نقطة النور

                                              بقلم سيد الوكيل

عند بهاء طاهر ، وبالتحديد في روايته ( نقطة النور) يكون  الصوت الإنساني هو الصوت الأكثر حضوراً، برغم طغيان الهم السياسي على الوعي الذي يتحرك وراء  مجمل أعماله، ولقد زاد الهم السياسي في مرحلة متوسطة من إنتاجه ،تبدأ بـ (شرق النخيل ) وتصل ذروتها في ( الحب في المنفي )،وبعد هذه الرواية الأروع بين أعماله، يبدأ بهاء مرحلة جديدة ، فيها من الزهد والعزوف عن(اليوتوبيات) المصنوعة سياسياً، التي لم تتحقق يوماً على أرض الواقع ، وربما هذه المفارقة بين الحلم والواقع، هي ما دفعت بهاء في إنتاجه التالي للحب في المنفي، إلى البحث عن تصور مختلف للواقع، دون أن يتخلى عن تلك الروح الإنسانية التي كانت قد توارت قليلاً تحت هم سياسي مخيب للآمال ومحبط.

يضيف بهاء إلى ثنائية الحلم والواقع بعداً ثالثاً هو الإيمان ، ليؤكد على النزعة الدينية التي تشرب بها الوعي القومي العربي بدءاً من السبعينات، وتجلت بظهور أجيال من الشباب المثقفين الانتماء الحلم السياسي بالانتماء الديني، وتعول عليه كباعث للقومية العربية التي فشل السياسيون في تحقيقها، فالشخصيات اليسارية والعلمانية التي رأيناها في شرق النخيل مثلاً لانجد ظلاً لها في روايته  (نقطة النور ) صحيح أن شخصياته الأولى تنتمي اجتماعياُ إلى نفس الطبقة الوسطى والمهمشة التي تنتمي إليها شخصيات (نقطة النور) وكلاهما يحمل داخلة نبوءة بالخلاص، ورغبة ملحة في البحث عن عالم أفضل،غير أن وسائلهما في ذلك تختلف ،فالشخصيات الأولى كانت دائماً تعتمد على الإرادة الإنسانية الحرة المستقلة عن أي بعد (ميتافيزيقي ) أما في نقطة النور فنحن أمام شخصيات مشغولة طوال الوقت بسؤالها الخاص، النفسي والروحي ، تذكرنا بشخصية (عمر الحمزاوي) عند نجيب محفوظ في رواية (الشحاذ) المناضل اليساري، والثوري الماركسي،  لكنه انتهى انتهى إلى فراغ روحي، جعله يدرك أن الخلاص الوحيد هو منحة من المدد المدد الإلهي.

إن الحتمية التاريخية والاجتماعية التي رأيناها تلوح من قبل في أعمال مثل (قالت ضحا) أو (شرق النخيل) أو(أنا الملك جئت) لم تخل أبداً من أسئلة مصيرية تتعلق بالجانب (الميتافيزيقى)، ولكنها في نقطة النور، يصبح الجانب الديني هو الشاغل الأكثر حضوراً لكل الشخصيات، وكأنه الجوهر الذي علينا الإمساك به إذا أردنا إدراكا ًحقيقياً وبصيرة ثاقبة، أو هو نقطة النور وسط ظلام دامس، نقطة نور جزئية وصغيرة، ولكنها كافية لتحدد موقعنا وتكشف عن حقيقة ذواتنا.

وفي هذه الرواية (نقطة النور) يبدو الحب هو الغاية التي تتحرك إليها جميع الشخصيات، إنه حب منزه وصاف، حب يشبه الزهد والفناء في ذات المحبوب ،ويظهر هذا الملمح بقوة لدى شخصية الجد الأكبر (الباش كاتب) .

يقول أبوخطوة أحد الصالحين معلماً الجد الذي هو رمز للأصالة والحكمة (الحب هو أن تريد ألا تريد) وبهذا المعنى يحتاج الحب لمجاهدة النفس، مع يقين تام أن النور الذي نتوق إليه لن يكون إلا بجهاد قاس، وإيمان راسخ، ومن ثم تحقق المعادلة الصعبة بين الإرادة الإنسانية وإرادة الله.

سنجد في الرواية دعوة للتصالح مع أنفسنا، ومع قيم أنكرناها وهجرناها طويلاً في غمار يقيننا المطلق في الحل الأيديولوجي، قيم دينية وروحية وأخلاقية هي نقطة النور الباقية، وهى قيمة الأمل الحقيقي في إعادة بناء الذات.

سنجد دعوة مضادة لما هو سائد من كتابات تصدر عن اللايقين، وتروج لعبثية الواقع، وأوهام اليوتوبيا. ومن ثم فإن رواية نقطة النور هي رواية مقاومة بالدرجة الأولى، ولكنها ليست ذات طابع سياسي، بقدر ما هي رغبة في السيطرة على ذواتنا. وهذا هو الخيط الذي يمتد في كل أعمال بهاء مشدوداً بقوة، سنجد ـ مثلاً ـ أن سالم الحفيد يقاوم شرك الجسدانية الشهوانية، ويعبر محنته إلى يقين الحب مدعوماً بتوجيهات ورعاية الجد، كما أن الجد نفسه وهو الشخصية المحورية التي تنمو ويتطور وعيها بالعالم عبر رحلة مجهدة، تصفو روحه وتتخلص من مؤرقات الدنيا لتصل إلى نوع من السلام النفسي النادر، لا يتحقق إلا لأولياء الله الصالحين من أمثال مرشدة (أبو خطوة )، ولكنها رغم ذلك لم تتخل عن بشريتها، ولم تكف عن ممارسه حياتها اليومية كأي من البشر العاديين، وكأنه يقدمً دليلاً على عدم وجود تناقض بين  طلب الدين وطلب الدنيا، وإمكانية وجود الإنسان المتعادل والمتصالح مع ذاته.

إن رواية نقطة النور ن تتحرك ضد المفاهيم النفعية والمادية التي سادت الوعي المعاصر وأرقت الإنسان الحديث وزعزعت يقينه في القيم الروحية والدينية، لتبدو لنا رواية نبوءة وبشارة، تتجاوز الروح الانهزامية التي سادت الرواية العربية لدى أجيال كاملة أدخلتها نكسة 67 في نفق مظلم ولم تخرج منه. 



Post a Comment

أحدث أقدم