنسيين حق الانتفاع بقناة السويس لقرن من الزمان، وأصبحت مصر بسببه مدينة
للمرابين اليهود. لكنه أيضًا، هو الذي أنشأ أول بنك مصري، وخفض الضرائب على
الفلاحين وأسقط ديونهم المتأخرة، وسن أول قانون للمعاشات، وألغى دفع الجزية عن الأقباط،
ومنع خروج الآثار المصرية، وهو الذي عمم الخدمة العسكرية على جميع الطبقات
الاجتماعية بعد أن كانت موقوفة على ابناء الفلاحين والفقراء.. إلخ. فهل بوسع
القارئ أن يطمئن إلى حكم تاريخي أو سياسي عن هذا الرجل؟
هنا نحتاج إلى كاتب على دراية واسعة، ليس
بالتاريخ في حد ذاته، ولكن بعلاماته التي تنشأ بين بنياته المختلفة، وهذا بالضبط
مافعله مصطفى نصر، وما نعنيه بالتحرك الحذر بين المساحات الرجراجة والملتبسة في
التاريخ.
ثم صدفة عابرة،
أججت حلم الوطن المستقل في عقول يهود الإسكندرية. فيما كان اليهودي الثري الداهية
(عامير) مؤهلاً لانتهاز اللحظة المناسبة لتحقيقه.
شخصية (جون) في الأصل مستمدة من حقيقة أن أشهر
أطباء الإسكندرية كانوا من اليهود، وكانوا مقربين من الأمراء والقصور الملكية
تقديرًا لمهارتهم الطبية. لكن المخيال الروائي يصنع المفارقات الساخرة والمؤلمة في
آن. وتتم فصول الدراما، عندما يتحول (جون) الحلاق المعتوه، إلى ولي بالفعل، بعد أن
تآمرت عليه زوجته وعشيقها للخلاص منه. حتى
(عامير) صاحب فكرة استيطان اليهود للطابية، ارتاح للخلاص من (جون) كما استحسن فكرة
أن يقيم اليهود ضريحًا لوليهم، ليكون شاهدًا على وجودهم التاريخي بالأرض الجديدة
التي نزحوا إليها.
وهكذا تحيلنا الرواية، وبقدرمن الإسقاط، إلى
واقع الكوميديا السوداء التي نعاني منها جراء وعد (بلفور) من لا يملك، لمن
لايستحق. كما تشير إلى إلى طريقة التفكير
الاستيطاني التي مازالت تعمل حتى الآن، وتنفذ في عمق الشخصية اليهودية، لتفضح
شغفها التاريخي بأرض المعياد مها كان الثمن وكانت الطريقة. كما تحيلنا حكاية ضريح
(جون) إلى ضريح ( أبو حصيرة).
المغزى هنا، أن
الخيال السردي، قد يلتمس مبررات واقعية وتاريخية، لكنه لا يلتزم بها، إنه خيال حر
خلاق، حتى وإن امتلك قوة الحقيقة ومنطق الواقع.
وهكذا، فإن مهارة التركيب والصياغة التي يحتاجها
كاتب الرواية التاريخية، يقوم على استنبات الخيال من بذور الحقيقة، ومن ثم يورق
المخيال السردي ويزدهر. فعلى سبيل المثال، تحتوى منطقة الطابية –ومازالت- على بعض
العزب منها عزبة (جون) وهو الاسم الذي اختاره مصطفى نصر لبطل روايته ليوعز إلى
القارئ بان (جون) شخصية حقيقية عاشت في هذه المنطقة ومازالت العزبة شاهدًا تاريخيًا
على ذلك. إن بذور الحقيقة المتناثرة كشظايا يعاد استنباتها في الخيال. تلك هي
الآلية التي مكنت الكاتب من بعض الأفكار في الموروث اليهودي وإعادة إنتاجها بالسرد
الروائي بغض النظر عن قولنا إنها صور نمطية، فالصور النمطية أيضًا، قد تكون خيالاً،
لكنها تأخذ قوة الحقيقة في الوعي الجمعي.
فأرض (الطابية) التي منحها الخديو سعيد لحلاق الصحة
اليهودي الذي عالجه من تقرحات جسده. تتحول عند (عامير) الأب الروحي
ليهود إسكندرية، إلى فرصة لوطن يلم شتات يهود العالم. ثم تتحول رحلة الهجرة إلى الأرض الجديدة
إلى بوتقة تكشف عن العمق التاريخي المعقد للشخصية اليهودية، إنه تاريخ الخوف
والاستحواذ، لهذا فمن المنطقي أن تنتهى الرحلة إلى ما يشبه المذبحة، فبعد سلسلة من
العلاقات الجنسية المحرمة والخيانات والحمل السفاح، تتخلص (هادية) من زوجها ( جون) في مشهد يذكرنا برقصة سالومي بعد مقتل
يوحنا المعمدان. شرب جون السم
من يد هادية وهى ترقص له عارية فيما هو يبتسم، مات وهو يبتسم. وظلت الابتسامة البلهاءعلى وجهه فاعتبروه وليًا، وبنوا له ضريحًا،
وأقاموا له مولدًا سنويا، هكذا تتوالي مصادفات العته. لكن هذا التقليد تحلل مع
الوقت، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، وهروب عدد كبير من يهود إسكندرية من
الاضطهاد النازي بعد اقتراب قوات روميل من الإسكندرية. حقيقة تاريخية أخرى
تغزي المخيال الروائي.
وهكذا، فإن الآلية التي يستخدمها مصطفى نصر لدمج
التاريخي بالخيال تلمح إلى المعنى التاريخي ولا تطابقه ولا توغل فيه، وفي ظني أنها
أكثر مناسبة للفن الروائي من التوثيقية الجافة التي يلجأ إليها الكثيرون من كتاب
الرواية التاريخية ليكسبوا أعمالهم سمت الحقيقة. فخلال هذه العلاقة الملتبسة بين
الحقيقي والمتخيل، تنفتح طاقة الخيال، ويجد الكاتب عشرات المبررات الفنية لأحداثة
وشخصياته بل وحركتهم في الزمان والمكان.
فالرواية تشير إلى ضابط مصري يتخفى بين سكان
الطابية، ويقوم بعمليات فدائية ضد الإنجليز بالتعاون مع صانع متفجرات يهودي يأويه
في بيته، ثم نكتشف بعد زمن طويل، أن هذا الضابط هو أنور السادات. وهكذا يستفيد الكاتب من الحقيقة التاريخية
لشخصية أنور السادات، ليس فقط حول واقعة طرده من الجيش المصري وهروبه جراء مناهضته
للاستعمار الإنجليزي، ولكن عن برجماتيته السياسية فلا مانع عنده أن يتعاون مع
يهودي لتحقيق أهدافه الوطنية، وبهذه الطريقة، يتمكن مصطفى نصر من أن يجعل من شخصية
أنور السادات الحقيقية -بكل تركيبها المعقد- شخصية روائية، وفي نفس الوقت، فإن
واقعة زيارته للطابية التي وردت في الرواية -بعد زيارته لإسرائيل- بحثًا عن اليهودي الذي أواه، تبدو مبررة فنيًا
لدرجة تجعلها أقرب للحقيقة. بحيث تسمح باستعادة الموضوع اليهودي لسكان الطابية من جديد،
عندما انتبه سكانها إلى أن الوجود اليهودي، مازال قائمًا، وممثلاً في (وصال)،
حفيدة صاحب مصنع الألعاب النارية.
نلاحظ أن زمن السرد يمتد من عهد (سعيد باشا) إلى عهد (السادات)، مساحة زمنية شاسعة تصل إلى مائة عام،
وتتجاوز معنى الرواية إلى الملحمة نظرًا لتتابع الأجيال فيها. وتبرر حجم الرواية الذي يتجاوز (550صفحة) وهى مساحة كافية ليتوه فيها أي
روائي ما لم يكن على قدر من الإمساك الدقيق بتفاصيل عالمه.
الكثيرون يشغلون رواياتهم البدينة بثرثرات لغوية
مجانية تستهلك الزمن، لكن مصطفى نصر كان حريصاً منذ البداية على تماسك العلاقات
السردية أقام مصطفى نصر البناء الزمني
للرواية على حركتين، الحركة الأولى تنتهى بمقتل (جون) وتوابع هذا الحدث المحوري في تاريخ يهود
إسكندرية. ثم يقفز إلى الحركة الثانية، وتبدأ مع بوادر الحرب العالمية الثانية
وظهور الموضوع اليهودي على مستوى عالمي بسبب النازية الهتلرية. وتمتد هذه الحركة
إلى السبعينيات، ونتيجة لذلك تظهر الرواية الكثير من التحولات الاجتماعية التي
رافقت هاتين المرحلتين، وتجليات هذه التحولات السياسية والثقافية على الحياة
المصرية، بما يؤكد أن (يهود الإسكندرية) أكبر من كونها رواية تاريخية.
_____________________
مصطفى نصر ـ يهود الإسكندريةـ المصرية
اللبنانية للنشر والتوزيع ـ 2016م.
عندما يلجأ الروائي
إلى التاريخ، يبدأ التساؤل الذي يتكرر دائمًا، ماذا عن العلاقة بين الحقيقة
التاريخية، والمتخيل الروائي؟
وعلى ضوء البحث عن الحقيقة، تبدأ محاكمة الخيال
وربما محاكمة الروائي، على الرغم من أن التاريخ، الذي مهما تدثر بعباءة العلم، يظل
معتمدًا على المروايات، بل ويظل هو نفسه رواية، لا تسلم من الخيال والاجتهاد
الفردي، والتحريف العفوي، أوالتزييف المتعمد في كثير من الأحيان.
صحيح أن تاريخنا الذاتي، الذي عشناه وشاهدناه،
يسكن داخلنا، فنراه حقائق، وعندما نكتبه نغلفه بأخيلة ونناور في معطياته، أو بمعنى أدق
لا نفصح عنه ليظل بداخلنا، في حضانة ذواتنا، أما التاريخ الذي لم نعشه، فيظل في
وعينا مجرد مرويات، مرت بتحولات، وانحرافات كونها ابنه الخطاب الشفهي، لهذا نلجأ
إلى التاريخ المكتوب، لنستند إليه بوصفه حقائق علمية، بتوقيع المؤرخ، مع إنكار تام
لكونها في الأصل وقائع وأحداث موروثة عن رواه. فعندما نقرأ كتابا في تاريخ
المماليك مثلا، ونفكر في سرده، فنحن نرويه من جديد، أو بمعنى أدق نؤرخه بطريقتنا، أي
أننا نعيد إنتاجه من جديد، لكننا لا ندرك، أن موضوع النص، ليس موضوعنا الذاتي،
لهذا تبدو المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع شاسعة.
وعلى العكس من المؤرخ تمامًا، فإن هذه المناطق
الرجراجة والملتبسة في التاريخ، هي أرض الروائي الخصبة. وربما هذا ما يدعو (مصطفى
نصر) أن يؤكد لنا في كثير من الحوارات التي أجريت معه عن حدود الحقيقة والخيال في
روايته (يهود الإسكندرية) أنه ليس مؤرخًا. ومع ذلك فهو لا ينكر شغفه بالتاريخ
الاجتماعي لمدينته (الإسكندرية) لكن معنى الشغف، وتوجهه إلى التاريخ الاجتماعي
بالتحديد، يعفيه –في حد ذاته- من حسابات المؤرخ. ربما لأن التاريخ الاجتماعي، قد
نجا من هذه المسحة االتوثيقية الصارمة التي عومل بها التاريخ الرسمي والسياسي
بوصفه يقوم على وقائع محددة، فيما يتداخل التاريخ الاجتماعي مع المشاهدات والمحكيات
الشفهية ويلتبس بمفردات الحياة اليومية، والعادات والتقاليد. هذه الطبيعة الرجراجة
و العفوية، تفرض عليه مدخلات متعددة في مصادرها، وربما متضاربة. كما أن طبيعتها
الشفهية، تجعلها أكثرمرونة وقدرة على استقبال المزيد من هذه المدخلات، ولا سيما في
مجتمع له طبيعة التنوع (الكوزموبوليتاني) مثل المجتمع السكندري، الذي أثرت فيه
ثقافات عديدة، واحتوى العديد من الجاليات، فتأثر بها، وأثر فيها بنفس القدر.
ربما من خلال هذا
الوعي الثري والمركب، يرى مصطفى نصر أن التاريخ السكندري الحديث مادة خصبة لإذكاء
الخيال السردي لكثير من أعماله، ولا سيما فيما يتعلق بتاريخ الفنون من: غناء وشعر
وفن تشكيلي وسرد وعمارة. أما روايته (يهود الإسكندرية) فهي تقف على التخوم الحرجة
بين التاريخ السياسي والاجتماعي، وتتعرض لموضوع حساس في وجدان الشخصية العربية المعاصرة
عن دور اليهود في الحياة المصرية. وهو دور ملتبس في حد ذاته، ومتضارب إلى حد
التناقض، مما أدي إلى اختلاف الأراء حوله بين الإدانة المطلقة من ناحية، والاعتراف
بأثر إيجابي مع تحفظات كثيرة. لهذا، فإن رواية (يهود الإسكندرية) تخوض منذ البداية
في أرض ملغومة، وعلى قدر ما يحسب لكاتبها من شجاعة، كان عليه أن يمشى طوال الوقت
بحذر وتحسس.
وربما هذا الحذر هو ما دعى الناقد (أحمد فضل
شبلول) أن يقول في مقال منشور ببوابة الأهرام الأليكترونية 26/8/2016م تحت عنوان:
مصطفى نصر والتأريخ ليهود الإسكندرية، إن الكاتب اجتهد في "محاولة التغلغل في
الأوساط اليهودية والكشف عن عاداتها وتقاليدها وطريقة تفكيرها
واتجاهاتها في عقود عدة، محاولاً خلخلة الصورة النمطية السائدة عن اليهود
المصريين، ولكنه لا ينجح في ذلك، لأن اليهود هم اليهود، في جشعهم وتملقهم
وأكاذيبهم وكراهية الآخر والمتاجرة بالجنس واستخدام المرأة للوصول إلى أغراضهم.
وبذلك يثبِّت السارد تلك الصورة النمطية أكثر وأكثر".
فالقول بإن الكاتب استهدف خلخلة الصورة النمطية
عن اليهود، ولم ينجح لأن اليهود هم اليهود، يعبر عن مأزق آخر يحيط بهذه الرواية،
عندما نتصور أن تناول الموضوع السياسي في الرواية، يفرض علينا الالتزام بالقضايا
الوطنية. بحيث يصبح الفشل هو مآل الكاتب الذي يسعى لكسر الصورة النمطيةعن أعدائنا،
لأن العدو هو العدو، بكل ما اسبغنا عليه من صور نمطية. وهكذا فرواية (يهود
الإسكندرية) تعاني منزلقين، كونها: رواية تاريخية تتقاطع مع موضوع سياسي. إذ كان
على الكاتب، أن يتحرك في هذه الأرض الملغومة بكثير من الحذر، دونما إخلال بمقتضيات
البناء الفني لعمل روائي، يخلق حقيقته الجمالية، بغض النظر عن الحقيقتين:التاريخية
والسياسية.
أمر كهذا يتطلب خيالاً واسعًا لإيجاد حلول
مبتكرة وذكية، للسيطرة على الفضاء الشاسع والمعقد لرواية على هذا النحو من الأحداث
المتشابكة، والامتداد الزمني. فثم نوع من دقة الصياغة الفنية، والحرفية في تشكيل
التراكيب وخلق العلاقات الدالة، لتضعنا أمام رواية جيدة الصنع. فهي مثلا: تفيد من
وقائع واسماء حقيقية، ولكنها تزرعها في بيئة سردية فنية خالصة، ومن ثم يبدو سؤال
الحقيقة التاريخية بلا رصيد من المنطق. فمن الحقيقة أن واقعة انفجار مصنع الألعاب النارية
التي وردت في الرواية، قد وقعت في حارة اليهود بالقاهرة، لكن الكاتب وفقا لمقتضيات
السرد، يجعلها تحدث في منطقة (الطابية).
تصبح الطابية ميدانًا لمعظم وقائع الرواية،
بأطيافها التاريخية، وأصدائها التخيلية. من الناحية التاريخية ستكون الطابية،
واحدة من تحصينات عديدة، أمر محمد على
باشا بإنشائهاعلى الساحل الشمالي الشرقي لمصر لمواجهة حملات الاحتلال الأوروبي؛
ولا سيما بعد حملة فريزر. لكن المخيال الروائي يترك الفضاء المكاني مفتوحًا، فلا
نعرف على وجه اليقين في أي طابية تقع أحداث الرواية!!
لكن.. من المعروف أن لليهود مقابر في منطقة
طابية النحاسين، التي أصبحت الآن جزءًا من معالم مدينة الإسكندرية المعروفة
بالشلالات. أما الرواية، فتوقفنا على أن الطابية المقصودة تقع خارج حدود المدينة
وربما على مسيرة يوم منها. هذه المراوغة الصغيرة، تنبه القارئ ليضع في اعتباره
العمق الزمني لأحداث الرواية، لهذا سيغض الطرف عن الحقيقة الجغرافيا للمكان
الروائي، ومن ثم ينتبه إلى البعد الرمزي له،عندما تصبح (الطابية) مرادفًا للحلم
اليهودي بوطن ينهي شتاتهم التاريخي.
نزح يهود الإسكندرية – كما في الرواية- إلى
منطقة الطابية بعد أن وهبها سعيد باشا لحلاق يهودي اسمه (جون). كان جون من
القرائين الفقراء، وكان موسومًا بالعته إلى جانب تدينه الشديد – وهي صفات تؤهله
ليكون وليًا- في نظر العامة. ولكنه نجح، وبمحض الصدفة، في علاج الخديو (محمد سعيد
باشا) من مرض عضال ببعض الوصفات والمراهم. هكذا يبدو أننا أمام صفقة من العته
المتبادل. لكن سعيد باشا نفسه شخصية حيرت المؤرخين في الحكم عليها، فهو الذي ألغى
التعليم العالي وقال: أمة جاهلة أسلس في قيادتها ن أمة متعلمة، وهو الذي منح
الفرنسيين حق الانتفاع بقناة السويس لقرن من الزمان، وأصبحت مصر بسببه مدينة
للمرابين اليهود. لكنه أيضًا، هو الذي أنشأ أول بنك مصري، وخفض الضرائب على
الفلاحين وأسقط ديونهم المتأخرة، وسن أول قانون للمعاشات، وألغى دفع الجزية عن الأقباط،
ومنع خروج الآثار المصرية، وهو الذي عمم الخدمة العسكرية على جميع الطبقات
الاجتماعية بعد أن كانت موقوفة على ابناء الفلاحين والفقراء.. إلخ. فهل بوسع
القارئ أن يطمئن إلى حكم تاريخي أو سياسي عن هذا الرجل؟
هنا نحتاج إلى كاتب على دراية واسعة، ليس
بالتاريخ في حد ذاته، ولكن بعلاماته التي تنشأ بين بنياته المختلفة، وهذا بالضبط
مافعله مصطفى نصر، وما نعنيه بالتحرك الحذر بين المساحات الرجراجة والملتبسة في
التاريخ.
ثم صدفة عابرة،
أججت حلم الوطن المستقل في عقول يهود الإسكندرية. فيما كان اليهودي الثري الداهية
(عامير) مؤهلاً لانتهاز اللحظة المناسبة لتحقيقه.
شخصية (جون) في الأصل مستمدة من حقيقة أن أشهر
أطباء الإسكندرية كانوا من اليهود، وكانوا مقربين من الأمراء والقصور الملكية
تقديرًا لمهارتهم الطبية. لكن المخيال الروائي يصنع المفارقات الساخرة والمؤلمة في
آن. وتتم فصول الدراما، عندما يتحول (جون) الحلاق المعتوه، إلى ولي بالفعل، بعد أن
تآمرت عليه زوجته وعشيقها للخلاص منه. حتى
(عامير) صاحب فكرة استيطان اليهود للطابية، ارتاح للخلاص من (جون) كما استحسن فكرة
أن يقيم اليهود ضريحًا لوليهم، ليكون شاهدًا على وجودهم التاريخي بالأرض الجديدة
التي نزحوا إليها.
وهكذا تحيلنا الرواية، وبقدرمن الإسقاط، إلى
واقع الكوميديا السوداء التي نعاني منها جراء وعد (بلفور) من لا يملك، لمن
لايستحق. كما تشير إلى إلى طريقة التفكير
الاستيطاني التي مازالت تعمل حتى الآن، وتنفذ في عمق الشخصية اليهودية، لتفضح
شغفها التاريخي بأرض المعياد مها كان الثمن وكانت الطريقة. كما تحيلنا حكاية ضريح
(جون) إلى ضريح ( أبو حصيرة).
المغزى هنا، أن
الخيال السردي، قد يلتمس مبررات واقعية وتاريخية، لكنه لا يلتزم بها، إنه خيال حر
خلاق، حتى وإن امتلك قوة الحقيقة ومنطق الواقع.
وهكذا، فإن مهارة التركيب والصياغة التي يحتاجها
كاتب الرواية التاريخية، يقوم على استنبات الخيال من بذور الحقيقة، ومن ثم يورق
المخيال السردي ويزدهر. فعلى سبيل المثال، تحتوى منطقة الطابية –ومازالت- على بعض
العزب منها عزبة (جون) وهو الاسم الذي اختاره مصطفى نصر لبطل روايته ليوعز إلى
القارئ بان (جون) شخصية حقيقية عاشت في هذه المنطقة ومازالت العزبة شاهدًا تاريخيًا
على ذلك. إن بذور الحقيقة المتناثرة كشظايا يعاد استنباتها في الخيال. تلك هي
الآلية التي مكنت الكاتب من بعض الأفكار في الموروث اليهودي وإعادة إنتاجها بالسرد
الروائي بغض النظر عن قولنا إنها صور نمطية، فالصور النمطية أيضًا، قد تكون خيالاً،
لكنها تأخذ قوة الحقيقة في الوعي الجمعي.
فأرض (الطابية) التي منحها الخديو سعيد لحلاق الصحة
اليهودي الذي عالجه من تقرحات جسده. تتحول عند (عامير) الأب الروحي
ليهود إسكندرية، إلى فرصة لوطن يلم شتات يهود العالم. ثم تتحول رحلة الهجرة إلى الأرض الجديدة
إلى بوتقة تكشف عن العمق التاريخي المعقد للشخصية اليهودية، إنه تاريخ الخوف
والاستحواذ، لهذا فمن المنطقي أن تنتهى الرحلة إلى ما يشبه المذبحة، فبعد سلسلة من
العلاقات الجنسية المحرمة والخيانات والحمل السفاح، تتخلص (هادية) من زوجها ( جون) في مشهد يذكرنا برقصة سالومي بعد مقتل
يوحنا المعمدان. شرب جون السم
من يد هادية وهى ترقص له عارية فيما هو يبتسم، مات وهو يبتسم. وظلت الابتسامة البلهاءعلى وجهه فاعتبروه وليًا، وبنوا له ضريحًا،
وأقاموا له مولدًا سنويا، هكذا تتوالي مصادفات العته. لكن هذا التقليد تحلل مع
الوقت، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، وهروب عدد كبير من يهود إسكندرية من
الاضطهاد النازي بعد اقتراب قوات روميل من الإسكندرية. حقيقة تاريخية أخرى
تغزي المخيال الروائي.
وهكذا، فإن الآلية التي يستخدمها مصطفى نصر لدمج
التاريخي بالخيال تلمح إلى المعنى التاريخي ولا تطابقه ولا توغل فيه، وفي ظني أنها
أكثر مناسبة للفن الروائي من التوثيقية الجافة التي يلجأ إليها الكثيرون من كتاب
الرواية التاريخية ليكسبوا أعمالهم سمت الحقيقة. فخلال هذه العلاقة الملتبسة بين
الحقيقي والمتخيل، تنفتح طاقة الخيال، ويجد الكاتب عشرات المبررات الفنية لأحداثة
وشخصياته بل وحركتهم في الزمان والمكان.
فالرواية تشير إلى ضابط مصري يتخفى بين سكان
الطابية، ويقوم بعمليات فدائية ضد الإنجليز بالتعاون مع صانع متفجرات يهودي يأويه
في بيته، ثم نكتشف بعد زمن طويل، أن هذا الضابط هو أنور السادات. وهكذا يستفيد الكاتب من الحقيقة التاريخية
لشخصية أنور السادات، ليس فقط حول واقعة طرده من الجيش المصري وهروبه جراء مناهضته
للاستعمار الإنجليزي، ولكن عن برجماتيته السياسية فلا مانع عنده أن يتعاون مع
يهودي لتحقيق أهدافه الوطنية، وبهذه الطريقة، يتمكن مصطفى نصر من أن يجعل من شخصية
أنور السادات الحقيقية -بكل تركيبها المعقد- شخصية روائية، وفي نفس الوقت، فإن
واقعة زيارته للطابية التي وردت في الرواية -بعد زيارته لإسرائيل- بحثًا عن اليهودي الذي أواه، تبدو مبررة فنيًا
لدرجة تجعلها أقرب للحقيقة. بحيث تسمح باستعادة الموضوع اليهودي لسكان الطابية من جديد،
عندما انتبه سكانها إلى أن الوجود اليهودي، مازال قائمًا، وممثلاً في (وصال)،
حفيدة صاحب مصنع الألعاب النارية.
نلاحظ أن زمن السرد يمتد من عهد (سعيد باشا) إلى عهد (السادات)، مساحة زمنية شاسعة تصل إلى مائة عام،
وتتجاوز معنى الرواية إلى الملحمة نظرًا لتتابع الأجيال فيها. وتبرر حجم الرواية الذي يتجاوز (550صفحة) وهى مساحة كافية ليتوه فيها أي
روائي ما لم يكن على قدر من الإمساك الدقيق بتفاصيل عالمه.
الكثيرون يشغلون رواياتهم البدينة بثرثرات لغوية
مجانية تستهلك الزمن، لكن مصطفى نصر كان حريصاً منذ البداية على تماسك العلاقات
السردية أقام مصطفى نصر البناء الزمني
للرواية على حركتين، الحركة الأولى تنتهى بمقتل (جون) وتوابع هذا الحدث المحوري في تاريخ يهود
إسكندرية. ثم يقفز إلى الحركة الثانية، وتبدأ مع بوادر الحرب العالمية الثانية
وظهور الموضوع اليهودي على مستوى عالمي بسبب النازية الهتلرية. وتمتد هذه الحركة
إلى السبعينيات، ونتيجة لذلك تظهر الرواية الكثير من التحولات الاجتماعية التي
رافقت هاتين المرحلتين، وتجليات هذه التحولات السياسية والثقافية على الحياة
المصرية، بما يؤكد أن (يهود الإسكندرية) أكبر من كونها رواية تاريخية.
_____________________
مصطفى نصر ـ يهود الإسكندريةـ المصرية
اللبنانية للنشر والتوزيع ـ 2016م.
إرسال تعليق