شجرة وامرأة وفتاة
قصة قصيرة
أحمد أبو خنيجر (*)
نفسى ضيقة مكتومة.
ولجسدى رائحة تطلب النهر.
الجو خانق، تسيطر الدميرة على الحقول مخرجة صهد التزاوج لافحا ، ولاذعا ، له رائحة حريفة، تزيد إحساسي بالاختناق.
كنت قد هربت من زحمة البيوت، وحيدًا بدروب وحيدة، أسير منوما يهدی جسدى تجاه النهر، واحتياجي الطاغ لوجودي عاريا بالماء.
في ظل شجرة كبيرة وعالية، وقفت أبرد اشتعال جسدي، وقدمى تعبث بالسطح الساكن للماء. أخرجت سيجارة ورحت أشربها على مهل ريثما عرقى يجف.
كل شيء حولى صامت، والجوار خال، لم يكن سوى قارب صغير مربوط إلى جذع الشجرة البيوت الآن بعيدة، والناس والدواب محتمين بقبضتها من هذا الصيف المداري بشمسه القاتلة ورعونته المطلقة. سرب الصمت إلى أذني هسيسا خفيفاً ، تلقت كي استطلع مصدره، كل شيء ساكن، لا هبة نسيم تلطف الأجواء، أو تتحرك أوراق الشجرة، دوامات النهر بعيدة، خمنت أنه امتداد همس الدميرة للنهر.
لم تخفف السيجارة التي انتهت الآن من طبقة الصدر، وظلت رابضة، ألقيت العقب فى الماء، فأصدر الانطفاء وشيشا ضعيفا سرعان ما ضيعه الصمت، بقيت للحظات أرقب الدوائر الصغيرة التي أحدثها العقب في الماء بسرعة وهدوء عاد السكون إلى سطح الماء.
بدأت فى خلع ملابسي، وأنا أنظر للجزيرة القابعة بمنتصف النهر، وقد غمرتها مياه الدميرة الجارفة تاركة جزءًا صغيرًا منها طافيا. تبسمت وأنا اتخيل
هذا الجزء كفارس نبيل يقف وحيداً مواجها التيار العاتي.
لم يبق سوى السروال، مددت يدى، لكن الصمت عاد وسرب إلى صوت خطوات تقترب توقفت وأنا أنفض رأسي هواجس قلت هي هواجس الوحدة. استدرت، كانت امرأة ترتدى الأسود وفتاة شابة بفستان مورد بألوان زاهية جمدت للحظات غير قادر على التصرف السريع.
وقفت المرأة والفتاة في ظل الشجرة، في الطرف البعيد عنى، التقطت ملابسي وأخذت في ارتدائها ، نبهت حركتى الفتاة إلى وجودي، فغمزت المرأة وبقيتا ساكنتين ترقبانني وأنا أرتدى ملابسي على عجل.
من ناحيتي أرى أن الوضع هكذا شادًا وشائكا، فأنا أرغب فقط أن أكون وحدى عاريا تماما أغطس فى الماء ، عل الحرارة التي تتصاعد من حولى تهدأ، وتروح طبقة النفس، لكن من المرأتان ؟! وما الذي جاء بهما إلى هذا المكان المقطوع ؟! وفى هذا الوقت تحديدا كن ينظرن نحوى، وكنت أنظر إليهن، فيما شعور بالعداوة الحقيقية المتبادلة كان يفترش المسافة بيننا.
لم يكن أمامى سوى أن أغادر، والجزيرة مكان الفرار، رحت للقارب وفككته من الشجرة، وأخذت أجدف مبتعدا ، وأخذت المرأة والفتاة في الحركة الخفيفة، رويدا كانت ملامحهما تبهت وأنا أقترب من الجزيرة.
درت حول الجزء الطافى من الجزيرة، كي أحقق رغبتي الكاملة في الوحدة والعرى، وأيضا حتى لا أبقى تحت رحمة عيونهما، على غير توقعى كانت الدورة طويلة ومنهكة، أوقفت القارب ورحت استطلع الضفة الأخرى للنهر، هالني ما رأيت كانت امرأة ترتدى الأسود وبجوارها فتاة شابة بفستان مورد بالوان زاهية، تقفان تحت شجرة كبيرة وعالية، تنظران نحوى لم اصدق، علنى لم أدر حول الجزيرة. قلت: واصلت التجديف وكلما واجهت الضفة، كانت ثمة امرأة ترتدى الأسود وفتاة شابة بفستانها المورد بألوان زاهية تقفان تحت شجرة كبيرة وعالية تظلل عليهما.
كانت الشمس تزداد حرقة، وأنا مستمر بالتجديف، دون الوصول إلى طرف يحجبنى عن المرأة والفتاة والشجرة، لا أدرى كم مرة درت حول الجزيرة لكن في كل مرة كانت هناك شجرة عالية وكبيرة، تحتها امرأة وفتاة ينظرون نحوي.
حين تعبت وصار العرق يكسو جسدى ونشع من ملابسي، وأصبحت رائحتى لا تطاق، قدت القارب نحو الشاطئ، مباشرة إلى الشجرة، نزلت وربطت القارب دون أن أنظر نحو المرأة والفتاة.
أخذت في الابتعاد عن الشجرة، وأنا أحس بأن تنفسي صار صعبا، وخطوتي على الأرض ثقيلة، التفت نحو المرأة والفتاة، لا أدرى لماذا رأيتهما، وأنا بالكاد أفتح عينى، تبتسمان ابتسامة غامضة يجللها سحر شفيف.
(*) أحمد أبو خنيجر، من مواليد ۱۹٦٧ ، من مجموعاته القصصية: (حديث خاص عن الجدة)، هيئة قصور الثقافة، إبداعات القاهرة ۱۹۹۵ ، (غواية الشر الجميل)
جماعة سوبك، أسوان، ۱۹۹۸ ، جر الرياب)، الهيئة العامة للكتاب، إشراقات
أدبية، القاهرة ۲۰۰۱ ، مساحة للموت)، الهيئة العامة للكتاب، كتابات جديدة القاهرة ٢٠٠٣.
بانوراما القصة المصرية القصيرة
القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009
إرسال تعليق