مفتاح قديم
قصة: أحمد زغلول الشيطى (*)
لهنيهة لم أر سالم وفتحى السباك ناديت يا اسطى فتحي، جاءني صوته في العتمة الخفيفة، قريبا للغاية.. كان خلفي، وإلى جواره سالم يعبث في صندوقه المعدنى الصدئ، قلت: هووه، ما فيش نور هنا ..؟
لم يحر أي منهما جوابًا ، كانا منهمكين في البحث عن مفتاح.. في حين كنت أتفحص الردهة الواسعة.. كانت صور العقاد وأم كلثوم، وسعد زغلول مترتبة ومركونة على الأرض، أو معلقة كيفما اتفق...
فاجأني سالم، قائلاً : كانت بتيجى البيت وهي صغيرة.. وأشار إلى صورة أم كلثوم ، هززت رأسي بينما أستوعب صاح فتحي: يا سلام؟ مفخما من وضع البيت وأهله.. تقدمنا سالم إلى السلم الجانبى المقوس، وخلفه السباك.. ثم أنا ....
انتبهت على صوت ارتطام الصندوق الصدى ببلاط الردهة، وتناثر ما به من مفاتيح. وصوت فتحى يقول فى نفاد صبر ما فيش ولا مفتاح عايز يفتح.
قلت: يعنى إيه انحبسنا هنا ؟
فوجئ بهبوط عتمة تدريجية، ولاحظ مصعوقاً أنه محبوس في هذا المكان مع اثنين لا يعرفهما إلا من دقائق، ربما خمس دقائق، ربما عشر دقائق
ربما أكثر لم يعد يدرى، نظر إلى سالم كأنما يراه لأول مرة، كان في نحو الخمسين قصير القامة نحيلاً جداً، حتى بدا له مقوسا قليلاً. ومما زاد في نحافته ارتداؤه حزاما جلدياً ابرز خصره الذى يشبه خصر طفل. وكان يرتدى نظارة مربعة العدسات، ويمسك الصندوق المعدنى بيديه. انتبه سالم لقلقه، وقال مهدئا: أكيد هنلاقي مفتاح.
كان السباك متوسط القامة فى الثلاثينيات من عمره يعالج مقبض الباب بتؤدة دون جدوى، وتدريجياً لم يكن هناك مصدر ضوء، شعر بأن المكان يضيق، وأن الهواء ينفذ، وأنه لا يدرى ما الذى جاء به إلى هذا المكان، وهو لا يريد شيئا منه، ولا من سالم ولا السباك.
مؤكد يتكاثف الليل في الخارج، في المنطقة المطلة على الأثر المهدم المهجور، وقد سمع ما حكاه سالم عن انهيار حائط قديم، ومشاهدة الناس معبداً يهودياً مبنيا خلف السور. لم يكن أحد يتصور وجود المعبد في المكان وتساءل الجميع اكانت تقام الشعائر سراً دون علم جيران المكان.
صاح السباك معنفًا سالم بيتك دة خرابة ، لأ لأ لأ دة.. جبانة. لم يرد سالم على السباك متجاهلاً إياه. كانت الرؤية قد أصبحت ضعيفة للغاية. لم يعد يتصور ما يحدث وما إن كان واقعا حيا أم كابوسا . جلس على درج السلم واستند برأسه على يديه اللتين ارتكزتا على ركبتيه. كان فتحى يتحسس الحيطان وينظر إلى الشراعات العالية المسلحة بقضبان حديدية، محدثا جلبة وتعنيفاً متواصلاً لصاحب البيت الذى ترك الصندوق المعدني يسقط من يده ثم تكلم بأعلى صوت يقدر عليه البيت دة مش بتاعى، أنا شغال هنا.
راح السباك يضحك ضحكا هستيريا ويردد : وانت مين يا ساكت؟
انزوى صاحب البيت في ركن، وقد انكمش على نفسه. كنا كمن اصابتهم لعنة، أو كمن سقطوا فى بئر زلق لم يعد أحد منا يدرى من الآخر، وما إذا كان هذا الجدار جدارا ، أم أنه حائط وهمي سيسقط من أول لمسة. كان السباك خلفى تماما حين صرخ في أذني: ومين صاحب البيت؟
قلت: إنني لا يهمني. حين قال الرجل النحيل إن صاحب البيت مقيم بالخارج لأنه يملك مصنع أخشاب فى رومانيا ، ولا يأتي سوى مرة واحدة في السنة، وأنه اشترى هذا المنزل منذ عامين من أصحاب البيت الأصليين وهم من الأعيان القدامى، وإن إحدى سيدات البيت كان أميرة.... أميرة حقيقية ، ويقال إن الملك فاروق زارها مرات عديدة في هذا البيت، وإنها دفنت في مقبرة ملكية.
كان السباك يتابع كل كلمة بانتباه شديد. بدا كل شيء مستحيلاً، بما في ذلك هذا السرد، تتداخل التفاصيل، ويدق الفارق ما بين الحقيقة والخيال، ما بين مدينة أقيمت تدريجيا على أنقاض مدينة أخرى لا تزال فاعلة ، وأزمنة لا تزال تشق لنفسها مجرى دون هوادة. هكذا رأيتني معلقا بأربعة أيد، بينما أسقط في بئر عميقة ضيقة، وسالم والسباك يحاولان مد أيديهما بأقصى ما يستطيعان.
بالكاد راح جسمى ينزلق داخل فوهة البئر إلى أن سقطت في مجرى مائي معتم وبارد. كان صوت فتحى يتباعد، فيما كل شيء يؤكد كلامه، من أن المجرى هو أنبوب تحت الأرض يمتد من البئر إلى النيل. تتسارع كلماته في أذني: أنبوب مكون من عقود من الطوب، بنيت كقنوات تمد بيوت الأعيان بالمياه العذبة حين فيضان النيل، بحيث يبقى المخزون طوال العام. يرفع يده مؤكدا : ما زالت أنابيب من عقود الطوب تشغل مساحة واسعة غير مرئية تحت السطح.
ينظر سالم إلى وجه السباك مأخوذا. يتابع فتحى دون أن ينظر إلى أحد : يتم هدم وردم أي جزء منها قد يظهر أثناء عمليات البناء، باستخدام الآلات العملاقة. هكذا، رحت أخوض في المياه الباردة مرعوبا من العتمة ومن احتمال أن يكون النفق المائى مسدودًا ، تناهى إلى صوت كلاكسات بعيدة.
(*) أحمد زغلول الشيطى من مواليد ۱۹٦١ ، من مجموعاته القصصية : عرائس من ورق، ١٩٩٤.
القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009
بانوراما القصة القصيرة المصرية
خيري شلبي.
إرسال تعليق