راكب الدراجة
أسامة حداد
........
لم تكن ذكرياته مع الدراجات جيدة، وندبة واضحة في ركبته تشي بواقعة لا تنسى، وصرخته مع حقنة البنج والخيوط الطبية تتسرب إليه من إبرة الطبيب ودمعة تغالبه، بعد فشل متكرر في استخدامها..
لقد مرّ على تلك الحادثة سنوات، وجرت في النهر مياه كثيرة وصار شخصا آخر، لم يعد ذلك الصغير الحالم بدراجة يزينها بخيوط ملونة..
كان يشاهد الكثيرين يحرّكون أقدامهم فوق الدواستين والدراجات الهندية بلونيها الشهيرين الأسود والأحمر وبينهما نصاعة الفراغ بدرجتي القياس 26 و28 حسب الإطار المطاطي الذي يحدد الارتفاع، لم يكن يكرهها -ويمكن القول بوجود علاقة ملتبسة- خاصة مع جنونه في مراهقته بقصيدة علي محمود طه “راكبة الدراجة”، وكيف تخيّلها معه والعجلات تأكل الطريق بلا التفات إليهما، والأغنيات الشعبية التي تتغني بها منذ أن كانت تغني له جدته:
بابا جاي إمتي
جاي الساعة ستة
راكب ولا ماشي
راكب بسكلتة..
بل وصورة شادية وعبدالحليم فوقها، قبل أن تأكل الحقيقة بطلي الفيلم وتصبح معبودة الجماهير خاضعة للوشاية والعاشق يغني (جبار)..
سيحاول أن يهرب من هذه الصور يخرج من براويز ذكرياته، ويتوه داخل الأسئلة كيف لم ينجح في الالتواء بها بين الشوارع الضيقة، أو يذهب بها إلي المدرسة؟ ولماذا كان الجميع يسخر من محاولاته البائسة لركوبها وكيف دفع أبوه ثمن دراجة حطّمها في عصر أحد أيام الصيف؟ وتحول الدراجة إلى قطع مبعثرة -وهو أمر لا يمكن حدوثه بسهولة- وصورة الدراجات جوار بوابة المدرسة عالقة بذهنه منذ كان يري طلاب المدرسة الثانوية وقد تركوا دراجاتهم لدي الحارس.
يمكن أن يحدث الكثير نتيجة سرقة الإطارات لهواء يصلح للتنفس كالقفز بعجلتيها إلى النهر أو الاصطدام بأيّ شيء ولو كان شخصا عابرا، كما أن حصاة صغيرة يمكن أن تسقط راكبها ولمسمار القدرة على إنهاء مسيرتها، وقد ازداد التوتر بينه وبين نحافتها الكاذبة، وهي الواقعة التي سأسردها في عجالة كما حدثت وكأنّني أرسم لوحة من عصر النهضة بشكل فوتوغرافي يظهر التفاصيل الصغيرة وحركة الظل، وأواجه بها الشعراء الذين يدعون إعمال الخيال دون أن يتمكّن أحدهم من نقل المشهد كما ينبغي أن يكون، والنحاتين في زعمهم بنقل الحقيقة عبر المحاكاة الواقعية، وهو ما رآه دافنشي في مديحه للمصور -الذي كان يعني الرسام- قبل أن تصوّب عدسات الكاميرات رصاصات -بلا رحمة- على رؤوس تلاميذه ويتحوّل الفن التشكيلي إلى صور باطنية ورمزية متخيلة بعضها مرعب، وهذا لا يعنينا كثيرا وخارج السياق ويضر به بالتأكيد..
وإليكم ما حدث ومعذرة لتلك المقدمة الطويلة وأرجو ألا يكون الملل قد أصابكم بسببها، فالراوية لم يكن بحالة ذهنية تسمح له بترتيب الأحداث أو تقديم رؤية واضحة المعالم، وتلعثم كثيرا وهو يكرر الحكاية التي استمعنا إليها لمرات عديدة، ومن الأفضل أن أرتّب القصة دون استخدام ألعاب التوقعات وعمليات التبديل التي هي ضرورية للحكّاء.
كان الوقت يقترب من الثامنة مساء في أغسطس، حيث القاهرة تحاول التسلل من القيظ ونسمات قليلة تتحرك في رتابة، ومكبّر الصوت في عربة المترو يردّد السادات هي المحطة القادمة، ومع اندفاعه في الخروج لم يدرك ارتطامه بثدي طريّ لفتاة تدخل العربة، ولا ركله لحقيبة كان صاحبها يجرجرها خلفه وبوابة التذاكر المعطلة يكتفي معها بإلقاء الورقة الصفراء بلا عناية، متشبثا بصور أوراقه الشخصية وإعلان شركة شهيرة عن طلب تخصصه.
برغم تأخر الميعاد إلى الليل، قبل أن يمر جوار الأميركية -أقصد هنا سور مبني الجامعة القديم- والتحرير أمامه، وعليه أن يعبر من ناصية محمد محمود وهو يتحدث في هاتفه الذي أطلق صيحات تنبيه مباغتة ونظر باهتمام نحو القادمين من اليمين بنظرتهم الخاصة جدا للشارع والتي تختلف عما هو كائن بالفعل -وتحمل درجة غير اعتيادية من التهور والكثير من الحماقة -قبل أن يعبر الطريق حيث محال الوجبات السريعة على الناصية، ليجد نفسه طائرا في الهواء ويشعر بألم شديد في جسده ويري هلعا بعينيه وصور الموتى تتأرجح والحكايات عن خروج الروح من الجسد كالحرير من الشوك، وهو يشير بأصابعه بلا وعي لسيارة تقترب نحوه وجسده على الإسفلت وهو يتشبث بهاتفه وبمظروف أوراقه.
ويحاول إدراك ما حدث ورأى شابا بملابس رياضية على صدره علامة التمساح الشهيرة (لوكست) وبدا التمساح فاغرا فاه، ودراجة السباق أسفله، ونهض بصعوبة قبل أن يندفع السباب من فمه، وصاحب الدراجة ذو الوجه السمين يضحك بجنون، -كان بنطاله ممزقا والقميص- كما عرف فيما بعد متسخا ويد ثقيلة تهبط على كتفه انتبه معها لصوت شرطي: لا تشتم لا يوجد شخص محترم يشتم، وصوتك مزعج، ومع اعتراضه وجد شرطيا آخر يقول له أنت متشرد.. ملابسك تدل على ذلك..
سنحرّر محضرا بما حدث، بينما الأول يقول اعتراضك على رجال الشرطة جريمة، وثالثهم يقول كان يتحدث في الهاتف أثناء السير، وراكب الدرجة يضحك بلا عناية وهو يقود دراجته رافعا يديه في الهواء.. السباب يتكرّر والمارة ينظرون نحوه بفضول، والأيدي الغليظة تدفعه لسيارة الشرطة والاتهامات تتوالي فوق رأسه، وشارع محمد محمود يبتعد والتحرير يبدو نقطة صغيرة خلفه.
.
إرسال تعليق