امتدادات لا متناهية
قصة قصيرة
مصطفى لغتيري
كانت السيارة تلتهم المسافات غير عابثة بما حولها، تسابق الزمن بإصرار يصل حدود الهوس، وأنا أتكور خلف المقود، أقتفي أثر الشريط الأسود المتمدد برتابة مقيتة إلى ما لا نهاية، يظللني السقف السماوي الأزرق المترامي الأطراف، وقد هامت في رحابته سحابة صيف بيضاء يتخللها سواد لا يكاد يعلن عن نفسه.. يسحبها نسيم خفيف نحو المجهول.. حين فكرت في المدى الذي يمكن أن تبلغه، انتابتني لحظة قلق حاولت جاهدا خنقها في أعماقي ،لأنشغل بالخطوط البيضاء النائمة في حضن الإسفلت، والتي توجه انسيابي باستبداد ناعم..
شعرت ببعض التصلب يترسب إلى أوصالي، زاد من حدته ذلك الإحساس المفاجئ الذي داهمني، فشعرت خلاله بأنني نقطة متناهية الصغر في امتداد لا متناه، يصعب لملمته وتشكيله انطلاقا من رغبات الذات، التي استبدت بها لحظة توتر منفلتة.. من بعيد تراءت لي شجرة أيقظت خضرتها اليانعة في نفسي لواعج، كنت قد طمرتها في غياهب الذاكرة.. عطفت نحوها وقد أسر السحر العابق من ثناياها كل كياني.. أوقفت السيارة، وارتميت تحت ظلالها الوارفة.. تملكتني نشوة أحضان أم رؤوم.. وتهادى إلى مسمعي خرير خافت.. التفت نحوه فإذا بجدول رقراق ينبع من أسفل الشجرة، ليشق طريقه برشاقة في اتجاه لا أعلمه.. وما كدت أستسلم للخدر الذي أخذ يتسلل إلى أوصالي، حتى سمعت نباحا متقطعا ما لبث يعلو شيئا فشيئا ..رفعت رأسي نحو مصدره فإذا بشيخ يحمل على ظهره المتقوس كيسا ممتلئا ويرافقه ثلاثة كلاب، تشتبك خطواته بخطواتها الحثيثة. ولما دنا مني ألقى علي التحية؛
- السلام عليكم.
رددت عليه تحيته، فأردف قائلا:
-احترس إنها شجرة مسكونة.
ودون أن يكترث بمدى الأثر الذي خلفه كلامه في نفسي، واصل سيره، فيما تبددت داخلي ابتسامة ، طفا طيفها على شفتي ، اللتين اكتسحهما بعض الشحوب.. أسعفني استلقائي على ظهري أن أتتبع غصنا منفلتا من صرامة الاشتباكات المتداخلة لباقي الأغصان، فتراءت لي بشكل واضح أوراقه المتفاوتة في خضرتها وامتدادها. كان أغلبها يتدلى إلى أسفل إلا واحدة ترتفع إلى أعلى، وحين أمعنت النظر استطعت أن أتبين الخطوط الرفيعة المنتشرة في أعماقها.. ولكم أعجبني أن أتتبع تأرجحها فبدت لي وكأنها تذكر الكون الذي يتجاهلها بجذوة الحياة المشتعلة في شرايينها.. وما كادت أوصالي تستمتع بلذة الاسترخاء حتى تحفزت كل حواسي حين شعرت بلمسة ناعمة تداعب ملمسي.. انفتحت عيناي فإذا بامرأة ترتدي لباسا أبيض وتسدل على كتفيها خصلات شعرها المنساب في خيلاء. ومن عينيها ينبعث بريق ساحر جعلني أسبح في صفائه العميق.. حاولت أن أسألها عن هويتها، غير أن لساني تخشب، فيما جحظت عيناي وأنا أتملى في ذلك الحضور الكاسح الذي جرف وجداني إلى حافة الانفعال، وقد انتصبت بجسدها الخرافي أمامي، ثم انسابت كلماتها متهادية في لطف وكأنها أنغام قيثارة أسطورية:
- هل أنت غريب؟
حاولت أن أجيب إلا أن صوتي كان قد انزلق إلى ركن ما من جسدي، فلم أفلح في العثور عليه. ولما أحست بارتباكي، أشارت إلي بعينيها السبلاوين بأن أتبعها، فانتفضت ململما جسدي المتهالك.. ومشيت بخطوات راسخة أقتفي أثرها وأنا منبهر بذلك اللمعان الذي يخلفه انسيابها ... وفي لحظة لا يمكن أن تنتمي لسياق الزمن، غاصت بقدميها المتلألئتين في ماء بركة تحاكي بزرقتها زرقة السماء، ثم طلبت مني أن أتبعها، فإذا بي أغوص بقدمي في الماء، فتلسعني برودته القاسية. حاولت أن أستغيث بها فإذا الصوت ينكتم في أعماقي، وإذا بجسدها يندثر.. الصرخة تنبعث من جديد مجلجلة في زوايا الذات، وبرودة الماء تنتشلني من اللحظة الحرجة، لأجدني متمددا تحت الشجرة وقد تصببت عرقا.. وما كدت أسترجع إحساسي بالمكان من حولي حتى تراءى لي صاحب الكيس يقفل راجعا وكلابه الثلاثة ترافقه.. وقبل أن يصل إلي، كنت قد ركبت السيارة وانطلقت في طريقي، ألتهم المسافات. تظللني زرقة السماء، وشبح المرأة يترصدني بلا كلل.. بيد أنه ما إن توغلت في طريقي حتى أخذ يتبدد رويدا رويدا، لأنشغل من جديد بالخطوط البيضاء ،التي انتظمت في رتابة على امتداد الشريط الأسود النائم في حضن المدى اللامتناهي.
إرسال تعليق