عندما تخدع الفريسة صائدها
بقلم: د. أميرة الوكيل
في بعض الأحيان يكون سياق العمل الفني حول عملية الصياد والفريسة، فالكاتب / المبدع يصبح هو الصياد، في حين تكون الفكرة الإبداعية وخيوطها الدرامية المطروحة هي بمثابة الفريسة، التي يغويها الكاتب حتى يقتنصها.. ما إذا كانت لدى الفريسة التي ـ من المفترض أن تقع في شباك إغواء الفن والإبداع ـ ماذا إذا كانت لديها القدرة على التحرر وخداع الصياد، والتغلب على عملية الغواية؟ ماذا إذا أصبح الصياد هو ذاته الفريسة ووقع في الغواية ؟ هل يمكن أن تقوم الشخصية باصطياد المؤلف؟
خطر إلى ذهني هذا التساؤل بعد مشاهدتي لعرض "نساء شكسبير" وهو من تأليف"سامح عثمان" وإخراج "محمد الطايع" الذي قُدم ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري على خشبة مسرح الجمهورية .
بطل العرض هو الكاتب الإنجليزي الشهير "وليم شكسبير"، المؤلف العظيم هنا في المسرحية يخوض رحلة تهميشه وتحوله إلى إحدى الشخصيات الدرامية التي وقعت في غواية الحب والكتابة؛ بل وقع في غواية شخصياته الدرامية التي يكتبها، فلقد كتب قديما "لويجي بيراندللو"مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"التي تحكى عن ست شخصيات درامية رفض الكاتب وضعها في عمل فني مكتوب على الورقة ومنحها الحياة، لهذا تمردوا عليه ولجأوا إلى تقديم قصتهم على إحدى خشبات المسرح، أما في عرض "نساء شكسبير" فالكاتب ـ وهو وليم شكسبير ـ وقع ضحية لست من شخصياته النسائية التي صاغها في بعض المسرحيات وهو الذي تم اصطياده ونسجه داخل قصصهن، وهي "هاملت" و"روميو وجوليت" و"ماكبث" و"حلم منتصف ليلة الصيف" و"عطيل" و "أنطونيو وكليوباترا" .
لقد كان "شكسبير" ـ وسيظل ـ كما يصفه "بيتر بروك" بأنه مثل قطعة من الفحم تشتعل لترشد العالم بإنارتها، التي أتاحت تعدد التفسيرات والقراءات والتأويلات والتفسيرات، إذ لجأ العرض إلى هذا التكنيك النقدي لمناهضة ما رسمه وقدمه شكسبير عن المرأة، بما يتوافق مع الفكر الكهنوتي في ذلك الوقت، فالبنية الدرامية لدى شكسبير ذات سياق فني مسرحي يتسم بالمرونة ومشحون بالتفسيرات والقراءات الفنية والنقدية المتعددة، وهو ما يتيح إمكانية إعادة الإنتاج والتلاعب والتناص داخل نصوص شكسبير وفيما بينها، وهو ما تجلّي في العرض المسرحي "نساء شكسبير" من تشابك ومزج النصوص معا .
هذا السياق الدرامي يهدف إلى كشف العوالم الدفينة والمسكوت عنها خلف ستار الدراما، بِوصفها دعوة للتجول فيما وراء الكتابة، بحيث تتشابك وتتضافر نصوص شكسبير معا، فقديما لم يكن للنساء مكانا علي المسرح، وكان الرجال أو الصبية يقومون بأدوار النساء، ففي فيلم" Shakespeare In love" تناول تلك الافتراضية بجعل سيدة تعاني من تهميش المسرح للنساء، وتلجأ إلي التنكر في زي رجل لكي تُقدم أحد الأدوار في مسرح "شكسبير" بسبب عشقها للتمثيل ولـ "شكسبير"، وهذا يُدلل علي صورة المرأة المهمشة وكبت رغباتها وطموحاتها، لذا لجأت الشخصيات في العرض "نساء شكسبير" إلي معاقبة "شكسبير/ بطل العرض"؛ باعتباره كان مساهما في بلورة وتأكيد هذا الخطاب .
منذ بداية العرض قامت "آيلين"ـ ملهمة وعشيقة شكسبير ـ بخداع وغواية حبيبها عبر دعوته إلى حفلة خاصة، هي حفلة تدين تصرفاته حول النساء من خلال ست سيدات يرتدين ملابس بيضاء مختلفة التصميم حسب شخصياتهن الدرامية، فظهرن كأطياف شكسبيرية، يجلسن على ستة مقاعد بيضاء مصفوفة على جانبي المسرح، وخلف كل كرسي ستارة منسدلة محملة بأيقونة ودلالة ما بين عمود فرعوني ومنظر لغابة أو بوابة قصر.. إلخ، بحيث تُشير إلى المسرحيات الست التي أستقى منها المؤلف مشاهد شكسبيرية شهيرة، فتجلت الفتيات كالتماثيل والتحف الفنية التي أبدعها "شكسبير"، ثم اكتسبت لحما ودما وتمردت على كاتبها وخرجت من إطاراتها الدرامية .
إذ تجلت الشخصيات النسائية وهن يتنافسن على الأجدر بالبراءة وذات الشأن النبيل عبر استعراض خصالهم الملكية، حيثُ قامت "إيلين" والفتيات باستعراض مع "وليم شكسبير"، صممه الفنان "مناضل عنتر"والذي عبر عن امتعاض ومناهضة الفتيات لـ شكسبير وتصوارته عن المرأة، فجاءت تحركاتهن متقنة ومعبرة، تدريجيا نكتشف أن العرض لا يهدف إلى التمرد والتحدي فحسب؛ بل أنه بنية درامية أقرب إلى محاولة تفكيك هذا الكيان الشكسبيري الهائل، فالحضور الميتافيزيقي في دراما شكسبير، بدا هزيلا أمام محاكمة وتحدى الشخصيات النسائية المكتوبة، لقد قامت الفتيات بتحدي هذه الإيديولوجيا الفكرية المسرحية المجسدة في شكسبير، بوصفه أسطورة الدراما الانجليزية خاصة وأعظم وأشهر الكتاب الدراما عامة.
تبدأ لعبة تمثيلية مشتركة بين الشخصيات، فكل شخصية من الشخصيات النسائية تُقدم مشهدًا من دورها؛ لكي تُثبت غواية الكاتب/ المؤلف وتتهمه بالقسوة والتطرف، فكان شكسبير بِمثابة شخصية الجوكر في العرض، فأدى كل شخصيات البطولة الذكورية المساعدة أمام شخصياته النسائية، بدءا من "هاملت"و"روميو" و"ماكبث"وصولا إلى "بيبرون" و"عطيل" و"أنطونيو"، ولقد قدم "أكرم" الدور بذكاء عبر وسياقه المشحون بالانفعالات والتناقضات والشخصيات المتعددة،
بدأت اللعبة المسرحية بمشهد ملكة الدنمارك "جرترود" (والدة هاملت) التي لعبت دورها هبة العطار وقامت بمهاجمة شكسبير على قسوة هاملت، بسبب اتهامه لها بالخيانة بعد زواجها من عمه، وتنتهي حياتها بتناولها بالخطأ نبيذ مسموم، ثم قامت أنغام الغنيمي بدور جوليت عبر أداء متناسق يمتاز بالفكاهة، حيثُ يسخر من وطأة الأحداث المأسوية لدى شكسبير التي انتهت بتوديع الشابان للحياة، أما الليدى ماكبث قد برعت وأتقنته نور عبد الرحمن عبر تجسيد للجوانب السيكولوجية المتأرجحة بداخلها، وبلورد ذات مشحونة بالآثم وجرائم القتل التي دفعتها للخلاص عبر الانتحار .
الملكة الرابعة هي ملكة الجن تيتانيا من مسرحية "حلم ليلة منتصف الصيف"ولعبت دورها فاطمة على وقد أضفت على شخصيتها صوت مميز وأداء ساخر ولافت يمتاز بالحيوية، أما شخصية ديدمونة جسدتها ناهد السيد بانفعال متوازن يبرز غيرة عطيل في مشهد القتل الشهير، وأخيرا قامت بدور كليوباترا سلوى أحمد فقدمت بقوة وببراعة وإتقان الهيئة الملوكية التاريخية، كل هذه الشخصيات تساعدهن إيلين العشيقة والتي أدت دورها بخفة وبتلقائية سلمي جابر، فهذا الكاتب قدم لهن نهايات دموية وسوداوية، فبعضهن قُتل بشكل مأساوي، والبعض الآخر لجأ إلى الانتحار، وأخريات ظهرن في صورة المرأة اللعوب الشريرة، فبعد أن قام شكسبير بغوايتهن، قررن الآن غواية المؤلف.
تأرجح الزمن عبر سياق جمالي بين الزمن الواقع وبين زمن الشخصيات في النصوص الأصلية، فلقد تم صياغة البنية الدرامية من خلال تناص مع بعض مشاهد من مسرحيات شكسبير، وإن بدت بعض المشاهد الأصلية طويلة بعض الشيء، رغم أن المتفرج على علم بأحداث المسرحيات؛ لكنه مع ذلك حقق حالة من التوازن الدرامي، مما جعل الأحداث تسير على خطا تفكيكية وساخرة للبنية الشكسبيرية، وخاصة عندما حاول شكسبير الدفاع عن الحتمية الدرامية والمقدمات والنتائج في نصوصه .
مسرحية ماكبث والساحرات الثلاثة تصطف الكراسي صفا كجسر للغابة للغرور
قامت إيلين بدور العشيق ذو وجه الحمار، عندما ارتدت قناعا سحرت به ملكة الجن
في نهاية العرض أطلقت نساء شكسبير التي جسدت العرض أوصافا ما بين جرائم القتل وفساد وانحراف ذكوري إلخ ، فكل واحدة تتقاذفه وتدفعه للأخرى وهي تطلق عليه التهمة أو اللفظ إلى أطلق عليها، فيطلب منهن العودة لأماكنهن ويمنعهم عن التمرد، ويقوم بالإسقاط إلي النص الجديد القادم عندما يشير إلى أنه ينوى رؤية إيلين حين تمطر عاصفة ورقية .
رغم إن عملية التفكيك في النص لا تنشغل كثيرا بالغاية آو بالهدف أو البنية التراتبية، إلا إنه كان ثمة نص محكم داخل العمل المسرحي، لكن تحاور النصوص السابقة مع الخيط الدرامي الرئيسي في زمن شكسبير، هدف إلى تفتيت هذا الحضور الميتافيزيقي لشكسبير، وتفكيك مركزية النص عبر لغة بوليفونية بين عدة خطابات مختلفة، بحيث زعزع النص المعنى اللاهوتي لدراما شكسبير من خلال تصادم وتشابك لعديد من الرؤى الفكرية والجمالية، هذا يحلينا إلى ارتكاز العرض على تكنيك إعادة قراءة أو إعادة إنتاج لنصوص شكسبير بشكل إبداعي، وكأن الكاتب لا يتحدث على لسان شخصياته بقدر ما يفجر الحوار، فرغم أن النص اعتمد على مزج بعض المشاهد الشكسبيرية المعهودة لدى المتفرج دون تعديل مع تضفيرها داخل نسيج دراما خيالي خاص بزمن شكسبير،لكن تجلى النص / العرض في سياق تجربة مسرحية وآلية درامية ألت إلى تهميش شكسبير/ الكاتب، وفي المقابل عملت على بلورة الشخصيات النسائية الشكسبيرية في مركز الصورة المسرحية، وهذا يجعلنا لا نرى أن تلك التجربة ليست مجرد تمرد نسائي على شكسبير، ولكنه سعي نحو تفكيك هذا التناسق والهرم الدرامي الشكسبيري. وتقويض حضور الثقافة الغربية المتمثل في الكيان الشكسبيري، عبر إعادة تدوير تلك المادة الدرامية .
فالتجربة نجحت في إثارة الأسئلة وتشكيل لغة نقدية وفنية أكدت على أن الخيط الدرامي لديه القدرة على الإنتاج باستمرارية، فالفن لا يتوقف بموت كاتبه.
في هذا العرض يحيل معنى البطولة المفردة إلى أدوار بطويلة صغيرة متعددة، تتجاور وتتحاور مع بعضها البعض، فالضوء لا يسلط على بطل بعينه، وإنما كل من الشخصيات تمتلك جزء من الحضور، عدا شكسببير أقلهم حضورا، ففي العرض صار دور الرجل الوحيد الذي يلعب دور شكسبير والذي يقوم بتمثيل عدة أدوار للبطولة الذكورية أمام الشخصيات النسائية، سواء شخصية هاملت أو حبيب ملكة الجن أو أنطونيو أو روميو أو ماكبث أو عطيل، فلقد كان شكسبير وسيظل أرضا للصراعات والتفسيرات وإعادة القراءات مرة أخري، بحيث يقلل من تلك الذات الشكسبيرية المتضخمة .
لقد استغل المخرج ببراعة تكنيك النص وتحولاته الزمنية، وملأ الفراغ المسرحي لديه عبر عنصر متحرك وآخر ثابت يناسب لطبيعة الانتقالية للزمن، بحيث تتماهى المسافة بين زمن شكسبير ونسائه اللاتي قررن الانتقام من كاتبهم، وبين زمن آخر تستحضر فيه السيدات مشاهدهن الدرامية، فحين تبدو مشهد انتقامي يتهم شكسبير، وحين آخر يبدو كاسترجاع للمشهد، فكان العنصر الثابت هو تلك الستائر المنسدلة التي استخدمت كأيقونة دلالية، أما العنصر المتحرك الذي استطاع أن يشبع المكان بدلالاته الجمالية من خلال حركة الشخصيات في أداء أدوار كثيرة وحركاتهم في المكان والكراسي البيضاء التي شكلت في استخُدامات عدة في المشاهد الشكسبيرية .
إرسال تعليق