احتمالات بداية.



قصة: أحمد الشيخ (*)

وكانت غفوات الصحو والتأمل الغويط تقودني إلى سراديب الرؤى الغامضة، أسأل نفسي إن كانت لحظات الخروج من بطنها كانت على هذا النحو فعلا أو أنها محض رسوم اقتحمت الذاكرة على مهل؟ لعلها لم تكن منينة الصلة بما جرى بالفعل ولعلها تكونت فى اللاوعي مسنودة على خبرات قديمة قدم الحياة نفسها ، لكنني في كل الحالات كنت أراني منفلنا على غير ما كانوا يتوقعون، وبحسب ما كانت تحكى لى ولكل الحاضرين من الأهل والأقارب بعد أن كبرت وصرت بحسابات الكبار رجلا ، تحكى مزهوة بنفسها أنها أفلتتنى بكل اليسر برغم أننى اتولدت قبل الموعد المحسوب بأكثر من شهرين، كنت أشاركها الحديث الجالب للضحكات أحيانًا قائلاً إنني استشعرت خروجي من داخلها مندفعا إلى أرضية القاعة الجوانية الرطبة وكيف اختلط السائل اللزج ودم خلاصى بالرماد الناعم قبل نزول الخلاص نفسه، أقول إننى تشممت رائحة الرماد واستشعرته ساكنا فوق مقدمة الرأس وأجزاء من البدن العريان فيضحكون، أسرح فوق حياتي قائلا لهم بينما أتأمل ملامحها أو أبوح لها بيني وبينها : إنه من المحتمل جدا أن أكون قد أحسست بأصابع أم يوسف وهى تلتقطنى وتربط حبلى السرى من فوق بطنى بخيط متين قبل أن تفصله عن الخلاص ثم ترفعنى مقلوبا وتربت على ظهري بخبرة السنوات الطويلة التوليد والإرضاع أقول واثقاً ومستوداً إلى إمكانية تصديقي: إنه حدث أنني كيت لأول مرة بينما أتنفس في ذلك الركن هواء تلك القاعة الذي ما زلت ميزه هل كان هواء تلك القاعة المهجورة مميزا بالفعل في تلك اللحظات: أزعم ته كان كذلك ولا يزال، لكنني كنت أشعر أنني سوف أبالغ في وجود الآخرين أو أكدت قدرتي على تمييز رائحة ذلك الهواء الذي كنت قد تشممته في أول تجربة شم فعلى عبر تلك اللحظات، وأننى سوف أصادر على نفسي لو قلت إننى لم استشعره أو أتشممه بشكل لائق، كنت استند إلى احتمالات احساسي بحدوث ما حدث لأنني كنت قد قرأت وأنا في سن الإدراك ومحاولة الفهم أن الجنين في بطن أمه يحس بمثل ما يتغذى ويتحرك ويفرز الفضلات أحيانا كنت أقول لنفسي إنها محض تخيلات ترسبت في الوعى من اللاوعي بعد أن قرأت تفاصيلها مئات المرات في الكتب، لكنها كانت بحساباتي وحسابات الوقائع التالية أول سقطة تحدث لى وإن بدت زيارة غير مألوفة أو متوقعة من كل الناس في ذلك الزمن القديم لأنني جئت قبل موعدى بشكل مؤكد يحسب كلامها ولم أكمل حتى شهرى السابع في بطنها، وكثيرا ما كانت تحدثى وهي تشير بإصبع سبابتها القصير مفرودًا وحده من كفها الصغير إلى تلك البقعة أو مكان السقطة على وجه التحديد في دار المرحوم والدها الذي لم أره أبدا بينما تبتسم:
- هنا كان مسقط راسك يا سيد.

أتأمل المكان الذي صار مألوفا لى وتربطنى به على نحو غامض مشاعر حنو متبادل إن كانت الأرض الرطبة المهجورة تعرف الحنو كما نعرفه، أسأل نفسى إن كانت تلك البقعة من الأرض على وجه التحديد هي التي استدعتني رجلاً في الخفاء فأتيت كي أتأملها وأتأكد من جذوري، أتساءل بيني وبين نفسي إن كانت أمي هي التي لفظنتي قبل موعد خروجي المألوف لتتخلص على أو التي تعجلت الخروج رغم إرادتها؟ أتساءل ولا أجيب

تحكى دليلة أو أم يوسف عن صرختي العالية التي كانت صاحبة أكثر من كل الصرخات التي سمعتها هي لحظة أى ميلاد فأسرح بخيالي مرتبكا ، يتضاحك الحاضرون لأننى بكل الحسابات سرحت في البعيد عنهم، تهمس أمي بمودة ساخرة بينما تنصب نظراتها ناحية العينين بلوم ناعم:
- عملت لنا فضيحة.

كنت فى المرات الأولى التي أسمع منها تلك العبارة أشعر بالخجل من نفسي لأنني صرخت بصوت عال، وربما لو كنت أملك القدرة على صياغة عبارات الاعتذار المناسبة ما ترددت أبدا، كان فى داخلى خجل حقيقي لأنني أتيت أو خرجت على غير موعد ثم صرخت عاليا وعملت لها فضيحة على النحو الذي كانت تؤكده كل من حضرت الواقعة أو الوقعة، لكنني بتكرار تلك الرواية عشرات المرات لم أعد أستشعر ذلك النوع من الخجل، ربما لأننى عرفت أن الصرخات تصاحب كل من يولد كإعلان على وجوده الجديد تختلف حدة الصرخات، لكنهم جميعا يصرخون ولا بد أننى تألفت مع المكان وصرت اتشمم رائحته، أستعيدها واستكشف الفروق بينها وبين كل الروائح التي تفح أو تصدر عن الأماكن الأخرى، أقول لنفسى إنها نفس الرائحة القديمة التي تسربت إلى أنفى وعبرت حلقومی امتزجت بتلك الخلايا الحية التي شكلت مولودا كنته أنا في الزمن القديم، كان يتأكد لي أن ذلك الرماد الناعم الذي التصق بجزء من رأسى وأجزاء من بدنى تفاعل مع كيانى وتسلل ليكون في الدماغ أولى خبراته مع الحياة، يبدو لى أننى على نحو غامض كنت قد انعجنت برماد تلك البقعة ثم تنفست هواءها وأننى لأول لأول مرة سمعت فيه أصوات و صرخات وهمسات لم اميزها، تحسست الأرض أو تحسستني، انطبعت على بداني يمثل ما انطبعت أنا على سطحها ، تلقتني بحنو يليق بمولود سقط لتوم فوقها، وكانت المساحات تتسع بمرور الأيام، أنظر إلى مكونات القاعة والدار واسمع أصوات ناسها، اتألف أكثر مع صوت أمي وأشيع من لبن صدرها واطمئن وانا في حضنها، تحتويني بحنو احتاجه واحتج صارخا لو لم أحصل عليه في كل الأوقات، بعدها زحفت وقعدت فى الأركان قبل أن أخرج من باب الدار بمساعدتها أو بمساعدات غيرها، شاهدت بوعي حقيقي ذلك الزقاق وميزت اصوات ناسه، رأيت تفاصيل الوجوه التي لم أكن قد رأيتها من قبل، كانت المساحات تتسع يوماً فى إثر يوم ثم انقطع الخيط تماما ودرت حول نفسي في فراغ الفترة لم استطع تحديدها ، رأيتني في مكان آخر وسط ناس غير الناس، أبحث عنها بين الوجوه فلا أراها ، أبكى وأبكى تعبيرا عن عدم الموافقة على ابتعادها على أو ابتعادى عنها، يحاولون إسكاتي فلا أسكت عاجزا عن الكلام بمثلما يتكلمون ومتشوقا لصدرها وهمساتها ورائحتها التي كنت أطمئن إليها وأنام، حتى فى الحالات التي كنت أشعر فيها بالجوع أو العطش أو إخراج الفضلات كنت أثق أنها سوف تأتى وتحملني، تنفذ رغبتي وتبعث في قلبي السكينة والإحساس بالأمان، لكنها لم تأت أبدا ولا استشعرت أنفاسها إلى جوارى مرة أخرى، لا بد أننى كنت أغيب عن الوعي في ساعات الصحو وأشعر بالأنامل الغريبة وهي تتحسسنى لتتأكد أني كنت ما زلت أعيش أو أننى فارقت الحياة معاندا، كان الجوع يعتصر أمعائي برغم كل محاولاتهم الإطعامي أو إرضاعي من صدور أخرى غير صدرها، كنت أرفض وأرفض ثم استسلم مغصوبا بغريزة الجوعان الراغب في مواصلة الحياة وفي داخلي رغبة أخرى في الخلاص من حياتي ومكابدائي، لكن إرادة الحياة انتصرت وجعلتني أعيش حسبما قالوا لي بعد ذلك وأنا على عتبات الوعي أو اللهم لا بد أنني من داخلي كنت أرغب في مواصلة الحياة لكي أحاسبهم وأسألهم عنها أو أعاتبها وأسألها عن سر غيابها على، أنتظرها لتأتي وتأخذني أو يساعدني أحدهم فى الوصول إليها لتحوطني بذراعيها وتدفئني في حضنها ولو مرة وحيدة أخيرة، تتحسس بدنى وترضعنى أو تطعمني وتسقيني ثم أموت تفهم لي أو تهدهدني لأنام باطمئنان كنت قد افتقدته تماما وظللت أفتقده كانت الرغبة فى داخلى غير منطوقة ويستحيل الخلاص منها حتى وأنا في مراحل الوعى التالية، لكنها لم تتحقق على امتداد السنوات، كنت أحزن في داخلي أملا في استعادتها بينما أسمع حكايات جدتى لأبي عنها وكيف أنها تعيش هناك في نفس القرية التي تركناها وابتعدنا عنها ، فارقناها وعشنا بعيدا بالغصب عنا، كانت تضيف أن أولاد الحرام كانوا وراء انفصالها عنه وابتعادي عنها، كانت أمى بالنسبة لى خيالا منسوجا في فراغ بلا تقاطيع ولا ملامح محددة، لكن طيفها تباعد عنى بعد أن أكدت لي الجدة في واحدة من تلك الأمسيات الصيفية أن أمى دخلت بيت رجل من الناس الشلبي وصارت له زوجة أتذكر ما كانت هي تقوله في السابق عن الناس الشلبي الذين هم ناس أمي وعائلتها والذين لا ترتاح لهم جدتى ولا تحب سيرتهم، ناس بلا أصل غرباء عن الكفر الذي تركناه وابتعدنا عنه، لكنه كفرنا وفيه ناسنا وأرضنا، ميراث أبي وميراثى من ذلك الجد الذى افترى عليها وعلينا، أستعيد ملامحه وأراه ماثلا أمامي بعوده الفارع وشمروخه المركون إلى جواره إذا قعد والممسوك في يمينه إذا وقف أو سار، أستعيد ابتسامته لى بينما يضع في حجرى الصغير زرع الغيطان بعد أن يمسحه بطرف جلبابه ويطلب منى أن أكل بالهناء والشفاء، بلح زغلول أو رطب أو جوافة ناعمة، حمراء أو بيضاء جميز أو توت أبيض وأحمر وأسود عناقيد عنب فيها بذور أو خالية من البذور من فوق التكعيبة الساكنة فوق الخارجة الواسعة المسكونة بالبقر والجاموس والماعز والخراف من كل الأحجام، واحيانا خيار أخضر أو قناء أو بطيخة صغيرة أو حتى حزم قصب لتنحط بيننا فاكتشف ما سبق أن اكتشفته بأنه هناك أعواد قصب قشرتها حمراء أو بيضاء أو فيها خطوط حمراء وأخرى بيضاء بصفرة، يهمس لي بمودة لأنه اكتشف إعجابي بتلك الخطوط وكانه يمنحنى سرا بينما يربت على ظهري مبتسما:

- دة بقى يا سيد اسمه خد الجميل

كان يأتيني بكل شيء من زرع المساحة الواسعة الكائنة بين الترعة الصغيرة والترعة الكبيرة على رأس الغيط، ولا يزال وجهه الباسم بشاربه الأبيض الكثيف الناعم في الذاكرة ولا أزال أحب الرجل، أتشوق لرؤيته مثلما اتشوق لرؤية تلك الأم التي كانت بلا ملامح، لكن ملامح الرجل ماثلة ومطبوعة في الذاكرة ويستحيل نسيانها، حتى شمروخه المميز وعباءته الفضفاضة أكثر من كل العباءات والتي كان يغطيني بها لو شعرت بای برد لعل جدتى كانت تقرأ ما يدور في ذاكرتي أو أتوهم أنا ذلك، أسمعها وهي تؤكد أن الظفر لا يخرج من اللحم وإن خرج فإنه يخرج بالدم، كأنها تطمئنني بأنه في الزمن القريب الآتى سوف تعود المياه إلى مجاريها ويعود الحق لأصحابه كان في إيقاع كلماتها شيء شبيه بالأحلام أو الأمنيات مستحيلة التحقيق شيء يشبه إمكانية حصولي في الصباح التالي على دراجة تخصني اتمكن من ركوبها والجرى بها في شوارع المدينة دون أن يختل توازني وأسقط سقطة موت كتلك التي سقطها جدى القديم من سطح داره فوق حجر الطاحونة القديم قبل ان آراء، لا بد أننى بمرور الأيام تأكدت من استحالة رؤيته حيا يتحرك بخفة ونشاط فتشيئت بملامحه بديلاً عن وجوده دون أن أدرى، ولعلني في تلك المراحل الأولى من عمرى كتمت رغبتي في الذهاب إلى أمي البعيدة رغما عن إرادتي استمريت على نحو خفى أنها في مكان لا يخصها وحدها، مكان لا يحق لي دخوله لأنه كان مملوكا لرجل آخر غير أبي الخذله زوجا، بيني وبين نفسي كنت الشكك في كلام جدتى عن عدم قدرتها على الخروج من دار الرجل الغريب عنا التراني ولو مرة واحدة تبور فى غيابها وابور ابتعادها على كل هذا الوقت، لكنني كنت أشعر أنها في تلك الحالات لم تكن تصدق نفسها وتعرف أنني أن أصدق

كان أبي يحادث جدتي همسا في واحدة من تلك الأمسيات عن مشواره الذي تأجل وأذكر أنها وافقته على مرافقته فى المشوار، كلاهما كان ينظر ناحيتي نظرات غريبة إلى الحد الذي جعلني أتشكك في أنهما سوف يتركانتي وحدى، هل همست لجدتي محتجا على تركى وحيدا أو أنني بكيت فأحاطتني بذراعيها وضمتني إلى صدرها وهى تقول بصوت عال:

- مش ح نسيبك لوحدك أبدًا يا ضنايا ، نسيبك إزاى؟ حد يسبب ضناه؟
إحنا ح نأخدك معانا يا سيد.

وفي الصباح التالي استأجر لنا سيارة خصوصى وقفت أمام باب البيت ودعانا للركوب فتركب وتسير بنا السيارة في اتجاه كفر عسكر كما قال للسائق ولها ولى، كأنه كان محبوسا في المدينة التي كنا نعيش فيها، كفر عسكره، اسم سمعته آلاف المرات، سكننى ولم أكن ساكنه في تلك السنوات لكنني كنت منسوبا لناسه، لأولاد عوف الذين لهم ينتمى هو وهي وأنا على المعاصين من أمي التي هي من جماعة لتلبي، وملكا إلى كفر مصير في الظهيرة، دخلنا دار علي أم الشهداهم من قبل، كانت الشعر بالجوع ولا اليوم وبأصوات خافتة كانوا يتحدثون وعندما دخلت المرأة في وسط القاعة وحطت كنها مفرودا ومحليا فوق شفتيها العليا واطلقت وضرورة قيام رجال من بين الرجال وضربها بالكاف قسمعناها المصرح بينما ترمع هربا وهو يسبها ويلعنها.

- يا بنت المراكيب عاوزة تجيبى لنا تصيبة لحد عندنا؟
دا الراجل الكبير حيث ما فاتش عليه سنة.

وساد الصمت إلا من نهنهات آتية من خارج باب المندرة المزحومة بالرجال والنساء سمعنا بوق سيارة فكأنه كان للكل علامة أو أمرا بالوقوف، خرج أبي وجدتي وأنا ممسوك في قبضة يدها، ركينا نفس العربة في ساعة المغيب المبكر وركبت إلى جوار أبي بنت كبيرة جميلة التقاطيع تلبس فستانا أبيض وتضع على رأسها طرحة بيضاء، كانت جدتي تحادثها بمودة طول الطريق وتناديها باسم روحية فترد عليها بصوت خافت أو تطرق ولا ترد، ترفع عينيها ناحية أبي خلسة وتربت على كتفى صامتة بنصف ابتسامة، وعندما وصلنا إلى بيتنا الكائن في المدينة دخلت في معنا، وعند باب حجرة حملها أبي ودخل بها بينما سحبتني جدتي إلى الغرفة الأخرى، أطعمتى فتخلصت من جوعی، راحت تحكي لي حكايات، فنمت وصحوت في الصباح التالي على لمساتها وهمساتها الخافتة بنغمات ساخرة:

- اصحي بقى يا سيد على القيوم تبارك لا يولدة إيه رأيك في روحية؟ حلولة في حلوا بس يا رب يكون طبعها حلو برشه، ما هی دی ح تبقي مرات أبوك وبدل أمك.
مستسلما لكف جدتي الممسكة بكفي سرت إلى الحجرة الأخرى. ورأيتها بثوب ناعم وشعر مفرود وتقاطيع حلوة، أسرعت هي ناحيتي وحملتني، قبلتني عدة قبلات كنت اسمع همسات أبي وجدتي ولا أميزها، اقعدتني على حجرها وهمست:
- من النهاردة يا سيد انت ع تبقى ابنى وانا أمك، أعمل لك التي انك عايزه اي حاجه عايزها تقوللي عليها، بس تقوللی با امه تقولي ايه؟ هيه و تقوالي ايه يا سيد يا ابني
 لم ارد. نظرت إلى جدتي وأبي عدة نظرات، لعلني كنت استفسر عنهما إن كانت هذه بالفعل أمي الجديدة، وأوشكت أن أسأل جدتي عن تلك الحكايات التي كانت ترويها لي عن أمي الأخرى والساكنة بحسبما قالت في كفر عسكر حيث كنا في اليوم السابق، لكنني لم أحصل على جواب أو حتى غمزة بعين أو إيماءة من رأس، كنت أرى على الوجهين فرحة وانشغالاً بمن وفدت إلينا وسوف تبقى هزت جدتي رأسها عدة هزات قبل أن تهمس لي والروحية في نفس الوقت:
- قول لها يا نينة، يبقى يقول لك يا نينة مش كده برضه يا حسن يا ابنی؟
- كله زي بعضه يا امه وماله، نينة نينة

لا بد أننى نمایشت خلال تلك الأيام مع كل من كانوا يحيطونني وكنت أكبر، أمشى وارمح وأنطق الكلمات الجديدة في المدرسة وأميز بحساسية لا أعرف مصدرها من يتعاطف معى بصدق ومن يكرهني بلا اسباب، كانت جدتي في ذلك الزمان القديم في الصدر البديل الأكثر حلوا تطعمني وتسقيني وتلبي رغباتي الصغيرة، لعلنى لم أطمئن تماما للوافدة الجديدة بقدر الطمثنائي لها وتصديقى لكل ما كانت تقوله لي او تهمس به او حتى تغمرني لأفعله أو لا أفعله فاستجيب لعلها كانت حساسية موروثة كما قال الكبار عندما كبرت، وكانت في بعض الأحيان تتباكي على مصيري النمس وحرماني من أمى البعيدة، تسخر في كل الأوقات من روحية لأنها احتلت مكان أمي زوجة لأبي وأما كما كانت تقول لكنها كانت برغم جمال تقاطيعها ونعومة صوتها لحظة التودد شحيحة في كل شيء الخبز والفموس والملاليم التي أطلبها إذا سافرت جدتى وغابت أحيانا كانت تدفعني للعب في حوش البيت مع العيال، تعطيني كسرة خبز جاف وتبتسم قائلة:

- انزل العب تحت يا حبيبي..

وكنت انزل مقصويا ومغلوبا أسمع كلامها وأنفذه مخافة العقاب والتخويف إذا قالت لأبي أو جدتى شيئا مما يحدث بينها وبيني في غيابهما، وكانت بارعة في التودد لأبي ومداعبته تطمئنه على حالي وتلبية كل مطالبي إذا سألها لأننى حسبما كانت تؤكد له سوف أكون أخا أكبر لضناها الآتي في علم الغيب أحيانا كنت اتسمع صوته يسألها إن كنت قد تناولت وجبة العشاء فتقسم له بأنني تعشيت وانبسطت أكون صاحيا تحت الغطاء لكنني لا انقلب أو أجرؤ على رفعه على أو أقدر على تكذيبها، كنت أخاف منها وأشتكي لجدتي في الخفاء فكانت تلعنها وتعاركها إذا شافتها أو سمعتها تتحرش بي تهددها بأن تقول لأبي بعد رجوعه من الشغل ليتخلص منها تعايرها بأصلها الوضيع وتزدريها إذا أقسمت بأنها تخدمني لوجه الله وقد تركتني أمى وتخلت عنى وما فكرت في طلب رؤيتي مرة أو السؤال عنى في أي مناسبة وكيف أنها انشغلت بعيالها من زوجها الثاني تقاطعها جدتي وهي تتحسسني بيديها :
- اخرسي با غسالة يا بنت الغسالة بالحاسة الصحن، إنتي نسبتي روحك يا روحية ولا إيه؟ أيش أوصلك لامه يا بنت المراكيبة وا المداس اللي يبتلبسه برقبة عشرة زيك وتسألها احيانا باستنكار ساخر وعينيها مركزتان على وجهها الذى كان يتلون باللون الأصفر. 
- بقى هي لو كانت لسة على ذمته كنت تطولي تشتغلى عندها خدامة؟ دى ما كانتش ترضى تشغلك خدامة تسكت روحية ولا ترد او تنسحب من المكان وهى تبرطم بكلام غير مميز، لكن جدتي كانت تنصحني بأن أطاوع روحية وأسمع كلامها في غيابها لأن روحي بين يديها، تطلب منى أن أناديها قائلا يا خالتي.
لكنني إذا طاوعتها وفعلت تبتسم ساخرة منها ثم تهمس في أذني بأن روحية لو طلعت السماء برجليها ما طالت أن تكون شقيقة الأمي، كنت أسرح بخيالي واتخيل أمى البعيدة وهى أعلى من السماء ذاتها، أتعجب وأسمع جدتي وهي تهمس:

- أنا بس خايفة عليك منها، دى قادرة ولو طالت تسمك ح تسمك، أمك.
يا ضنايا كانت ست الستات، إنما يا خسارة.

تقول عبارتها وتسكت فترة تتفكر خلالها قبل أن تضيف:

- بس الناس الشلبي أهل أمك مالهمش أمان الواحد منهم يحفر البير بإبرة، قلبوا دماغها بكلام فارغ، انعوج ميزانها وساقت اللوع، بس ابوك ما طاقش خلصها قبل ما تولدك بشهرين، يا ريته ما كان خدها م الأول وخلاك يتيم وهى عايشة على وش الدنيا.

أحاول أن أرسم صورة لوجه أمى الذى لم أره فتتوه منى الملامح وتختلط اتجاسر أحيانًا وأسأل جدتى عن شكلها فتنظر إلى بإشفاق وتهز رأسها .

تحكي من تقاطيعها الحلوة وشطارتها ونظافتها ثم تسكت أشعر انها تقصر على ضياعها وقد يلست من التفكير في استعادتها بعد أن تزوجت وخلفت والشكلت على إلى حد أنها لم تعد تسأل عن أحوالي نفسها وهي تنظر إلى البعيد وكأنها نسبت وجودي إلى جوارها:

- كان ولها في ولى وعملت روحها ما شافتنيش، هما بيولدوهم وينسوهما طيب تسأل وتطمن على ضناها، والعيل ذنبه إيه يا ربيه الميل ذنبه إيه؟

تلفت ناحيتي وكانها اكتشفت وجودى إلى جوارها تحتويني وتقبلني وربما المعنى قرشا وتوصيني بأن اشترى اي شيء اريده من الدكان فأفرح وأرمح وأنسي.

====================================
(*) أحمد الشيخ، من مواليد (۱۹۳۹)، من مجموعاته القصصية : (دائرة الانحناء) و(مدينة الباب)، و(كشف المستور)، (الحنان الصيفى)، (البحر الرمادي)، (نصف الساعة السعيد) (المنام المراوغ).
القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009

بانوراما القصة القصيرة المصرية 
خيري شلبي.

Post a Comment

أحدث أقدم