ا

                                                                                                      نوستالجيا .. أمجد ريان

 بقلم: سيد الوكيل

النوستالجيا ..هي حالة حنين مشفوعة بشيء من الفقد والوحشة والشجن ، هي إذن حالة رومانسية قديمة، لكن (نوستالجيا) هو الاسم الذي فضله الشاعر والناقد الأستاذ أمجد ريان لإحدى دواوينه.

 أمجد ريان معروف لأنه أثرى المكتبة العربية بأكثر من ثلاثين كتاباً بين الشعر والنقد الأدبى، ومعروف لأنه أسس وأصدر وحرر خمس مجلات ثقافية من أشهرها (الفعل الشعري) التي أقامت الدنيا فى أول التسعينات عندما قدمت للحياة الثقافية نمطًا معرفياً وشعرياً جديداً لمجموعة من الشباب اللذين اندفعوا لكتابة قصيدة النثر بنفس الحماس الذى يمارسون به حياتهم اليومية، بل وبنفس الطريقة، وهكذا لم يعد الشعر شيئاً مفارقاً للواقع ، بل هو فعل من أفعال الحياة اليومية .

وهذه المجلة كانت نقطة تحول فارقة في حاضر الشعر المصري الحديث ، وفى حياة أمجد ريان أيضاً ..لم لا؟

 .. فهو نفس الرجل الذى اندفع فى أول السبعينيات بنفس الحماس إلى ما أصبحنا نطلق عليه اليوم (قصيدة السبعينيات) التي انبثقت  عن الأفق الأدونيسي، فحمل هو ورفاقه الشعلة المقدسة، وراحوا يبشرون بالشعرية الجديدة، فاتحين فى الوقت نفسه ملفات التأبين لشعرية أحمد عبد المعطى حجازى وصلاح عبد الصبور ومن يحذو حذوهما .

وفى هذا الوقت شارك الشاب أمجد ريان رفاقه في تأسيس جماعة ومجلة إضاءة التي مازالت تمثل في الذاكرة الشعرية بقوة، وهكذا فأمجد الذي تحمس ومارس بيقين التبشير بقصيدة السبعينيات بلغتها الكثيفة ذات الفضاء الواسع، والمجاز الشاطح والرمز المبهم، هو نفسه الذي بشر ومارس وتحمس لقصيدة التسعينات بلغتها النثرية العادية والمبتذلة كلغة الحياة اليومية، ودافع عن كتابها الشباب (الكاجوال) اللذين لا يمشطون شعرهم، ولا يقرءون  المتنبي، ولا يشعرون أن لهم ذوات تختلف عن باقي خلق الله الآخرين، لمجرد أنهم يكتبون الشعر الذي يخطئون فى تهجيه ونحوه بلا خجل ، ليس لأنهم لا يعرفون بل على العكس، هم أكثر معرفة وأوسع ثقافة وإن كان مفهوم وطبيعة الثقافة عندهم مختلف، فهم لا يرون الشعر شيئاً مقدساً يستحق أن يصطنعوا له لغة غير تلك التي يتداولونها في الحياة اليومية .

وهكذا فسيرة الشاعر (امجد ريان) موازية لسيرة الشعر في الربع الأخير من القرن الماضي، وهو ما يعكس أهمية وقيمة أمجد ريان كشاعر مهم ومنظّر من طراز خاص للتجربة الشعرية .  

وديوانه (نوستالجيا) هو تجسيد لتلك الخبرة ولذلك السعي الشعري الدائم وراء الجدة والطزاجة، وهكذا ، يخطئ من يتوهم أن الديوان يعكس نوعاً من العودة لجماليات قديمة لمجرد أن عنوانه يشي بنزوع رومانسي ، رغم أن أمجد ريان نفسه لا ينفي قيمة الرومانسية، ولكنه في الوقت نفسه يدرك أن لاعودة إلى الوراء أبداً ،وفى هذه اللحظة بالضبط ، يتخلق الموقف الدرامي الجدلي لقصائد هذا الديوان، فهي لحظة فارقة بين نزوع إنسانى فطرى يجتاح الذات فيما يشبه الغزوات والاختراقات التي تأتي من الماضي لتفرض نفسها على سطح الوعي الآني ، أي أنها نوع من تصادم أزمنة عديدة تسعى إلى تفتيت الذات .

وبين إدراك الذات الكامل لصيرورة الزمن وطبيعة التغيير وعجز الإنسان عن مقاومته أو حماية ذاته من اختراقات الزمن، يفقد الإنسان السيطرة على حياته، وكأن قوة هائلة تدفعه إلى حتفه. وبين الاحتفاء بما هو يومي وعادي وبسيط، والقلق تجاه ما هو(ميتافيزيقي) ومهيمن. تقف جماليات النوستالجيا  الجديدة وتعكس حالة عنيفة من تشوش الوعي والاغتراب.

( أمد يدى إلى شريحة الكرواسون في الصحن

بينما أفكر في هذه القوة العقلية الخارقة التي تتحرك فى الكون كله )

النوستالجيا ..إذن فى هذا الديوان ليست مجرد حالة شعورية بقدر ما هي موضوع شعري، ومن ثم لا تنزلق التجربة في أي لحظة إلى الجماليات الرومانسية القديمة، بل تظل ممسكة بوعيها الجمالي اللحظي رغم اعترافها بحاجة الإنسان إلى الوجداني، (نعم / يحتاج الإنسان أحياناً / أن يحصل على عاطفة عارمة / ويحتاج في أحيان أخرى / أن يمنح العاطفة العارمة للآخرين). أمجد ريان

إن الوعى المفارق للحظتين مغايرتين ومشتبكتين مع الذات هو النسق الذي توضع فيه أفكار الديوان ولغته وتقنياته، هكذا سيتجاور المجازي مع العادي، والأدبي البليغ  مع اليومي والمبتذل، والقديم مع الجديد، والماضي مع الحاضر ، غير أن العلاقة بين كل هذه المتضادات ليست فصامية بقدر ما هي علاقة مشتبكة تعكس كثافة اللحظة التي نعيشها بكل تعقيداتها، وعصيانها على الإدراك، وتعاليها على الوجدان والعاطفة، وكأنها تجسيد لحالة قصوى من حالات القلق الحضاري، تهدد الذات بالتشظي والاندياح .     

 

Post a Comment

أحدث أقدم