شاب وفتاة
قصة: آمال الميرغني (*)
بدأ ذلك كله في ظهر يوم قائظ في أول الصيف، حين استدرجهما حلمهما الذي تأجل طويلاً بأن يكونا وحدهما لبعض الوقت كانت هي قد دبرت أمر المفتاح منذ وقت طويل، ولكنهما كانا كلما التقيا يؤجلان ذهابهما ، حتى أتى ذلك اليوم الذي حسم فيه القيظ مماطلتهما، جاعلاً الاحتماء من لهيب الشمس تحت أى سقف بمثابة إنقاذ لا يحتمل التأجيل.
لم تستطع أن تتذكر بسهولة كل التفاصيل المتعلقة بموقع شقة أخيها الذي هاجر إلى الخارج منذ سنوات، وكانت حينذاك ما تزال طفلة. لكنها بعد عدة جولات خاطئة بالشوارع المجاورة، وجدت نفسها بجوار البناء. وبينما تجتاز مدخله، بدت لها أعمدته الوردية وبلاطاته الكبيرة أليفة وحميمة.
تسللا تباعًا ، محاذرين الالتقاء بسكان العمارة. وسيطرا بعناء شديد على رعشة أيديهما وهى تتبادل المفتاح، إذ كانا راغبين في أن ينفتح لهما ذلك الباب بأقصى ما يمكن من الهدوء والسرعة.
كانت الشقة المهجورة منذ عدة أعوام في حال بائسة غارقة تحت طبقات من الغبار وخيام العنكبوت والأسوأ من ذلك، هو ما اكتشفاء منذ الدقائق الأولى، وهو أنها مقطوع عنها الماء والكهرباء. لكنها بالطبع كانت كافية لتحقيق حلمهما جلسنا على أريكة الصالون اليابسة بعد أن رفعا عنها الملاك القديمة التي صارت بلون الرماد . وراحا يستنشقان الروائح الراكدة في الشقاء الالالالها إحساس غائر بالوحشة، لكن أبد العارية امام تكف الحظة من والطالب والتماسك والتماس المون، فتحات العليا في أعناق ماء التخلص من الأحذية التي كانت أقدامهما تصهر داخلها ، وغابا في عناق صاعق كالمفاجات بعد قليل، صمد شخصان السلم وراحا يتحدثان بحدة عن أمر ماء فاضطريا وبدت لهما الأريكة التي كانت في مواجهة الباب غير آمنة، فبحثا عن غرفة النوم.
كان حبهما الذي يقترب من نهاية عامه الثاني، قد نضج وسط ضجيج الأرصفة وزحامها بين الحدائق والملاهي ودور السينما، حيث كانا يختلسان اللمسات والقبلات كلما أمكنهما ذلك في تلك الزوايا والأركان التي نادرا ما تخلو من البشر في هذا البلد المزدحم، وكانا يقولان أن ما أمضياه مما ، يبدو لهما عمراً طويلاً أضيف إلى عمرهما السابق. وحين مضت بهما السيارة، في ذلك اليوم، في الطريق إلى الشقة، تملكهما شعور عميق بأنهما يتأهبان بحبهما لغوص أعمق في هذه الحياة، وكان ذلك مفرحاً ومخيفاً في آن.
جلسا على الفراش في غرفة النوم، التي كانت مكدسة بالصناديق التي حوت مكتبة أخيها وأدوات مطبخه، إلى جانب بعض الأجهزة القديمة وعددا من السجاجيد المطوية، وبدا الهواء لبضع دقائق أثقل من أن تمتصه رئتي مخلوق بعد أن نقلت فيه هذه الأشياء جميما روائح هجرانها الطويل، وكانت النافذة الوحيدة مخلقة بإحكام وقد غطى خصاصها بأكمله بالأقمشة، ومع ذلك فلقد كانت أكوام الغبار عصية على الفهم، حتى إنهما اضطرا لأن يجرفائها من فوق الفراش بجاروف الأرضية. لكن ذلك كله قد جعلها أشبه بأحد المخازن النائية المهجورة وأسبغ عليها حالة من العزلة الآمنة، فدخلا فيها إلى عالمهما الجديد كرجل وامرأة ثم ضحكا من نفسهما فحين يكون لهما في المستقبل غرفة نوم حقيقية، كم ستصبح ذكرى مرتهما الأولى هنا مثيرة لتندرهما.
قالت: ولكنها ستكون عزيزة علينا.
فسال : ترى حين يصبح لنا بيتا ، سنأتي إليها من حين لآخر لنتذكر؟
ولم تجب، فقد نامت من فورها مخدرة بالإرهاق، وشدة الحر، وسرعان ما لحق بها.
حين استيقظا، كان الظلام في غرفة النوم يزحف فيخفى مساحات من جسديهما وأجزاء من وجهيهما، فاضطر للخروج إلى الصالة ليرى ساعته على هدى الضوء الشحيح بها. كانت تقترب من السابعة، وحينما عاد، كانت تتقلب في الفراش قالت بصوت ناعس
- حلقی جاف، مت من العطش.
فقال وهو يحتضنها وينهضها : كلها دقائق ثم تشربين.
وأعقب هازا إياها بمرح: ولكن اصحى أولاً.
عدلا ثيابهما، وبذلا كل ما وسعهما في نفض الغبار عنها، ومحو ما علق منه برأسيهما وأهدابهما. وبعد أن أعادا كل ما لمساه من أشياء إلى ما كان عليه، تحسسا طريقهما إلى الباب بين أشباح الجدران وقطع الأثاث.
وعند الباب لم يجدا المفتاح. فتذكر أنه عند دخولهما أغلق به الباب وأنه وسط ارتباكه وضعه بجيبه. لكنه لم يجده بأى من جيوبه. فعادا يفتشان عنه في الطريق المؤدى إلى غرفة النوم، ثم بحثا فوق الفراش وبين الوسائد، ولم يكن هناك أيضا، حاولاً أولاً ترتيب أفكارهما لنا كرا بدقة ما الذي حديث ورة قولهما فتذكر أنه دخل الحمام، والالات انها إلى هنا من هناك رنين قطعة نقود ، ولكنها أدركت الآن أنه رنين المفتاح ذهبا إلى هناك وكان الظلام قد أطبق تماما، فمسحا البلاطات المترية بأيديهما ، ونسا اذرعهما في المرحاض وسيطر عليهما الذعر
مسحا بجنون كل قطعة أثاث بالبيت، وجثيا بمسحان الأرض في غرفة النوم والصالة، وحتى في المناطق التي لم يدخلاها في الشقة واستنفدا خلال ذلك أعواد الثقاب القليلة المتبقية لديهما، ثم سقطا منهكين.
قال: ليس أمامنا غير الانتظار للغد. ولكن هل سيأتون ويبحثون عنك هنا؟
قالت شاردة: لا أظن، لن يخطر ببالهم انني ما زلت أذكر هذا المكان.
ولما تحتم عليهما أن يقضيا الليل هنا، فقد راحا يقلبان في تدبير الحجج والأعذار التي سيقولانها فى الغد لعائلتيهما، وكيف سيدعمانها، ومن الذي يمكنهما الاعتماد عليه من الأصدقاء حتى يكشفان سرهما له.
وهكذا قضيا ليلتهما الأولى بها ، يضنيهما الجوع والظما، ويمرضهما الهواء الراكد والكوابيس.
في اليوم التالي نهضا مع بداية الضوء، وعاودا البحث بحماسة جديدة على هدى ضوء النهار قلبا حشية الفراش وكادا يمزقانها، نفضا كل الملاءات المعفرة التي كانت تغطى الأثاث، وحركا كل قطعة أثاث بحذر وعناء، وتقيأ أمعاءهما الخاوية وهما يتناوبان البحث في المرحاض والبالوعة، وعادا إلى الباب فانهارت على المقعد وقالت ذاهلة :
- إننا لن نجده أبدا. لقد سقط في المرحاض أو في البالوعة أو الله يعلم ماذا ولن نجده أبدا.
واستسلمت للبكاء. تلفت حوله حائرا ، ثم قال:
- ولكن لا بد أن هناك وسيلة أخرى.
وراح يبحث بين متعلقات البيت عما يمكن استخدامه في فسخ الباب. لكنها لحقت به وسألته مضطرية:
- هل يمكنك أن تفعل ذلك بدون صوت؟
توقف ونظر إليها طويلاً، متتبعا بخياله ذلك الضجيج الهائل الذي سيحدثه، والذي قد لا ينجح مع ذلك في فتح الباب، ولكنه سينجح بالطبع في جذب الجيران وتحلقهما عند الباب. لسوف يساعدونهما على الخروج، بلا شك ولكنهم سيسمحون لأنفسهم بعد ذلك بالتصرف فيهما كيفما يشاءون. هناك احتمالات عديدة، وكل منها أسوأ من الآخر، حتى أنه لا يرغب في التفكير بأى منها كامر يمكنهما احتماله. كانت واقفة أمامه وسؤالها المرتجف ما زال عالقاً بشفتيها اليابستين المزرقتين، وعيناها الملتمعتان رعبا تتلهفان على إجابته، فأحس بالوهن يتملكه وارتمى على مقعد قريب.
بعد قليل قررا أن يتفقدا النوافذ، آملين أن يجدا خارجها ما يمكنهما التعلق به، كمخاطرة لا مفر منها. ولكن كان عليهما أن ينتظرا لليل. فأمضيا بقية النهار ثملين بالنعاس الذى كان الطريقة الوحيدة للتغلب على ما يحسانه من تشوش ووهن بينما كانت أصوات أقدام الجيران وأحاديثهم ونداءاتهم لا تنقطع عن السلم.
وحين هدأت الأصوات وتباعدت، نهضا، وراحا يديران مقابض النوافذ ويفتحاتها عن شقات ضيقة تسمح لهما بأن ينظرا إلى ما حولها تطلعا مرارا. بلهفة أولاً، ثم بتدقيق ونان، ليدعنا أخيرا بأنه ليس ثمة شيء يمكنهما التعلق به فعادا إلى الفراش، تعانقا، وأجهشا طويلاً حتى أسلمتهما الدموع النوم مستسلمين بنومهما للغوص في ذلك المجهول الذي ينتظرهما.
وفي اليوم التالي صحيا عند المغرب، لكنهما لم يستعيدا صحوهما تماماً. وفى الليل انتابتها رعشة وراحت تهدى، فأفاق وتخبط في الظلام باحثا عما يدفئها به سحب الملاءات المتربة ووضعها فوقها، لكنها زادت من ارتعاشها. فانسلت من بينها مبتعدة إلى طرف الفراش، وتكورت على نفسها وغاصت في غيبوبتها.
في الصباح ماءت قطة ملتاعة على السلم، وأغلق أحدهم نافذته بصحب. وطفا صوت بعيد لنداء بائع خضار، وعبر نفير واهن السيارة بعيدة كأنما يمضى من الماضى إلى الماضى، وكانا يقطعان غيبوبتهما من وقت لآخر، فيهيمان بين الصالة والحمام وغرفة النوم، ثم يعودان إلى الباب، حيث استقرا أخيرا بجواره وعيونهما شاخصة إليه.
(*) آمال الميرغنى من مجموعاتها القصصية : (جبل وبحر ووردة)، على نفقة الكاتبة، القاهرة، ۱۹۹۸ ، دميتان في ليلة باردة، دار ميريت القاهرة، ۲۰۰۷
شاب وفتاة، قصة آمال الميرغني، منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009
إرسال تعليق