16 عاما على رحيل الكاتبة نعمات البحيري
بقلم: صفاء عبد المنعم
تعرفت على نعمات البحيري عندما قرات لها لأول مرة قصة (عُرس الميتة) في بداية الثمانينيات ومنذ هذا الوقت أصبحت أبحث عن قصصها المنشورة في المجلات والجرائد.
وفي مرة من المرات رأيتها تسير فى وسط البلد فتعرفت عليها من خلال الصور المنشورة لها.
في عام 99 وبعد وفاة زوجي دعتني إلى زيارة بيتها فى مساكن الشروق بمدينة نصر، وذهبت إلى هناك.
ولأول مرة كنت أرى بيت نعمات، وأخذت تحكي لي حكايات المرأة الوحيدة، وكيف انها أحتفلت مع الفأر بيوم عيد ميلادها، وأنها كنت تملأ البيت بصص الزرع والصور واللوحات، وظللنا طوال الليل نحكي عن الكتب والحكايات والوحدة.
لأول مرة كنت أجرب معني الوحدة بعمق، وظللنا نلتقى ونتقابل ونتحدث طويلا.
إلى أن جاءت إلى مدينة 6 أكتوبر، فأصبحت المسافة قريبة جدا بيننا، أنا أسكن عند المحور فالطريق أصبح سهلا بالنسبة لى فأصبحت أذهب غلى زيارتها كثيرا.
وعندما علمت بمرضها كثرت بيننا الزيارات والحكايات، وكيف اكتشفت المرض بالصدفة.
ثم توفيت في عام 2008 .
فزاد الحزن عمقا بداخلي، خصوصا وأنني نادرا ما استطيع مصاحبة الآخرين بسهولة كان من صديقات القريبات( إبتهال سالم ونعمات البحيري) فشعرت بالفقد من جديد، وكتبت رواية بيت فنانة.. خاصة وأننا كنا نتشابه في الوحدة وألم الفقد وحب الكتابة والشعر واللوحات الجميلة.
بيت فنانة
رواية
صفاء عبد المنعم
إهداء / إلى روح الكاتبة نعمات البحيرى
هناك كثيرون ساروا مع الرب مرحلة ، ولكنهم لم يكملوا الطريق ، ولم يقدروا أن يحملوا صليبهم حتى النهاية ، وخانوا عهودهم مع الرب ، إذ عادوا للخطيئة مرة أخرى .
الإنجيل
----------------------------
بيت فنانة
من الوهلة الأولى عند دخولك البيت ، تشعر أنك فى بيت فنانة .
صاحبة حس مرهف وعال وجميل .
عندما ذهبت إلى زيارتها فى المرة الأولى ، وكان ذلك فى صيف 1999 ، أى بعد وفاة زوجى بثلاثة أشهر ، وتحديدا يوم عيد زواجنا فى 18 /8 ، ركبت أتوبيس مدينة الشروق من ميدان العباسية ، وعندما وصلت إلى البيت ، صعدت درجات السلم إلى الدور الخامس ، وقفت لبرهة ، أستعيد فى ذاكرتى ، أين تسكن نعمات البحيرى ..؟
وعندما تأملت الأبواب للحظة ، وجدت بعضا من الصبارات الخضراء ، منتشرة داخل أصص من الفخار .
قلت فى نفسى : هذه شقة نعمات ..
وضعت إصبعى على الجرس ..
فتحت لى بوجهها البشوش ، وضحكتها المشرقة :
أزيك يا صافى .
برافوا عليك ، عرفتى الشقة لوحدك !
كنت لأول مرة أذهب فيها إلى مدينة الشروق !
هذه المدينة البعيدة والتى اسمع عنها كثيرا ، وأخاف من بعدها عن العاصمة .
جلست على كنبة الأنترية ، وأخذت أتأمل بعمق الصور واللوحات المعلقة على الحائط أمامى ، والتى ألتقطت لها فى أماكن مختلفة ، ومع شخصيات عديدة من الوسط الثقافى والفنى .
جميع الحوائط مغطاة تقريبا بالصور ، حتى المطبخ ، عندما دخلته لأعداد كوبين من الشاى لى ولها ، كان المكان ملىء بالصور ، والقصائد المعلقة فوق الثلاجة وفى كل مكان ، أخذت أقرأ :
مرثية رجل عظيم ..
كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى ،
وأن يرى الجمال فى النظام .
وكان نادر الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميتة يخاف أن يبعثها كلامه
ناشرة الفودين ، مرخاة الزمام .
صلاح عبد الصبور .
نزلت عيناى تلتهم الكلمات !
إن الذكريات تحوطها من كل جانب ، وكأنها تريد أن تملأ وحدتها بهؤلاء .. المعارف والأدباء والفنانين ، حتى قصاصات الجرائد ، كانت تضعها كلوحات تشكيلية فى تنسيق جمالى مبهر للعين ..
( قصيدة لصلاح عبد الصبور ، وأخرى لأمل دنقل ، وغيرها لحجازى ..) وهذه لوحات محمود سعيد ، وعبد الهادى الجزار ، وصلاح عنانى ، وفان جوخ ، وبيكاسو ، وغيره .. وغيره من المبدعين .
أخذت عيناى تتنقل بين القصائد واللوحات المرصوصة جوار بعضها فى عناية ودقة وحب ، وأنا ألهث وراء الكلمات ، كأن هناك سباق للجرى ، وعلىّ أن أصل إلى خط النهاية قبل الآخرين !
فوق التليفزيون على الحائط علقت ( رقيا) لصلاح عبد الصبور ..
فى كل مساء
حين تدق الساعة نصف الليل
وتذوى الأصوات
أتداخل فى جلدى ، أتشرب أنفاسى
وأنادم ظلى فوق الحائط
أتجول فى تاريخى ، أتنزه فى تذكاراتى
أتحد بجسمى المتفتت فى أجزاء اليوم الميت
تستيقظ أيامى المدفونة فى جسمى المتفتت
أتشابك طفلا وصبيا وحكيما محزونا
يتآلف ضحكى وبكائى مثل قرار وجواب
أجدل حبلا من زهوى وضياعى
لأعلقه فى سقف الليل الأزرق
أتسلق حتى أتمدد فى وجه قباب المدن الصخرية
أتعانق والدنيا فى منتصف الليل .
بكيت بحرقة الأيام الضائعة والوحدة والصمت .
ضمتنى إلى صدرها برفق وحنو وضحكت :
إيه ياصافى .. أنت عبيطة !
دى قصيدة زيها زى كل القصائد اللى فى الكتب وعلى الحيطان وزى الموت والبرد ، والصداع والهجر والنسيان والوحدة ، وفى آخر الرحلة هتزرعى قصارى من الصبار وتسقيها كل يوم ، عشان تفضل خضرة ومتموتش .
ضحكنا ، وأكملنا الطعام ، بعد الغداء ، وضعت شريط فيديو لها مع المذيعة المتألقة ( ميرفت سلامة) فى حوار شيق وجذاب .
كانت هى داخل الكادر ، تجلس على كرسى متحرك ، تحكى عن تجربتها الإبداعية ، ومشوارها الفنى .
وطوال الحلقة ، تتحرك يمينا وشمالا ، وكأنها لا تستقر على وضع ثابت . لقد لفت نظرى جيدا هذا الكادر تحديدا ، مثلما لفت نظرى وجود مجموعة من القطط ، ومسماه على اسماء كتاب مشهورين ..
( ماركيز ، كونديرا ، إيزابيل الليندى ..وغيرهم )عائلة كبيرة من القطط تسكن مع امرأة بمفردها ، تحدثهم ، وتطعمهم ، وتحكى لهم كأنهم أبنائها .
فى الليل جلسنا فى الشرفة المليئة بالصبارات ، وأخذت تحكى لى عن فأرها الأثير والمؤنس لها ، والذى شاركها ليلة عيد ميلادها ، وأعطته قطعة من التورتة ، وكتبت عنه فى مجموعة ( إرتحالات اللؤلؤ ) .
ها أنا ذا أريد النوم !
وهى تريد الحكى !
كانت حكاءه بارعة ، ولها أسلوب شيق وجميل مثل كتاباتها ، وكانت عيناها تشع بهجة وحياة وحب ، وبهما لمعة تشبه لمعة عيون القطط ، تضىء فى الليل بالسعادة والفرح .
امرأة تقبل على الحياة بحب ، وبشراهة إقبال الموت على الأطفال الرضع، الموت يلتهم الأجساد النابضة بالحياة فيخرسها !
كان بيتها يشع بهجة وحب وألفة ومقدرة على فتح ذراعيها للجميع .
وأخذت تضحك وهى تعد لى مكانا مريحا للنوم ، وتسمعنى أغنية أم كلثوم
( أنت عمرى ) .
وقالت فى تحدى ، أنا هاعمل جمعية للأرامل والمطلقات .
ثم ضحكت بعد ذلك وقالت :
ولا أقولك ، أعمل جمعية للكاتبات خارج الدعم .
ثم صمتت برهة وقالت :
هاعمل جمعية البطة السودة !
وضحكنا .. ضحكنا حتى طلوع الفجر .
إرسال تعليق