حفر
قصة: أحمد غريب (*)



(1)

عندما تحرك العصفور تهاوى الجذع المائل، وسمعت صوت ارتطامه وخشخشة الفروع القليلة التي تكسرت داخل الحفرة، كان الصوت مماثلا لتأكل الخشب عندما يلقى في النار، وقد ظلت السحب القليلة المتبقية تلقى بالمطر بينما تنحرف به الريح ليسقط على ظهري وقفاي.

كان الجو باردا وفى اللحظة التي تحركت فيها عيناي لتتابعا حركة الصعفور - عاد إلى جفني الإحساس بالتحجر والحرقان، كلما اقتربت مقلة العين من حافة الجفن شعرت باللسع، ولم يكن أمامى حل المواجهة الهواء الداخل إلا الإغلاق. توقعت الإحساس الحارق الذي سيشيع السخونة في المحجرين اللذين تجمدا، توقعت الذوبان أيضا ولم أجد استعدادا لتلقى الدموع. ظللت أنظر محتفظا بآخر اتساع للفتحتين، وعندما التفت دوامة الريح لتلطم وجهى بالمطر أغمضت دون أن أدرى، وبحركة لم أدركها إلا وهى تحدث اندفع ذراعي الأيمن لأسفل، دافعا يدى داخل جيب الجاكت بينما لحق به ذراعي الأيسر إلى الجيب الآخر، وأدركه عندما بدأ الجيب الأيمن يتمزق، وصل صوت التمزق إلى داخل اذنى مع حبات صغيرة من المطر انزلقت هي الأخرى، ربما لأنني ملت قليلاً بجذعى إلى الأمام، تحركت خطوة حتى استقيم.


(2)

كان الرمل ممتزجا بالتراب - يمتد أمامى نحو نهاية الأفق - تتخلله بعض حشائش متفرقة، تبدو محنطة وسط هذا الفراغ، الإضاءة رمادية لا تحدد إن كان الوقت شروفًا أو غروبا ، ثمة تراب عالق في الهواء، يزيد من صعوبة الرؤية، ركزت بصرى فى السماء الرمادية، الممثلثة بسحاب كثيف متزايد، مرت لحظات وأنا أنظر فوقى إلى الكتلة الرمادية الغامقة، وكنت اسمع صوت الريح ينفخ في الرمل ويطيره، هبطت ببصري وفي داخلي إحساس بأني رأيت هذا المكان من قبل بنفس الطريقة، مثل غلطة المونتاج السينمائي تكررت اللقطة وربما كنت بحاجة للنوم، تنبهت إلى العامل الذي يحفر والتفت إلى الرجل الذي يوجهه متحدثا لى أيضا، ورغم صوت الريح كانت أذني تستمع إليه وإلى صوت تنفسى المنتظم درت ببطء حول نفسي موليا للرجل جانبي دون أن أفقده اهتمامه بالكلام، نظرت إلى البيوت البعيدة من خلفي، كانت السماء الرمادية تمتد منحنية لتغطى خلفيتها وجزء من الأسطح ولم يظهر منها إلا حوائط ازداد تنفسى بطئا وانتظاما - كان الصوت الرجل رنينا في هذا الفراغ - وبدأت أسمع دقات منتظمة مع صوت التنفس اندهشت عندما تخيلت أنها - ربما - دقات قلبي ، شعرت بهزة خفيفة مع كل نقلة يأخذها عقرب الثواني الدائر فوق معصمي. أكملت الدورة عائدا إلى مواجهة الرجل الذى تباطأت كلماته قبل أن يلقى جملته الختامية : لذلك أهم خطوة هى الحفر ثم سقف الحفرة بعد ذلك بدأ وجهه يبتسم ناظرا إلى رد الفعل على وجهى، وقبل أن يبدأ في انتظاره لي حتى اتكلم هبط المطر غزيرا، فجرى في حين ترك العامل الذي يبدو لى وراءه بأمتار عديدة - ترك آلة الحفر وجرى بسرعة حتى وصل إلى كوخ خشبي صغير، متهالك، وعندما هم بإغلاق الباب وراءه وصل الرجل، واستغرق لحظات ينظر إلى قبل أن يدخل، بينما أطلت رأس العامل مبتسما، في هذه اللحظة شعرت بحبات من الماء تنزل بين ياقة الجاكت ورقبتي منزلقة إلى ظهري، وكانت باردة، فعدلت بيدى الياقة لتلتصق أكثر بالرقبة، التي اخذت تنكمش.

(3)

السيارة التي نركبها مكيفة، أدار الرجل جهاز التكييف عندما بدأنا نتجاوز حدود المدينة، كان يقود بتمكن وصمت من يعرف الطريق، في البداية أيد رؤيتي كل شيء على الطبيعة، وعندما أدار المكيف استحسن ارتدائي ملابس ثقيلة، فالجو بارد ويبدو أنها ستمطر، وكانت البرودة قد بدأت تسرى داخل السيارة عندما تجاوزنا البيوت، وبدأ الطريق يزداد وعورة، فارتجت السيارة. كان العامل الجالس خلفنا فى المقطورة قابضا على آلته بيديه الاثنتين وعندما ارتجت السيارة اهتز أمامى فى المرآة الجانبية. وكان الرجل يدير عجلة القيادة منحرفا إلى اتجاهات بعيدة عن الطريق لتفادى الحجارة والسيارة تتأرجح. ولم تكن المرأة تسكن حتى تتلقى هزة أخرى. ظللت أحرك رأسي متابعا اهتزاز المرأة التي يعتليها التراب واهتزاز العجلة فى يديه، لاحظت حبات العرق التي ظهرت في أعلى جبهته، وكان منفعلاً، قال إننا سنواجه طقسا سيئا والمكيف الدافئ سيسبب نزلة برد، أوقفه، أشار بيده إلى شجرة يابسة وقال إننا اقتربنا ها هي ملت بجذعي للأمام وأنا فاتح عينى على اتساعهما ، كان الزجاج قد اكتسى بطبقة من التراب، وهدأ محرك السيارة ولحت الكوخ الخشبي الذي يبعد عن الشجرة عدة أمتار، وفى المنتصف بينهما حدد الرجل مكان الحفر.


=================================
(*) أحمد غريب، من مجموعاته القصصية خيوط على دوائر)، بالاشتراك مع هيثم الورداني، أحمد فاروق الراحل وائل رجب، نادين شمس.

القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009

بانوراما القصة القصيرة المصرية 
خيري شلبي.

Post a Comment

أحدث أقدم