الدور العام للكتاب والمثقفين

سيد الوكيل

 

ثمة شيء يجب إدراكه والاهتمام به في إطار بحثنا عن معنى جديد للثقافة في عالم يتغير .. إذا كانت هناك قوة واحدة تتجه الآن إلى تكريس لمركزية السلطة و عولمة النظام، فإن الثقافة، .. والثقافة وحدها تنفرد بالخروج عن النظام وكسر السياقات والأطر المعدة سلفا وهي بدورها المقاوم ـ هذاـ للنظام تقف على يسار العالم الجديد الذي يتحرك في اتجاه الهيمنة والتنميط الذي يمارسه الاقتصادي أو السياسي أو العسكري حتى ولو كانوا مدعومين بحكمة الفقهاء و العلماء.

ولكن كيف يمكننا تلمس مظاهر ثقافية جديدة تطرح وعيها المقاوم على العالم ؟

وإذا كانت هذه المظاهر ترتبط أساساً بآليات الخروج على أشكال السلطة الثقافية، فيحسن أن تكون البداية من داخل الحراك الثقافي نفسه، أو على نحو ماتقول ( اليزابيث إ ميس) في مقال لها بعنوان  السياسة الجنسية والحكم النقدى (إننا إذا ما التمسنا تحويل بنى السلطة، فإن علينا أولاً أن نسميها، وبذلك نكشفها ونعرضها للجميع) (1) وذلك بمناقشة ودحض أساليب الهيمنة التي تمارس في صيغ ثقافية، ثم تتحول هي نفسها إلى سلطة، يتبناها أفراد كبار أو مؤسسات كبرى ثم  يعطون  أنفسهم حق الكلام نيابة عن الآخرين وهم في سبيل ذلك لا يتوقفون عن إنتاج النظريات والمقولات المقدسة التي تتحول إلى أيديولوجيات عامة للعمل الثقافي، وعلى أساسها يتحدد من هو المثقف؟

تشير أصابع الاتهام إلى دور الأكاديميات العلمية في السيطرة على مقدرات الخطاب الثقافي، وهو دور يبدو شديد التعاظم والرسوخ، حتى ليصبح واحداً من المسلمات التي فرضتها الحداثة، غير أن تجاوزنا لمعطيات الحداثة إلى ما بعدها، يحفزنا على مراجعة مواضعاتها، التي فرضت نفسها كحقائق تستمد شرعية وجودها من اليقين العلمي.

 ربما يكون من المناسب أن نبدأ بمراجعة المفهوم ذاته، نعني مفهوم المثقف ، من هو المثقف؟ وما هي طبيعة العمل الثقافي؟ وهل يجوز لجهة ما أو فرد مهما كان عظيم الشأن أن يرًسم بوصفه مندوبا ثقافياً سامياً؟   

في الثمانينيات من القرن الماضي دعت مجلة أمريكية إلى مؤتمر للكتاب المناهضين لسياسة (ريجان) وكانت النتيجة أن حضرت أعداد كببرة  من الناس لا يجمعها سوى شيء واحد.. مناهضة سياسة ريجان، كانوا خليطاً من الأدباء والفنانين والنقاد والصحافيين ونشطاء في مجال البيئة وحقوق الإنسان والمرأة والطفل ..ألخ .

يرى (إدوارد سعيد ) في مقال له بعنوان ( الدور العام للكتاب والمثقفين )(2)..أن هذا التجمع هو أبلغ رد على مجموعة المقالات والكتابات التي راحت تبشر بموت المثقف، معتمدة على أن انتهاء دور المثقف المتوحد الرومانسى يعنى اختفاء كلمة ثقافة من الوجود، كما يلاحظ ـ أيضا ًـ أن المعنى المفهوم لما هو كاتب وما هو مثقف أصبح مشوشاً، وفضفاضاً، بحيث يمكنه احتواء الكثير من التخصصات والممارسات  التي تندمج في سياق كبير يطلق عليه (المثقف العام) وهذا المثقف الجديد يتخذ من ( الحقل الثقافي العام) مجالاً واسعاً لنشاطه الذي يتوجه في الأساس كدور مقاوم لصور الهيمنة الجديدة.

ويعبر ( إدوارد سعيد ) عن فزعه لمغايرة الخطاب الأكاديمى بنزعته التنافسية غير المهدَدة ولغته المحكمة المليئة بالرطانة الخاصة لما يجرى في الحقل العام من حوله )، ثم يشير إلى دراسة ( ماساواميوشى رياديا) عن دور الأكاديمية  في العلوم الإنسانية، ومحاولة عزلها عن الحقل الثقافي العام، ونتيجة لذلك لم يلتفت إلى مثقفين غير أكاديمين من أمثال (جون بيلجر، والكسندر كوكبرن ).

يقول إدوارد سعيد : ((  إن الفصل بين الحقلين، العام والأكاديمي أكبر في الولايات المتحدة ـ كما أعتقد ـ منه في أي مكان آخر، رغم اللحن الجنائزي لبيرى أندرسون عن اليسار الذي يبدأ به تحرير مجلة نيوليفت ريفيو، ويعبر بواسطته عن كون هيكل الآلهة البريطاني والأمريكي، وما تبقى من الأبطال القاريين ( في أوربا ) مع استثناء واحد فقط ، أصبح أكاديمياً بصفة حصرية ، أفراده من الرجال ويعانى من المركزية الأوربية ) (3).

إن الإشارة التي يفصح عنها (سعيد) في أكثر من موضع، هي انحياز الأكاديمية بوصفها مؤسسة، لتعزيز المركزية الأوربية الأمريكية للهيمنة ـ المعولمة ـ على مقدرات العالم بطرحها لنمط ثقافي موحد ينأى عن الخصوصيات المحلية، ومن ثم فإن ( المثقف العام ) هو المخول له ـ الآن ـ القيام بدور مناهض للتعزيز المركزي، وذلك بوقوفه على يسار العالم الجديد بكل مؤسساته.

 يصور (سعيد ) الموقف الأكاديمى كما لو كان خيانة للمثقفين، وتراجعاً عن دورهم التنويري، باستثناءات قليلة يشير فيها إلى أكاديميين كبار من أمثال ( تشومسكي) .ومع ذلك ينبغي ألا يفهم الأمر كما لو أن ثمة صراعًا فئويا ًبين ما يدعوه سعيد بالمثقف العام والأكاديمي، فالأمر في تصورنا قد يكون أوقع عندما يصور كصراع بين نمطين من الخطاب الثقافي، أحدهما يسعى إلى  التأسيس والتخصص والمركزية المنمطة، والآخر تفكيكي  متغير يحترم الخصوصيات المحلية ويؤمن بالتعدد والتجاور.

وكانت الحداثة منذ نشأتها قد راهنت على العقل العلمي، واتخذت من الأكاديميات (معاقل) لها، حولتها إلى غرف عمليات تدير من خلالها العالم ، فلا يخفي أن ثمة حرباً باردة بين المؤسسات العتيقة على حكم العالم، حيث كان للعلماء اليد العليا فيها، صحيح أن الآرض الآن ترتج من تحتهم  بفضل مجموعة التقنيين الصغار اللذين يسيطرون على كل وسائط الاتصال والمعرفة، ويبشرون بنهاية العلم، لكنهم ـ هم أيضاً ـ سيتحولون قريباً إلى طغاة يحكمون قبضتهم على العالم مع تغيير طفيف في الشكل المؤسسي، ويظل الإبداع الثقافي والفردي له هذا الدور الهامشى، مقاومة كل أشكال السلطة والهيمنة على مقدرات الإنسان، مقاومة النظام الذي يطمح في أن يكون كونياً.

وإذا كان (سعيد) يعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية، هي الأكثر رديكالية فيما يتعلق بالدور الأكاديمي المؤسسي، فلا يمكننا تجاهل الكم الهائل من أفلام السينما والروايات والعروض المسرحية، بل وأفلام الكرتون التي ينتجها فنانين مغمورين يعيشون داخل المجتمع الأمريكى، تستعرض فزعها من (فرنكنشتاين) الذي قرر أن يحكم قبضته على العالم، ويلفت انتباهنا في هذا الصدد، بزوغ الوحش التكنولجي الجديد، الذي صدرته أمريكا إلى كل أطفال العالم في صورة مسلسل الكرتون (مازينجر)  أو الإنسان الآلي الجبار الذي يقوم بدور شرطي العالم، وتقوم على توجيهه مجموعة من العلماء والتقنيين في تعاضد واضح بين السلطتين، يقسم العالم إلى خيّرين وشريرين على نحو ما نطق به (بوش) في حربه على الإرهاب. مما يعنى أن الحرب الثقافية بين نمطي الخطاب ( المركزي والهامشي ) تدور من حولنا.

وإذا كان تعزيز المركزية في أمريكا وأوربا يتم على مستوى أوسع كما يلاحظ ( سعيد ) فإن اتساع مساحة الديموقراطية فيهما والتفعيل الكبير لنشاط المجتمع المدني، يحد من إحساس الفرد بالدور السلطوي للمؤسسات الكبرى، بحيث يبدو الأمر أكثر فداحة في المجتمعات التي تعاني من تقلصات ديموقراطية.

 أماعندنا فللحكاية جذور تاريخية ليست بعيدة، فمثلاً الصراع بين طه حسين والأزهر لم يكن مجرد صراع بين وعيين أحدهما ليبرالى والآخر أصولى كما يصوره البعض، ولم يكن بريئاً  كمجرد صراع بين طريقتين للتفكير، بل كطريقتين تتصارعان للهيمنة على مقدرات المعرفة، صراع بين مؤسستين أحدهما لها سلطة الوجود المقدس، والأخرى تطمح إلى دور مماثل إن لم يكن أكبر، وعلينا ألا نتوقع غير الزواج السعيد وتبادل الهدايا، فيحصل الشيوخ على شهادات الأيزو العلمية، وتمارس اللجان العلمية دور محاكم التفيش على نحو ماحدث لنصر حامد أبو زيد، فالقطة تأكل أولادها إذا خرجوا عن طاعتها، وهكذا تتراجع المؤسسة العلمية عن دورها التنويري وتقف في طابور المؤسسات الأخرى الحاكمة ( دينية ..سياسية ..عسكرية ..اقتصادية ).

تراجع الآن كثير من الكتابات موقف الأكاديمية المصرية، وهي تكاد تتفق على معنى واحد، ينتهي إلى أن فشل المشروع التنويري عندنا يرجع للاستحواذ المؤسسي عليه وانفراده بالخطاب الثقافي ولا سيما في حقول العلوم الإنسانية، دون إنصات كبير لطبيعة الحراك اليومي الذي لا يتوقف لحظة عن إنتاج ثقافته الخاصة، ويحتوي هذا على تناقض واضح، ففي حين يسعى الخطاب التنويرى إلى أن يكون متحرراً، فإنه يتحول هو نفسه إلى سلطة، ومن ثم فإن رغبة المثقف إلى خطاب تنويرى يحترم الاختلاف والتعدد باتت ملحة.

وفي مقال بعنوان (أوهام التنوير ) منشور على شبكة الإنترنت ينتهي (سعيد سلامة) إلى المطالبة بتنوير متحرر من مركزية النخبة، وهيمنة المؤسسات التابعة للدولة ( التنوير الحديث لن يكون تنويرًا واحدًا .. بل مائة ألف تنوير ، تنطلق من شتى المواضع المتباينة في المجتمع، من الجزئي والواقعي والملموس، ومن خلال ذلك يتحرر التنوير من الارتباط المطلق بالدولة، وبالتالي من إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة التي هي إحدى الإشكاليات الأساسية للتنوير المتحجر المحتضر)(4)

فالحال عندنا لا يختلف كثيرا عما تكلم عنه إدوارد سعيد بوصفه شعوراً عاماً للمثقف الجديد  بالغضب من الانحياز الأكاديمي إلى المركزية، وقيامها إلى جانب المؤسسات الأخرى كسلطة تنفي وتتعالى على كل خطاب ثقافي ينتج خارجها وفقاً لمبدأ تعاضد السلطات. 

  يطرح ليوتار في ( الوضع ما بعد الحداثة) المشكلة برمتها في صيغة مفارقة واضحة بين العلم وما يطلق عليه المعرفة، إذ تظهر المعرفة كنشاط إنساني عام يتجاوز حدود الطاقة العلمية ليظهر في صور أكثر انفلاتًا وفوضى، فهي تشمل مثلاً: كيف تعيش؟ كيف تسمع؟ وكيف تستخدم الأشياء؟ وما هي معايير الفعالية والعدل والسعادة والصوت واللون والألم والرغبة والإشباع .. ثم يؤكد على قومية ومحلية المعرفة، أما العلم فهو يؤسس للنظام والكلية من حيث سعيه إلى فرض نمط واحد للوعي بالعالم، ومن ناحية أخرى فهو يقوم على البرهان، ويفترض البرهان استحالة  إثبات الشيء ونقيضه في نفس الوقت، وهكذا فإن معكوس هذه القاعدة العلمية يبدو ممكنا ومتاحا في المعرفة، كذلك فالعلم يقوم على اللغة الإشارية        ( المحدد للأشياء) وهو مستوى أولى لخطاب لا يمكنه احتواء الرمزي والأسطوري والشعبي، بل وحتى خطاب الحياة اليومية، في حين يمكن للمعرفة التي تقوم على لغة (تقعيدية ) الإشارة إلى مجموعة القيم والمعايير التي يعجز عن تفسيرها  العلم، ذلك لأن المعرفة تقوم على منطق الحكاية  ومن ثم فالمعرفة أوسع نطاقاً من العلم.

إن المخرج الذي يطرحه (ليوتار) للخروج من أزمة العلم، هو فتح مجال أكثر انتشاراً وتداولاً للمعلومات على الجمهور العام، لأن محاولات إخفاء المعلومات باتت مستحيلة ونتائج البحث العلمي لم يعد ممكناً قصرها على نخبة من المشتغلين به، بعد أن أصبح كل شئ متاحاً ويمكن تداوله بفضل مجموعة التقنيين الصغار والمهرة الذين يعملون كوسطاء علميين.

هل يعنى هذا وجود مشكلة تواجه البحث العلمي؟

إن المشكلة التي يتحدث عنها (ليوتار) هي تهديد العلم بتفكيك حقوله ومؤسساته، ومن ثم تهديد الابتكار، ويعكس هذا حالات الفتور المعنوي للعلماء وانخفاض الإنتاجية في المختبرات والمعامل.

وفي تصوري أنه من المغالاة أن نردد مقولات متشائمة عن أفول عصر العلم، وعلى نحو ما يجاهر الأمريكي المتخصص في العلوم (جون مورغان) في كتابه (نهاية العلم) والذي وضع له عنواناً فرعياً وهو "مواجهة حدود المعرفة في غروب عصر العلم" والذي يعلن فيه وبأداء مسرحي"سيداتي سادتي! مهما كان شعوركم بالحزن كبيرًا فإننا قد تركنا كل الاكتشافات العظيمة خلفنا) (5)

ولعل مايعنيه ليوتار بتفكيك حقول العلم ومؤسساته ليس توجيه ضربة قاضية إلى العلم، ولكن توسيع النشاط العلمي بحيث يمكنه التخلي عن الدور المؤسسي أو المركزي، إلى دور أكثر انفتاحاً وإنصاتا للصوت العام، فالعلم كان ولايزال واحداً من أهم روافد المعرفة الإنسانية، غير أن نتائج البحث العلمي مهما كانت قيمتها يمكنها أن تتحلل من سياقها لتدخل في مجال آخر وليعاد تشغليها مرة أخرى في سياق معرفي أوسع، ويعنى هذا أن العلم ـ خاصة في حقول الإنسانيات ـ لم يعد يملك حق الكلام الأخير والمقدس.

وفي هذا المعنى يقول إدوارد سعيد: (إذا كان من الصحيح، وحتى من المثبط للهمم، أن المنابر الأساسية خاضعة لسيطرة أكثر المصالح قوة، وبالتالي للخصوم الذين يقاومهم الإنسان أو يهاجمهم، فمن الصحيح ـ أيضاً ـ أن طاقة فكرية متحركة نسبياً يمكنها الاستفادة من نوعية المنابر المتاحة للاستخدام ومضاعفة عددها.) (6)

وهكذا يتمثل الأمر في ذهن ( إدوارد سعيد) كبحث عن مفهوم مختلف للابتكار الإنساني لا يفترض خلق الشيء من العدم كما هو قائم في المفهوم الرومانسي للكلمة، تقوم فيه النظريه بنقد السابقة قبل الشروع في إعادة البناء، إذ يطرح المفهوم الجديد إعادة تركيب شيء من تمثيلات سابقة، وهنا يلعب المثقف العام دوراً لايمكن الاستغناء عنه، إذ لم يعد من الممكن أن تقوم المعرفة على فرض نقدي وحيد، يطرح بواسطة (مثقف فرد كبير الشأن، حاز على كل المصادر الفكرية بمفرده، أو بواسطة ناطق مخول باسم جماعة أو مؤسسة، تفترض الكلام نيابة عن أشخاص بلا صوت، أو نقابة، أو حزب) (7)

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع

[1]  ــ السياسة الجنسية الحكم النقدي ــ إليزابيث ا . ميس ـ نص مقال ترجمة د.عيسى على العاكوب ـ من كتاب (نظرية الأدب في القرن العشرين ) تأليف ك . م . نيوتن.

 

2ـ الدور العام للكتاب والمثقفين ـ ‘إدوارد سعيد ـ الكرمل العدد68

3- السابق

4- نفسه

5- أوهام التنوير، سعيد سلامة(ـttp://www.geocities.com/sameh562001/68.html)

   مراجعة لكتاب جان فرنسوا ليوتارـ الوضع ما بعد الحداثة  http://www.geocities.com/sameh562001/68.html

7  ـــ السابق


Post a Comment

أحدث أقدم