الزمن بين الأدب والدراما
سيد الوكيل
 


يقول كانط : ( إن الزمان هو الصورة المميزة لخبرتنا ) .

ويعني هذا إن الزمان لا ينفصل عن ذواتنا باعتبار أن الخبرة مكون أساسي من مكونات الذات، فالنمو العقلي والنفسي والحسي للإنسان يتشكل عبر الزمن، وهذا النمو هو المظهر الوحيد الذي يعرفه الإنسان للزمن، لأن الزمن في الواقع ضائع ومفقود، ولا يبقى دليل على وجوده إلا في الذاكرة الإنسانية كأرشيف للذات، لأن الذاكرة هي التي تعمل على تنمية الذات بخبراتها المختلفة، فأنت حين تنظر إلى أثر ما، تدرك ما طرأ عليه من تغير عبر مقارنته بصورته الأولى التي في الذاكرة، فتدرك الزمن، كما أن الأحداث التي انتهت تبقى ـ فقط ـ في الذاكرة، هذا يعني ارتباط الحدث بالزمن، بما يؤكد أهمية تفاعل العناصر المركزية للسرد والتي من قبيل: الزمن، المكان الحدث، الشخصية..

وإذا كانت الذات الساردة تستدعى خبراتها الفنية والجمالية من الذاكرة، فيمكن التأسيس على ذلك بأن الأدب هو فن إحياء الزمن ، وهو ملمح نلاحظه في كثير من روايات نجيب محفوظ، بمعنى أن الزمن هو وسيط  يدعم السرد بخبرات إنسانية، أو بمعنى آخر هو وسيط الحياة نفسها مادام الإنسان يعيش في الزمن، ومن ثم ..فكل من الزمن والأدب والحياة تبدو كمترادفات لشيئ واحد.

إن إدراك الإنسان لهذا التلازم بين الزمن والأدب ليس شيئاً عارضاً او محدثاً ، حتى أن البنيات الحكائية الأولى في الثقافة الشعبية عرفت هذه الاستهلالة التي نبدأ عندها بـ ..( كان ياما كان) فكلمة ( ياما) في الموروث الشعبي تحيل إلى كثرة الأحداث والوقائع التي سكنت الزمن.

 غير أن الاهتمام بدرس الزمن في الأدب هو أمر حديث نسبياً ، ومتزامن مع الفلسفات الحديثة التي أعطت مفهومات أكثر عمقاً ووضوحاً للزمن عن ذلك المفهوم الغامض عند الإنسان القديم ، ومن ذلك التمييز بين الزمن كخبرة فردية إنسانية تعيش في الوجدان وهو المفهوم الأدبى للزمن، والزمن كمفهوم موضوعى وعام يدخل في صميم اهتمام الفيزياء، وهناك فوارق مهمة بين المفهومين ، فنحن سنتفق موضوعياً على تحديد زمن واقعة ما حدثت في الماضى تماما كما نتفق على أن 5 يونيو 67 هو يوم النكسة، لكن تلقينا الوجدانى لهذا التاريخ يتفاوت على نحو فردى بحسب خبرة ووعى وثقافة كل منا، والإنسان طوال الوقت يدرك هذا الفارق بين المفهومين وعلى نحو واضح، حتى يمكن القول إنه يتعامل دائما وكأن هناك زمنين وليس زمنا واحداً.

 وبعيداً عن هذه المفارقات الظاهرية، فكل مفهوم منهماً يحمل إشكالياته وتناقضاته الداخلية، فالزمن الفيزيقى يحمل إشكاليات الحركة والمقاومة والكتلة والمسافة إلى آخرهذه المفهمومات الفيزيائية التي تتعلق بالزمن. والزمن الوجدانى ينطوى ـ أيضاً ـ على إشكالياته وتناقضاته، من حيث إدراكنا لطبيعة وجود الزمن، فالماضي غير موجود، والمستقبل لم يأت بعد. كل ما هو موجود الحاضر فقط (الآن) لكن هذا الحاضر لايمكن تقسيمه كنقطة أولية في خط ممتد من النقاط المتلاصقة، بمعنى أنه لا يحمل تفاوتاً أو تبايناً داخلياً، وهكذا فالزمن جدلاً غير موجود بامتداده ـ كماضٍ أو حاضر أو مستقبل ـ سوى في وعينا وخبراتنا، وهذا التلازم بين الزمن والذات يجعله بالضرورة نسبياً ومتفاوتاً بغير تكافؤ. فالثانية الواحدة يمكن أن تشكل عمقاً زمنياً في الذات أكثر مما تمثله ساعات كاملة من الزمن الموضوعى وذلك بحسب تأثيرها في الوجدان ومدى ما تتضمنه من خبرات، وذلك هو رهان كتابة تيار الوعى كما نراها عند: جيمس جويس وفرجينيا وولف ومارسيل بروس.

 

وفقا لما سبق يمكن للأدب أن يفتح أفق الزمن على آخره، ليمتد ليس فقط في عمق الماضى بل في أحشاء المستقبل، والعكس ـ أيضًا ـ ممكن.. فالأدب يمكنه اختزال الزمن، وإعادة ترتيبه، واختيار لحظاته على نحو حر تماماً، فنحن حين نقول: ( في الصباح ذهبت إلى عملى وفي المساء التقيت صديقى ) فنحن نسقط ـ في  الحقيقة ـ زمناً كمياً وموضوعياً من وعيناـ بين الصباح والمساء ـ على الرغم من وجوده في الواقع. ومن المؤكد أن هذا الوجود ليس فارغاً  بل مشغولاً بالكثير من التفاصيل، ولكنها لاتدخل في وعينا ولاتؤثر في خبرتنا بالموضوع الذي نتحدث عنه، بمعنى أنها ليست جزءاً من ذاتنا التي  تتجاهله وفق آليات الحذف والإضافة والاختيار.

بوسعنا القول إن الذات الساردة تصنع زمنها الخاص، وإن النص الأدبى هو التجلى الجمالى لهذا الزمن، وإن تفرد الذات الساردة هو تفرد وجداني ينشأ عبر علاقة الأديب بالزمن باعتبار أن الذات الساردة هى الصوت الفني لذات الأديب، وباعتبار أن ما نطلق عليه ذواتنا هو في الحقيقة وعينا الخاص بالزمن.

 

السرد إذن هوالتعبير الملموس لوعينا الخاص بالزمن، فالحدث يتم في الزمن، وإذا كان النص القصصي في بنيته مجموعة من الأحداث المرتبة زمنياً على نحو خاص، فإن دراسة السرد لا تخلو بالتأكيد من دراسة الزمن على الأقل على نحو ضمني، غير أن النص الأدبي ليس مجرد مجرد مجموعة من الأحداث المرتبة، بل هو ـ أيضاـ طريقة في تشكيل الحدث، أي أن السرد في أحد معانيه هو فن تشكيل الزمن، تماماً كما نقول إن العرض المسرحى هو فن تشكيل المساحة أو المكان، وهو البعد الذي يشير إليه (بيتر بروك) في كتابه الهام ( المساحة الفارغة) الذي يعرض لعدد من دراسات السينوجرافيا في المسرح، فالعرض المسرحي في وعي المتفرج/ المتلقي يحدث هنا والآن أمام عينيه وفي مكانه، لهذا فهو لا يتشكل عبر أي بعد زمني.   

هذا ما يؤكده أكرم اليوسف في كتابه ( الفضاء المسرحي ) الذي يقدم درساً عميقاً لبنية العرض المسرحى بوصفها مجموعة من العلامات التي تعطى معنى جمالياً للمساحة الفارغة، بمعنى انه يتجاوز الفراغ من حيث هو حيز إلى الآليات التي تعيد تشكيله، وإذا كان النص الأدبي ـ أيضاً ـ في بنيته الجمالية هو مجموعة من العلامات، فإنه ـ كذلك ـ لايخلوا من بعد مكانى واضح، وهكذا اتصور أن أى دراسة للزمن في الأدب لن تكتمل بمعزل عن دراسة المكان، لكن الدراسات المسرحية وحدها هى التي أضافت المتفرج إلى هذه الثنائية.

 

Post a Comment

أحدث أقدم