أول بلكونة 
فصل من رواية 
للكاتبة صفاء عبد المنعم 

الشعب الذى لا يقف عند الإشارة الحمراء، هو شعب عظيم.
- ألبير قصيري -    


ما بعد النكسة 
----------------- 
25 مارس 2019 . 

- النور ينسحب رويدا رويدا من عينيه.
هكذا قال الجد لحفيده الجالس أمامه على حافة الكرسي، يحاول ربط حذاءه بكل عناية ودقة.
عندما قام الأب من مكانه، ويحاول تلمس طريقه إلى الحمام بيديه وهو يسند على الحائط.

فى هذه اللحظة.
أنتبه الأبن لما يحدث أمامه، فقام واقفاً فى خفة وأمسك بيد والده لكى يذهب به إلى الحمام سريعا قبل أن يتبول أمامه على الأرض وهو مازال واقفاً.

كان الحزن يثقل على روح الحفيد الذى لا يعمل، واليوم إزداد حزنه الضعف عندما رأى جده وأبيه على هذا الوضع، بعد أن هجر جميع أخواته البيت إلى الخارج فراراً من الواقع المؤلم أو بحثاً عن العمل أو أشتهاءً للثروة، وهو الوحيد الذى رفض ترك جده ووالده بعد وفاة أمه منذ سنوات طويلة، كان أيامها فى المرحلة الثانوية، وأكتفى بهذا القدر من التعليم،وخرج إلى الحياة باحثاً عن عمل، فأصبح يعمل أى شىء، وفى أى مكان.

بداية من عامل فى ورشة صغيرة لتصنيع الأحذية بمنطقة العتبة بوسط البلد، وأنتهاءً بالعمل سائقاً على تاكسى يملكه صديق له.
ولكنه ومنذ ثلاثة أيام فقط.

فقد عمله بسبب عطل فى التاكسى، فقرر صاحبه بيعه. وظل محروس لمدة ثلاثة أيام بلا عمل، وأصبح يجلس فى البيت طويلاً، يرقب عن قرب والده الذى بدأ يذهب النور من عينيه، ولا يستطيع رؤية الأشياء الصغيرة، هو فقط يرى نوراً وهاجاً أمام عينيه، دون تحديدد تفاصيل الأشياء بدقتها السابقة.

بين جده المسن الذى أصبح يبول على نفسه ولا يستطيع أن يتحكم فى تبوله، وبين أبيه الذى فقد بصره. قرر محروس منذ أن رأى هذا المشهد المقزز أمامه - جده ،ثم أبيه يتبول واقفاً أمام عينيه، وهو ينظر إليه مندهشاً - أن يشترى(بامبرز)حجم كبير ويحاول وضعه لهما وهما نائمين.

فى البداية.
كانت الفكرة صعب تقبلها من قبل الجد الذى كان يمد يده وينزعه بهدوء بعد خروج محروس من البيت، وأحياناً عندما يكون البامبرز قوياً ومحكماً، كان يقوم واقفاً، ويحاول أن يتبول بمنتها البساطة، وأبنه يرقبه عن بعد، كأنه طيفا أو شبحاً يتحرك أمامه، وأصبح لا يستطيع اللحاق به، ويمسك يده ويسحبه إلى الحمام مثلما كان يفعل فى السابق. بل إنه لم يعد يشعر به أو يراه، إلا إذا سار على الأرض حافياً، فشعر ببعض البلل فى باطن قدميه، فيعرف أن والده قد فعلها.
فكان يصيح الأب بصوته عالياً : حرام عليك يا با نقضت وضوئى.

فيضحك الجد من بين دراديره بخبث لأنه يرى إنفعال أبنه عليه بشكل واضح، وكأنه رجع طفلاً صغيراً ووالده يوبخه على تبوله على نفسه. فكان الأبن يغتاظ غيظاً شديداً، وعندما يعود محروس بالليل من الخارج، كان الأب يحكى له بأستياء شديد ما فعله الجد به : يا أبني جدك عنيد، وأنا صعب أتحمله. يربت محروس على كتف والده ويقبله بحنو وعطف : حقك علي.
ثم يجلس محروس على طرف السرير بجوار جده الذى يسمع حديثهما بأهتمام ثم يضحك، ضحكات ضعيفه باهتة مثل طفل صغير تشكو أمه لأبيه عن مغامراته طوال النهار.
ومنذ ذلك اليوم.

وبعد الشكوى الصارخة من والده. أصبح محروس يجلس فى البيت طويلاً، يراعى جده المسن والذى أصبح عنده حب التبول واقفاً، وبين والده الذى أصبح لا يرى مطلقا ويتحسس طريقه بيديه ويتبول واقفاً هو الآخر فى أى مكان بالبيت.
إلى أن جاء اليوم صديقه طاهر، وطلب منه الحضور إلى المقهى فى تمام الساعة الثالثة ظهراً، حتى يلتقى برجل أعمال يبحث عن سائق خاص، ورشح طاهر محروس صديقه للعمل عنده.


سعادة هشة 
------------------ 
25 مارس 2020 .
بدأ الملل يتسرب إلى روحي.
الشارع بالخارج صامتاً، صمتاً مطبقاً، لا صوت يعلو على نباح الكلاب الضالة بالخارج، على فترات متقطعة يأتى نباح متواصل، وكأن معركة حامية تجرى بين كلاب المنطقة، ربما حاول كلب دخيل أختراق مناطق النفوذ أو حاول المرور ولو سريعا من بينهم، أو يبحث عن طعام له فى كوم قمامة أمام أحد المحلات.
جلستُ فوق السريرالمجاور للنافذة، وأخذتُ أنظر خلال الزجاج المغلق على الخارج.

لا شىء هناكَ سوى الصمت. عندما عطستُ عطستين متتاليتين، ضحكت أبنتي الصغرى الجالسة على السرير المقابل لي، وتشغل وقت فراغها بأعمال التريكو، وقالت منتشية : كورونا! ماما عندها كورونا. وأخذت تغنيها مرة وأثنين وثلاثة، كأنها جملة لحنية علقت برأسها. 

كان صوت(سيد مكاوى)ينبعث من الخارج حزينا شجيا وهو يغنى أغنية(الأرض بتتكلم عربي)وهى تسألني بفارغ الصبر : يا مامي، تحبى تسمعى إيه؟ سيبك من الشباك شوية وكلميني من فضلك. نظرتُ نحوها بأندهاش شديد، ثم قلتُ لها بملل : لا شىء. عندما رأيتها غاضبة من ردي المتكاسل وأنني غير مهتمة بها، ضحكتُ بفتور، وأنا أتناول كوب الشاى الساخن بيد مرتعشة من يدها : أسمع أم كلثوم(ليلة حب).

ثم عدتُ للصمت ثانية، وكأن الأصوات التى كانت بالخارج من قبل أصبحت تصدر من مسافات نائية وبعيدة، حتى أصوات الكلاب خفتت شيئا فشىء.

أدارت عينيها هنا وهناك من خلال الصمت الذى ساد المكان، والريح التى بين حين وآخر تزمجر بقوة وعنف، حيث الخلاء الواسع المحيط بنا.
وفتحت الموبايل على أخره على أغنية ليلة حب لأم كلثوم، وهى تضحك بحبور وسعادة : عشان خاطر مامتي حبيبتي.

جلستُ أنصت بأهتمام شديد لرائعة بليغ حمدى وأنا أتحسر على الدنيا فى ألم وصمت، وأرشف من كوب الشاى الساخن. وأم كلثوم تشدو برائعتها(ليلة حب حلوة زى الليلة .. الليلة).

Post a Comment

أحدث أقدم