طفل الثامنة والتسعين نصراني:
التاريخ يكتبه الروائي، لا المؤرخ
بقلم: عاطف محمد عبد المجيد
الرواية أرض خصبة للتجريب، خاصة مع عدم وجود قواعد أو محددات معينة يُمنع تجاوزها، أو تخطيها، أو عدم الالتزام بها، دون أن ننسى أنه حتى الفنون التي لها قواعد ثابتة تم تجاوزها والتمرد عليها، كما حدث في ساحة الشعر مثلًا، حتى وصلنا إلى زمن التجريب في كل شيء مما جعل الحدود الفاصلة بين الفنون تتلاشي، أحيانًا معلنين التمرد على القديم، وأحيانًا سيرًا وراء الرغبة في مجرد تجريب ما هو مختلف، واكتشاف أراضي جديدة لم تُكتشف من قبل بمثل هيئتها الجديدة.
تجريب
في روايته " طفل الثامنة والتسعين نصراني " الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، يحاول الشاعر والروائي اليمني هاني الصلوي أن يجرب طريقة أخرى لكتابة الرواية غير الطريقة التقليدية المتعارف عليها، متخذًا من تقنية كتابة رواية داخل الرواية متكأ لهذا التجريب، وإن كان هذا قد يُوقع القاريء، في بعض مناطق الرواية، في حيرة أنه في أي الروايتين: وأنا إنما ابتغيت تحقيق شكل فني جديد في السرد، يتعلق ببناء النص مجددًا والتعليق عليه، وإنتاج صيغ أحدث منه، وهو ما عولت فيه على نباهتك وإتقانك ومهارتك..هل فهمتني؟، وهذا ما جاء على لسان الراوي في الرواية.
طفل الثامنة والتسعين نصراني التي جاءت في جزئين كل منهما تجاوز الثلاثمائة وخمسين صفحة، ويفتتحها الكاتب بمقولة ل لاوتسو تقول: هذا الذي ترونه يمر من تحت أقواس النصر والذي تهتف له الجماهير ليس هو البطل. أنجز البطل عمله وذهب تحت جنح الظلام إلى النهر، ومن هناك أخذ قاربًا وعبر إلى الضفة الأخرى، فاختفى في الغابة.
ليست رواية سهلة
ربما لا تكون مشكلة طفل الثامنة في كبر حجمها الذي تجاوز السبعمائة صفحة فقط، بل في أنها ليست رواية سهلة، إنما تحتاج إلى تركيز شديد حتى لا تُفلت الأحداث من القاريء ويفهم ما يجري على النحو الصحيح، خاصة وأن الكاتب استخدم عدة تقنيات تعمل على تشتييت القاريء إن لم ينتبه إليها جيدًا، منها تغيير حجم خط السرد، من عادي إلى البوولد بمستوياته، إلى طريقة عرض السطور في الصفحة، حيث تُظن بعض الصفحات تحمل قصائد شعر من طريقة توزيع السطور، وهي بالطبع ليس كذلك.
نحن هنا لسنا إزاء رواية واحدة، بل ثلاث روايات: الرواية الأم " طفل الثامنة والتسعين نصراني "، وروايتين داخلها وهما " أحمد النصراني " و " سرور البينيان " وقد كتبهما باسم غانم عبد القيوم، وكتب دراسة وحقق الرواية الأولى منهما د. وليد عبد الباسط حنبلة، ويصف عبد القيوم روايته بأنها أول رواية في تاريخ السرد العربي يكتبها الناقد، وليس الروائي أو السارد عمومًا، وأنها رواية ساحرة ومن الظلم الشديد ألا يقرأها الناس!
الرواية التي تحاول توجيه صفعة للعالم الرأسمالي، ساعية إلى قراءة التاريخ على وجهه الصحيح، لا المزيف، تناقش هنا مسألة انفصال الدولة الواحدة إلى عدة دويلات صغيرة، مشيرة إلى ما تفعله الأيدي الخفية للأعداء، منتقدة الحروب وما يحدث عنها من دمار وهلاك للإنسان وممتلكاته: " العالم يموت بطريقة بشعة! الكل يحارب. الجميع يموت "، داعية إلى عدم التخلي عن المباديء مهما حدث، راصدة كيف تسطو القلة القليلة على مقدرات البلاد حارمة الأغلبية من كل شيء، وكأن هؤلاء القلة هم حراس خزائن الله في الأرض، يمنحون ويمنعون كيفما يحلو لهم، كما تحتفي بالمرأة مثمنة دورها في الحياة مُظهرة جهدها وجهادها الذي تواصله في الحياة منذ مولدها وحتى عودتها إلى أمها الأرض مرة أخرى.
مفارقة صريحة
طفل الثامنة والتسعين التي يحمل بطلها اسم " أحمد النصراني " تقدم مفارقة صريحة تجعلنا نستشف منها أنها تريد أن تقول أن ثمة تجاورًا بين الأديان، وأنه يصعب، في كثير من الأحيان، الفصل بينها، واصلة إلى حد أن تقول إن الإنسان هو الأهم بعيدًا عن دينه أو جنسيته، كما نجدها مليئة بالتساؤلات منها ما جدوى السياسة؟ ولماذا يفرقون بين مواطني البلد الواحد؟ وما فائدة الحروب؟ ولماذا تتضخم ثروات البعض، ويدهس الفقر المدقع ملايين البشر؟ منتقدة ما صنعه الغرب من زرع الجماعات الإرهابية في بلدان الوطن العربي وما نتج عن ذلك من آثار سلبية وسيئة، مشيرة إلى الذين ينادون بالحرية والعدالة الاجتماعية وحق تقرير المصير، بينما هم أنفسهم يمارسون ما هو غير ذلك، دون أن تغفل قيمة ودور أولئك الذين قاوموا الاحتلال بشتى صوره، ولم ينقادوا له، بل ظلوا رجالًا وأبطالًا في مواجهته رغم عدته وعتاده.
كذلك تريد الرواية أن تقول لنا إن الله جميل لا يرضى بما يفعله الذين يلقون بأنفسهم في التهلكة منتحرين وقاتلين غيرهم من الأبرياء، مؤكدة أن المبالغة في المثالية تخلق سلوكيات وأفعالًا مضادة عنيفة تؤدي إلى همجيات ليست هناك وسيلة ناجعة للسيطرة عليها، كما ترى أن التاريخ الحقيقي، إن كان هناك تاريخ حقيقي، فلن يكون إلا من خلال الرواية، وليس من خلال المؤرخين الذين لا يخلو عملهم من تبجح وتعالٍ.
إرسال تعليق