الشنب...
بقلم: محمد مستجاب
الشنب...
الممتزج بأخلاقنا وتقاليدنا ورجولتنا وقدرتنا الفائقة على الصمود...المتناغم مع دفء الفم وارتياح العيون.
إذا كانت الحواجب هي أول ما يثيرك ويجذبك في وجه المرأة، حيث درجة تقوسها وغلظتها وكثافتها ورُفعها ودقتها، قبل الفم والخدود ولون العين، فأن الشنب هو أول ما يثيرك أو يضايقك في وجه أي رجل، حيث يظل الشنب عنوان أو يافطة على وجه الرجل، وعن طريقه تستطيع أن تستنتج شخصية من تشاهده أو تتحدث معه، حيث يظل الشنب قادر على إظهار شخصية هذا الرجل: خشن أو هادي الطباع، حاد أو ماكر أو خبيث أو حتى أبله، كل ذلك تستنتجه فور رؤيتك لشاربه، وبالطبع كل ذلك سوف لا تعلمه إذا كان الوجه الذي تطل فيه بدون شنب.
لذا ظل شنب ( محمد أبو سويلم ) والذي قام بدوره الفنان الكبير وحش الشاشة العربية محمود المليجي في فيلم الأرض عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، مهين على عقلي وفكري منذ سنوات الطفولة حتى الآن، كان هذا الرجل عائداً مع رجال القرية من المركز- مكسور الروح - وهو يضع على وجهه ( التلفيحة ) كي تخفي ما أصابه بيده وكي يدراي وجهه بعد أن تم حلق شنبه في المركز، وهي أكبر إهانة لأي رجل، ومع إن محمد أبو سويلم كان معه الكثيرين من أهل القرية والذين نالوا الضرب والصفع وشرب ماء البول، إلا انه الوحيد الذي كان مكسور الروح والجسد، ملابسه ممزقة وصديريه مثقوب، وكأنه مطعون من الداخل والخارج، ليظل هذا المشهد يفح بالألم والانكسار والخنوع والذل وكسر رجولة وروح أي رجل، وفي المقابل كان ( شنب عتريس ) كبير الدهشانة والذي قام به الفنان محمود مرسي في فيلم ( شيء من الخوف )، شنب تقف عليه الصقور، شنب عريض، حاد، بارز، يدل على الطغيان والجبروت والقوة والقسوة، شنب قادر على إرباك اقوي واعتي الرجال، شنب: يثير في النفوس الرعب والخوف، فيرضخون له وينفذون أوامره.
وبين حلق شنب محمد أبو سويلم في المركز وجبروت شنب عتريس كبير الدهاشنة، يتأرجح الشنب المصري، سواء في الصعيد أو بحري أو الصحاري، وإذا كان ما يميز رجال الصعيد هو شنبهم، والذي يجب أن نوضح هنا أن الصحيح كلمة ( الشارب ): حيث أن الشارب فاعل من شرب، والجمع شُرَّابُ، وهو ما ينبت على الشفة العليا من الشَّعْرِ، وطرفاه: شاربان، والجمع شَوارِبُ، ولكننا استسهالا وفي لغتنا الدارجة أتأثرنا بكلمة الشَّنَبُ: وهو جمال الثغر ( الفم ) وصفاء الأسنان، يقول ذو الرَّمة.. وفي اللثات وفي أنيابها شنب، والمحدثون استعاروا الشنب للشارب واستعملوه حتى تناسوا الأصل، وامتداد للنسيان الذي يحيط بالكثير من حياتنا، فإننا أصبحنا لا نميز بين الرجل وجبروته وقوته من خلال الشارب، حيث تراجع الشنب للخلف وأصبحت علامات أخري تدل على الرجولة والقوة والجبروت والطغيان أولها بالطبع المال.
لكننا نظل جميعنا - واقصد الرجال - خلال انتقالنا من مرهلة الطفولة للمراهقة: نحلم بظهور الشنب في وجوهنا، وكأننا ننتظر ظهوره أو ننتظر مجرد أن ينبت فوق الشفاه، حتى ولو كان ما يظهر مجرد ( زغب خفيف ) حيث يقوم القلم بعد ذلك بدوره في تثقيل وتوضيح تلك الشعرات القليلة، فظهور الشنب في تلك الفترة من عمرنا دليل على انتقلنا لمرحلة أكثر خطورة وبهائا وقوة في عمرنا، بل أن الشنب يجعلنا نشعر برجولتنا ونحن نقابل حبيباتنا، حيث يجب أن تلمح - الحبيبة - الشنب الذي ينبت ومدي كثافته وعرضه وتناسقه مع ملامح الوجه، مع قول بعض العبارات التي تناسب هذا الشنب مثل: حبي لكِ عبادة.. ولن نترك بعض مهما حدث.. مش ممكن حبنا ينهزم.. لازم نقف قدام الكون.. إن الشنب هنا له دوره البارز والهام لإكمال هذا الحوار العاطفي الدافيء، والذي بالطبع سوف يختلف تأثيره وعمقه عما نقوله بدون شنب.
وتربيه الشنب أي الاحتفاظ به أو حلقه في مجتمعنا سواء كان ( صعايدة أو فلاحين أو أبناء مدن ) يختلف طبقا لتأثير المهنة، سواء كانت غريبة أو عالية المقام أو وضيعة، فلا احد يستطيع أن ينسي شنب ( عشماوي ) في كل الأفلام المصرية، ذلك الشنب الحاد المعقوف والذي تشعر انه يمتد ويطول إلى أن يشترك مع الحبل الذي سوف يلتف حول رقبة المشنوق، أن منظر عشماوي في أي فيلم رأيناه يثير الرجفة والفزع والخوف، مع أنه في الحقيقة إنسان بسيط جدا، ليس جبارا أو خشنا أو مفزعا، لكن مهنته فرضت عليه الكثير من الملامح أولها هذا الشنب الحاد الذي يلتف حول رقاب المشنوقين، أي تلتف عنيفة قاسية حول رقاب المتهمين، يساعده في ذلك حاجبان غلاظ بالطبع، وهو بالطبع يختلف عن الشنب الرفيع والذي يكون محاذيا للشفاه وبينه وبين الأنف مسافة محلوقة، لقد تميزت به طبقة الموظفين في بعض الأحقاب، وهو شنب تشعر بأن شعراته قد وضعت بالعدد، تتناسب مع الموظف ومكانته الإدارية في الديوان الحكومي.
لقد كان الشنب إشارة واضحة لتحديد الوضع الاجتماعي: واقصد بذلك أن زعيم القبيلة أو القرية القديمة له شنب ضخم، حاد، مقوس أحيانا، وقد يختفي فمه أسفله من ضخامته وكثافته وعرضه، وهو ربط للمكانة الذي يتميز بها الكبير في القرية أو القبيلة، ولكن الاثنان الآن تلاشوا الكبير وكذلك الشنب.
والتعامل مع الشنب له دراية خاصة، حيث أن العناية به تحتاج إلى كثير من الصبر، كي يظل محافظاً على رونقه، لذا فالكثير يقومون بصبغه سواء صبغة سوداء، أو بالحناء، والكثير من الرجال تقف أمام المرآة لضبطه وتهذيبه، انظر للقرية كلها وقد جلس كبيرها على دكته أو مقعده الأثير في استقبال احد الزوار، أن أول ما يستقبله ليس كف يده بل شنبه، وبالطبع فأنه أثناء الحديث يجب أن يمر بأصابعه على شنبه، تأكيدا لمكانته وقوته أو لإصداره أمراً بالغ الأهمية، أو شاهده وهي يفكر لحظات ثم يعبث بأصابعه في شنبه، وكأنه سوف يساعد الكبير في اختيار القرار الصائب.
وكل ذلك يدل على دور الشنب وأهميته في وضع الرجل اجتماعيا، لذلك انتشر خلال المعارك - خاصة في الأماكن الشعبية في العاصمة - عبارة قوية وهي: اكبر شنب فيكو يوريني نفسه، وهي عبارة صريحة ومباشرة في التهديد والوعيد، حيث يقولها المتعارك منتظراً أن ينازله أكبر شنب، أي اقوي رجل في الحارة أو الشارع، وبعد تلك العبارة كان يهبط الفتوة والذي كان شنبه بالطبع أكبر شنب لتبدأ المعركة، ولان الشارع أو الحارة المصرية قد خلت من الفتوات فلم يعد أحد يستخدم هذا التهديد الشهير، بل أنه لن يهبط أحد من أي بيت كي يصارع هذا الرجل.
كما أن المرأة المصرية كانت تحب وتعجب بالرجل الذي يربي شاربه، بل ويزاد حبه لها نظرا لتناسق شنبه وضخامته مع ملامح وجهه، فهذه الأبيات والتي كانت تقولها المرأة عندما تلد – بنت - لما قالوا دي بنت، كانت لحظة زى الزفت، والعصيدة بقت فرط والبلح بقي عقارب، عمال يلدغ في الشوارب، أنها ليست أبيات شعرية، بل هو - عديد - لامرأة تخشي على رجلها من خلفتها للبنت، لذلك يصبح شنبه متآكل ومتساقط نتيجة إنجابه للبنات.
شنب بريمة
لقد فرضت السينما المصرية نظره خاصة للشنب، ونحن نتذكر هنا عبارة في اوبريت ( الليلة الكبيرة ) للشاعر الكبير صلاح جاهين والتي يزعق بها أحد رجال المولد ويقول: أنا شجيع السيما..أبو شنب بريمة.. أول ما قول هلي أب وصرخلي صرخه.. السبع يتكهرب ويبقي فرخة، ليظل في العقلية المصرية أن الرجل صاحب الشنب هو بالطبع قوي ويستطيع تحطيم أشد الرجال ليس بيده بل بشنبه.
لقد كان الشنب وسيلة للتحكم والقيادة والدفاع والحماية وإصدار القرارات الخطيرة للقبيلة، لكن الأمر تطور – وهذا ما فعلته الدراما - فلم نعد نستطيع أن نفرق بين شنب الكبير ولص مطارد في الجبال، أو تاجر آثار وسلاح ومخدرات وبين رجل ريفي عادي، لم يعد الشنب من مميزات الرجل سواء في الصعيد أو الوجه البحري، ليكون المكيدة والفخ التاريخي للرجل العربي تنازله عن شنبه بكل بساطة، سواء كانت شعراته ناعمة رقيقة مثل ملمس الانثي أو كانت خشنة و( منكوشة ) وغير مهذبة كملمس المعاهدات والاتفاقيات الناجمة عن الحروب، والتي يفرز منها أن الكبير لم يعد كبيرا، كما لم يعد له شارب مميز له ولمكانته
لكن الغريب أن الدراما السورية - وهذا ما لاحظناه خلال السنوات القليلة الماضية - ترد على ذلك، فقد انتشر الشنب في الكثير من المسلسلات السورية، جميعها – اقصد الشنب – سوداء وغارقة في اللمعان، ومعقوفة، حادة بقوة، وكأنه من العيب أن يظهر الممثل بدون شنب، وقد وضح هذا أكثر في مسلسل ( الحارة السوري )، لكن الدراما المصرية وضعت الشنب في مركز مختلط، وخاصة في المسلسلات التي تدور في الصعيد، فلم يعد الشنب يميز بين كبار القوم ورجال الليل، أو بين مطاريد الجبل واللصوص وبين البهوات والبشوات، لقد ساعدت الدراما المصرية على تدمير النظرة إلى الشنب، بل جعلته مجالا للسخرية الآن، لان الكثير من المخرجين لا يدركون قوة وتأثير الشنب في عقلية المتلقي - المشاهد - كما أن الكثيرين من الممثلين لا يعرفون الفرق بين شنب أحد مطاريد الجبل وأحد كبار القوم، فسوف تري شنب الاثنين منظمين وغارقين في السواد ولامعين، فلا أحد يفكر كيف يكون رجل مطارد ومختبئ في الجبال أن يضبط شنبه ويشذبه بتلك الطريقة التي نراه بها، لذا لم نعد نتذكر الدور الذي يلعبه أي ممثل لاختلاط الأمر وتشابهم جميعاً.
لقد ارتبط الشنب بالكثير من الممثلين المصريين وأصبح أهم ما يميزهم، بدء من أنور وجدي وعماد حمدي وكمال الشناوي وفريد شوقي والمليجي ورشدي أباظة وعبد الفتاح القصري، حتى الخواجة بيجو في برنامج ساعة لقلبك والذي أصبح من العلامات المميزة له، وشنب الممثل زكي رستم، والذي جعله يلعب الكثير من ادوار البشوات والفتوات وأصحاب النفوذ والجبروت، ذلك الشنب الذي كان دائماً يتحسسه في معظم مشاهد الفيلم كي يزيد تأثيره الدرامي وهو يتحدث، لكن شنب زكي رستم تم حلقه على يد فتاة صغيرة وهي ( فيروز )، وذلك في فيلم ( ياسمين )، عندما قامت الطفلة ( فيروز ) بحلق شنب جدها ( زكي رستم ) كي تستطيع أن تقبله، وعندما استيقظ زكي رستم وبدأ يتحسس شنبه فلم يجده، فلم يثور زكي رستم ثوره عارمة أمام ابتسامه حفيدته وإجابتها البسيطة: كنت عايزة أبوسك وكان بيشوكني ، لذا تغاضي زكي رستم عما فعلته حفيدته، واعتقد لو كان فعل ذلك به أي شخص آخر لكان قتله، ويعتبر آخر ممثل مصري كان الشنب من احد مميزات شخصيته كان الممثل احمد زكي في دور ( منتصر ) في فيلم الهروب للمخرج عاطف الطيب، لقد كان شنب منتصر من مكملات الشخصية، ليس دخيلا عليها، وليس كبيرا بشكل لافت، بكل كان متناسق مع وجهه ودوره كانسان مظلوم مطارد، لكن يظل معظم أبطال فيلم ( النوم في العسل ) وقد تم تدمير شنابتهم أو سقوطها بعد أن كانت منتصبة وعالية وشامخة، دليل على انكسار الرجل وعدم قدرته، وفي مشهد يظل غالياً على السينما المصرية عندما ينظر الفنان عادل أمام لشنب الساعي وهو يقدم له القهوة ويقول، دون أن يخبره أحد : حلوان انضربت، نتيجة هبوط شنبه وانكساره.
لقد تراجع وانزاح الشنب للخلف من وجه الرجل، ولم يعد احد يهتم بالشنب اليوم، لذلك نادرا الآن أن يثيرك الرجل ويجعلك تهتم به من شنبه، لكن يظل شنب وكيل النيابة الذي كان يحقق معي خلال فترة الجامعة نتيجة ضرب طالب تحرش بالفتاة التي اجلس معها، شنب مقلق حقا، لقد كان متناسق مع وجهه وملابسه، بالإضافة إلى مهنته، شعرت حينها إنني سوف اعدم على تلك الحادثة، خاصة وانه كان ينظر لي إنني فتوة وجبار وقد ضربت هذا الطالب ظلما، بينما يظل شنب صديقي العزيز ( عز العقدة ) وهكذا اسمه وهو محامي، الوحيد من الأصدقاء الذي يحتفظ بشنب فوق انفه، يذكرني بصورة من الماضي وهو يعتني به دائما ويبرمه لأعلى ويقوم بصبغه بالحناء، لذلك تراه دائما أحمر اللون مائل للصفرة، وعندما سألته ذات مرة: أن أحدا لم يعد يهتم بالشنب، كما انه لم يعد من مميزات الرجولة أو تحديد الوضع الاجتماعي، كانت إجابته الرافضة والقاطعة، فقد أكد لي: أن الشنب له دور الكبير في نفوس من يشاهده حتى الآن، وهو يهتم به لآن هذا الشنب يجعل القاضي في الحكمة أو الضابط في القسم، يشعر بثقل وهيبة المحامي الذي يقف أمامه، وهو شيء يجب أن يوضع في الاعتبار عند النظر في القضية أو المتهم الذي يدافع عنه صديقي: عز العقدة.
اخطر اشكال الشوارب
يظل الشنب - رغم تراجع قوة تأثيره ومكانه من يربيه الاجتماعية، عنوان الرجولة، وهو أول ما يثيرك في أي رجل تقابله في الشارع أو في مؤتمر أو تراه على شاشة التلفزيون، وحركة أصابعه وهي تفتل الشنب، أي تنظمه وتهذبه وتجعله ثابتا، لذا ظللنا نرسم أبو زيد الهلالي الشجاع الباسل على واجهات البيوت وهو على فرسه ويمسك بيده السيف المعقوف، وشنبه المشرع مثل السيف، وكأن الشنب هنا امتداد لقوة هذا السيف وهو يشج رأس دياب بن غانم أو الزناتي خليفة، وبالطبع لا احد ينسي شنب - سلفادور دالي- الرسام العالمي، صاحب العيون النافذة والشارب المسنن كالسيوف المشرعة، أن شنبه هو السبب في جعل وجهه لوحة غريب أخري من لوحاته، أي إنها جزء من لوحة قائمة في السلوك والشكل والأفكار والخيالات والألوان، وعندما يصبح الشنب مثل قرون البقر والجاموس وهو شنب كان منتشرا قبل الثورة، واشهرها شنب الملك فؤاد وابنه الملك فاروق في بداية حكمه، قبل أن يترهل جسده وشنبه تمهيدا لحلقه أو خلعه وطرده من البلاد علي يد الضباط الأحرار، ثم يليهم شنب الممثل - شارلي شابلن – المكتنز القصير والذي يكون صغير الحجم بشكل لافت وأسفل الأنف مباشرة، أي بدون أطراف، وهو شنب يثير السخرية بالإضافة إلى قبعته وعصاه وبدلته البالية وحذائه المتنافر الفردتين كل فردة في اتجاه معاكس للاخري، واعتقد أن – هتلر – قد اخذ هذا الشارب من شابلن، والذي ظل فترة من العمر من مميزات الرجولة، أو موضة للرجولة، صحيح انه لم يكن شنب ضخم أو عريض، لكنه شنب لرجل ماكر قوي قلب العالم ودمره بشنبه.
وفي النهاية - إن الشنب المصري – أو العربي مصابا الآن بالإرهاق والانيمبيا إذا ما قورن بالشنب في أحقاب التاريخ الكبرى، وهو ما يجعلني لا أستطيع أن انسي وجه محمد أبو سويلم أينما ذهبت، ومع ذلك - يظل الشنب فكرة إذكاء الرجولة المبكرة، حتى ولو نسيناه وتراجع أمام طرق أخري لإثبات الرجولة.
إرسال تعليق