العمر الذهبي
بقلم: مصطفى لغتيري
وأنا أزحف تدريجيا نحو العمر الذهبي، أشعر برضى تام عن حياتي وعن نفسي.. أحلام تحققت وأخرى كانت وقودا لأحلام أخرى، كانت كفيلة بأن تمنحها الطاقة اللازمة لكي تولد وتنمو وتجد طريقها سالكا نحو البروز.. فرح متواصل، أخلقه بنفسي، أشكله من الأشياء البسيطة من حولي، ونكسات صغيرة، غالبا ما يتسببها فيها غيري، أرادها أصحابها قاضية، فمرت بسلام، لأنها وجدت مناعة وصلابة، أكسبتني إياها التجارب وصعوبات الحياة.. وجوه أثثت الذاكرة، ببذخها الإنساني الأثير، صنعتت رفقتها لحظات فرح لا تنسى، حلقنا معا في سماء رحبة لا حدود لها، وحين تعبنا من التحليق آوى كل منا إلى عشه، قانعا من الغنيمة بقبس من ذكرى أوفرح، لا يمكن أن يندثر مع الزمن.. فيكفينا فخرا أننا كنا لها أبطالا في رواية الحياة، التي كتبها كل منا بطريقته.. أقصد وجوها في الأدب وفي الحياة، والحياة أقوى وأبقى وأشد، بل وألذ طبعا وأكثر صدقا.
كلما تقدمت في السن فهمت أكثر لعبة الحياة. إنها بكل بساطة البحث عن الفرح واقتناص لحظات السعادة، والتصالح مع الذات، والاستمتاع بما لا يكاد الناس ينتبهون إليه، مما هو متاح امامهم، وتجنب الصراع مع البعض من أجل امتلاك المكاسب الصغيرة، التي يحسبونها كبيرة وهي-في حقيقة الأمر- والوهم سواء.. بل قد تصبح قيدا وعبئا على الذات، فتنهكها إنهاكا لا طاقة لها به.
عادة ما أقوم بما أعتبره واجبا، تجاه الآخربن، لكنني أمارسه بشغف واقتناع، أكاد أقول بحب كذلك، وحين يتبين لي عكس ما كنت أومن به، أبتعد مسافة معقولة، وأظفر بهدوء نفسي، لا أفرط فيه أبدا. لأنه سلاحي الفتاك، الذي أواجه به تقلبات الزمن وصروفه.
بعد هذا العمر أشعر بنفسي محظوظا لأنني عشت الحياة التي أردتها، وبالطريقة التي أعشقها، لم أولد غنيا ولا في أسرة ذات مكانة اجتماعية، لكنني أخذت منها أعز ما يطلب، النضال بحب من أجل ترسيخ الأقدام في الحياة، وأحسب نفسي نجحت في ذلك. ونقلته لأحبتي باعتراف أكثرهم.
أبدا لم تقهرني الصعاب، بل زادتني قوتها عنادا وصلابة من أجل أن أكون ما أحب أن أكون.. لم تغرني مطامح كثيرة كانت في متناول اليد، أشحت عنها بوجهي ومضيت في طريقي، أعض بالنواجذ على شخصيتي وكرامتي، وحياتي البسيطة، كدت أقول سعادتي، التي أعتبرها أكبر غنيمة.
ها هي الحياة تمضي، وهأنذا أتدحرج في موجها الهادئ حينا، الهادر أحيانا، أشق طريقي بسلاسة نحو ذاتي لكي أملك قرارها أكثر فأكثر، لأن في ذلك- حسب رأيي المتواضع- قمة النصر والتمكين. ففي امتلاكها سعادتي، لأنني بذلك أمضي بها في الطريق الذي أرغبه، ولن يمنعني من ذلك مانع مهما بدا قويا وصلبا.
في خضم الحياة وشعابها المتشابكة اكتسبت ذهنا مرنا، يتعامل مع الوقائع ولا يغتر بالأوهام، وتعلمت أن المطلق خدعة كبيرة، وأن التعصب للرأي ليس سوى عرض من أعراض القصور الفكري، لذا أجد نفسي مستعدا لتغيير أفكاري كلما بدت لي غير صلبة ولا متينة، لا تصمد أمام منطق العلم والمعرفة والحياة، وحينما تمتد يدي لتقدم شيئا لغيري، تفعل ذلك لأنها تؤمن بانه جميل في ذاته، بغض النظر عن نتائجه ومآله.
هأنذا أستقبل عمري الذهبي إو أكاد، ومع ذلك ما زلت أعشق الحياة، وأستقبلها كل يوم بنفس جديد وشهية مفتوحة.
أطارد فكرة تائهة كي أحاصرها في الزاوية الضيقة، فأتملكها جملة وتفصيلا وأسعد بها أيما سعادة.
أرتشف قطرات ماء عذب، وأنعم باستطابتها وتدحرجها في الذات المحتفية بالحلول فيها.
أستطعم قهوة شبه مرة فتغدو في اللسان بحلاوة العسل، وكأن الرضاب من صنيع نحلة خرافية.
أتملى عن بعد فراشة ترقص رقصة الحياة في حضرة أزهار الأمل المتهادية كنسيم الصباح. وكلما دنت مني ابتسمت لها بلطف وفتحت لها حضني كي تزهر فيه.
أستقبل ذاك الدفء المتسلل إلى القلب، فأصنع منه سراجا لا يخبو ضوؤه أبدا.
قد اقطع مسافة لا تخطر على البال من أجل فكرة طارئة، بدت لي أجمل لو عشتها في مكان مختلف.
أستنشق دفقات الهواء العليل، أستلذ انتعاشها المتجدد، فتعيد للنفس بلسمها الأثير.
يااه كم أعشقك يا أنت.. يا أيتها الحياة. وأنت تهدين لي هذا العمر الذهبي الذي تكتمل فيه الذات حكمة ورجاحة عقل وطمأنينة وقدرة على الاستمتاع بلذائذها المنتقاة.
إرسال تعليق