أدب الغضب  والعنف في 

مزالق المهالك، بقلم: سيد الوكيل






 


 

ربما لانجد أى صلة ظاهرية بين المسرحى الفرنسى (أنتونان أرتو) ، مؤسس مسرح القسوة على نحوما يظهر ـ حتى ـ من أسماء مسرحياته مثل : (إنبجاس الدماء  ـ صدر محترق ـ سقوط منزل آشار )  والقاص التونسى ( بوراوى سعيدانة) صاحب محموعة قصص "مزالق المهالك "  .

ومع ذلك فثمة صلة وثيقة بينهماعلى مستوى المرجعية الفكرية التى تنطلق منها كتابات كل منهما ، فثمة شيئ مشترك وجوهرى بينهما وهو القسوة التى اشتهر بها مسرح ( أرتو ) ، ليجسد من خلالها فكرته عن تطهير الإنسان من البدائى المتوحش الذى يسكنه، وذلك بإخضاعه لأكبر قدر من الألم والتعذيب النفسى والجسدى ليخرج طاقة الغضب داخلة، وهى طريقة تذكرنا بأساليب علاج المرضى النفسيين فى العصور الوسطى، عندما يكون الضرب والتعذيب وسيلة لإخراج  الشياطين التى  تسكنهم .

والسخرية التى تصل إلى حد التجريح والإيلام النفسى أحد وسائل( أرتو ) ، عندما يضع شخصياته فى مفارقات حادة وقاسية تكشف قبحها وتشوهاتها  الداخلية ، ولهذا فهو لايتعاطف مع شخصياته أبداً، مهما كانت بسيطة وهشة ، بل  كلما كانت كذلك كانت أكثر مدعاة للسخرية منها والقسوة عليها.

إنه نفس الأسلوب الذى يتعامل به ( بوراوى سعيدانة) مع شخصيات قصصه، حين يخضعها لتجارب نفسية شديدة القسوة تصل بهم إلى حد الجنون، أو كما يقول هو إلى مزالق التهلكة، وكأنما يسعى لتطهير المجتمع منها، فإذا كان الناس ينقسمون بين (أشرار وأخيار)  فإن الخير وحدة لايكفي، إذ ينبغى أن يكون مدعماً بالقوة والوعى الحاد، لهذا فإن الكائنات الطيبة المسالمة مثلها مثل الكائنات الشريرة يجب الخلاص منها.

فصابر فى قصة ( سارق الشمس ) يتهم بتهمة عجيبة وهزلية، صابر شخص مسالم هامشي، عاش حياته يمشي فى الظل بجوار الحوائط، ويحمى صلعته من الشمس، ولكنه مرة واحدة فعلها، مدد جسده في الشمس، لكن الناس لايحتملون هذا الطموح المتواضع، فيحكمون عليه بفصل رأسه عن جسده وتركه فى العراء تحت الشمس حتى يجف.

أما القسوة التى يتعرض لها القارئ، فتأتى عندما لا يفهم لماذا يتعرض شخص مسالم كصابر لكل هذا العنف، إن مصير صابر يأتى بمثابة صفعة على وجه القارئ الذى اعتاد التعاطف مع الكائنات المسالمة، بوراوى سعيدانه يهز وعى القارئ بعنف، عندما يشحنه بالغضب على مصائر الطيبين ، ويدعوه للتفكير . . لماذا كائنات هشة ومسالمة تستحق كل هذا العنف؟.

غير أن عنف بوراوى لايتوقف عند هذه المفارقات على حدتها ، بل يمارسه من خلال اللغة الخشنة والجارحة التى يصدم بها قارئه ، ليس فى ذائقته فقط ، بل فى قناعاته ومعتقداته أيضاً ، ربما يسعى عبر هذا إلى خلخلة قناعاتنا بالنظم والسياسات التى تحكمنا بغض النظر عن مرجعياتها السياسية أو الدينية أو حتى الاجتماعية .

لهذا هو ينال من الرموز التى ارتضتها الثقافات الشعبية والرسمية على السواء ، ففى قصة ( صاحب المقر ) يقفز على الأماكن والتواريخ والثقافات ليجمع من رموزها حشداً يسخر منه باعتبارهم مجرد صور وأيقونات تعيش بلا معنى على الأوراق النقدية المدنسة ، يقول .. ( أخفى يديه  فى قفازين شفافين تحاشياً لتدنيس يديه الكريمتين بوسخ الدنيا ، وهى الأوراق  النقدية الحاملة صور بورقيبة ، وحنبعل ، وابن خلدون ، وأبى القاسم الشابى ) .

إن هذا الجمع فى حكم واحد بين شخصيات لاعلاقة فيما بينها  سوى وجودها  ـ بمحض الصدفة ـ على النقود ، يمثل رغبة الكاتب فى إطلاق غضبه على مساحة أكبر من الواقع و والمتخيل معاً وكأنما هو شخص أمسك بمدفع رشاش وراح يطلق النار فى  ميدان عام بلا تمييز أو انتقاء .

وثمة أحداث تخلق على نحو ( فانتازى ) لتكون مبرراً هزلياً للعنف ، وهو ما يضطرة لخلق شخصياته فى صور مفارقة للواقع نفسه ، حتى تتحول إلى مجرد رمز على نمط من أنماط السلوك الإنسانى ، ولكنها تظل قادرة على تحريك غضبنا وسخريتنا منها ، ففى قصة ( مسرد الأيام ) يبتكر شخصية ( العم جوعان ) ويصفها بطريقة تذكرنا بالجاحظ فى ( التربيع والتدوير ) وهو يسخر من شخصياته ، يقول بوراوى سعيدانة ( بطن العم جوعان تلوح كالبرميل ، يمكنها أن تجمع موائد الأغنياء والفقراء دفعة واحدة ، وهو قصير القامة ، زئبقى فى الكلام ، صلاته حاضرة ، وحجاته سبع وزيادة ، وعمراته بلا حساب ، لايشرب الخمر ويشرب عرق العمال والكتاب والشعراء ) .

كان ( أرتو ) أيضا يصور شخصياته على هذا النحو الهزلى ، ويجعل منها مسخاً مشوهاً يجمع بين متناقضات عدة ، ويبقى ملمح أخير بين ( أرتو ) وسعيدانة وهو ميكانيكية الأداء الإنسانى ، فالناس تتحرك كآلات مجردة من أى بعد إنسانى ، ففى قصة ( ورشة القص ) ، يتحلق عدد من النقاد حول منضدة لمناقشة قصة قصيرة ، ثم فجأة يخرجون من حقائبهم وجيوبهم مفكات ومناشير ومطارق وأدوات حادة مدببة ويبدأون فى تمزيق القصة ويلقون ببعض أجزائها هنا وهناك ، ويسحقون البعض الآخر تماماً ، وهو كالعادة يستخدم لغته الحادة والعارية من أى مشاعرية ليكشف عن طاقة الغضب والعنف التى تسكن البشر حتى وهم يتعاملون مع أكثر الأشياء شاعرية وهو النص الأدبى ( وخشى كبيرهم أن يحدث تصادم بين الصعاليك والأكاديميين، ففرق بينهم مباعداً بين المقاعد، ثم أشار صاحب الكلابتين الكبيرتين على كبيرهم بأن يفككوا الجمل إلى كلمات، والكلمات إلى أحرف، والأحرف إلى أنصاف أحرف، ثم وضعها على محك سندان النقد الحديث وطرقها حتى تضمحل).

وأغلب قصص المجموعة ( ذات مغزى )  بمعنى أن ما يظهر منها يبدو كرمز وما خفى كان أعظم، وهى ذات طابع سياسى تهكمى يصل إلى حد جلد الذات، فهو لا يسخر من الحكام فقط بل من الشعوب أيضاً، وكثير من قصصه تقوم على فضح السياسات العربية المتناقضة والخانعة، ففى قصة ( قرار مجلس الأمن الدولى ) يظهر العرب كائنات مثيرة للغضب أكثر مما تثير الشفقة . 

إن أغلب قصصه ذات عناوين واضحة ومباشرة، وهو ملمح يتأكد فى لغته عموماً، إذ تتناوب المباشرة والفانتازيا والسخرية كل القصص لتجعل منها حالات متعددة من الأداء الخشن والعنيف والمباشر بهدف تحريك وعى وذهن القارئ لا دغدغة مشاعرة ، وهو فى هذا يتفق ـ أيضاً ـ مع ( أرتو ) ، غير أن الأخير لم يكن يثق فى وعى وذهن المتفرجين ، فهم مثل كل شخصياته المسرحية يستحقون الألم والتعذيب الذى وصل أحياناً إلى حد إطلاق الرصاص الحى عليهم وإصابتهم بحالة من الرعب والهوس الدموى لكى يخرج شياطين الغضب من أعماقهم .

SALWAKIL@HOTMAIL.COM





Post a Comment

أحدث أقدم