قراءة في رواية
كل الأبواب مواربة
للكاتب الروائي
سمير فوزي
بقلم صابر الجنزوري
هناك روايات تستفز القاريء منذ قراءة عنوانها ورؤية تصميم وغلاف الرواية وما كتبه المؤلف بظهر الغلاف ، والإهداء ، فهذه الأشياء يعتبرها النقاد نصا موازيا ،ولها تسميات مختلفة ، منها عتبات النص ومنها محيط النص...الخ
فإذا توقفنا عند الإهداء ، يقول :إلى السارد الأعظم
" نجيب محفوظ"
سيظل ظلك يلازمنا.
ربما يتوقف المتلقى عند ذلك الإهداء ويسأل : ماذا يريد الكاتب؟
ربما تأتي الإجابة بعد اكتمال قراءة الرواية، ويسأل نفسه ، هل هذه هي حارة الأستاذ نجيب محفوظ ، وهل أبطال الكاتب سمير فوزي يشبهون أبطال الأستاذ نجيب؟ فكان الظل وكان السرد ؟
لا شك أن القاريء والناقد لهذه الرواية التى تتكون من 177 صفحة في النسخة المكتوبة بصيغة (بي دي إف) التى أهداها لي كاتبنا المبدع الأستاذ سمير فوزي ، لاشك أن المتلقي بعد قرائته للمشهد الأول من الرواية ، يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه ، فقد استفزه الكاتب وجعله أمام خيارين ، إما أن يكمل ليري مالذي سوف يحدث بعد ذلك ؟ وإما أن يتوقف عن القراءة وليس عن عيب فني او طريقة سرد الكاتب ولكن لصعوبة المشهد الذي يبدأ بجريمة قتل وجثة وخيانة زوجة لزوجها حيث نتعرف على " نعيمة" زوجة " إبراهيم المخبر" فنراها مع "حمزة الزبال" كما اطلق عليه الكاتب ووصفه، داخل مكان بقسم شرطة يبيت فيه الزبال ، ويتوالى سرد العلاقة دون تحفظ في وصف تفاصيل التفاصيل التى تتكرر، حتى أن ما كتب على ظهر الغلاف يصور لحظة حمل حمزة لجثة القتيل ليلقيها بعيدا عن مكان مبيته فى أحد أكوام القمامة ويصاحبه كلبه الذي يشمئز من الجثة.
يلقي الكاتب فى ذكاء شديد بعقدة النص منذ البداية ، حيث يبدأ في تعريف المتلقي بصاحب الجثة ، والذي تدور حوله الرواية، فهو
"الشيخ جمعه ياجوري"..
وقد جاء لقب ياجوري لأنه كان يتباهى ويفتخر أنه من أبطال حرب أكتوبر وأول الذين أسروا قائد العدو عساف ياجوري.
وتتوالى الأحداث داخل شارع ضيق مثلما نرى في تصميم الغلاف ، حتى أننا نكاد نرى الشرفات لا يفصل بينها وبين بعضها سوى سنتيمترات ، وهذا ما نجح فيه المصمم ليتوافق مع دلالة العنوان ، فكل أهل الشارع أو الحارة يرى الآخر ويكشف الآخر خلف أبواب وشرفات مواربة أو مكشوفة.
اختار الكاتب اسم شارع "الخلفاء" ليكون مكانا للأحداث، واختار زمن الأحداث اثناء الفوضى التى حدثت فى أعقاب ٢٥ يناير ٢٠١١ وحتى
٢٠١٣ ، للأسماء دلالة ورمزا، خاصة الرمز الديني في الخلفاء ، وجمعه ، وحمزة ، واسلام حتى عندما اختار اسم القسيس عبد الشهيد وابنه أبانوب وزوجته مارية ، ليصور العلاقة التى تربط بين المسلم والمسيحي داخل الحارة ،اختار أسماء لها دلالة عند الإخوة المسيحيين ،لتستمر أحداث الرواية فنجد الكاتب يأخذنا فى سرد مثير فى أحداثه التي تتدفق بسرعة حول تلك الجثة وصاحبها الشيخ جمعة ياجوري للوصول إلى القاتل الحقيقي ، لكنه في نفس الوقت يكشف المستور ويكشف ما خلف الأبواب المواربة، عملا بالمثل القائل " البيوت أسرار"..
( وراء كل باب حكاية ).
فيكشف العلاقات المحرمة بين رجال ونساء الشارع ، فحمزة ونعيمة ، وأبو نعيمة وأم زوجها إبراهيم ، وعلاقات الشيخ جمعة النسائية التى برر أسبابها وقال أن الشيخ جمعة كان جميلا تتمناه كل إمرأة لنفسها حتى زوجة القس عبد الشهيد توحمت عليه عندما حملت في ابانوب.
ونجد أيضا ابنة الشيخ جمعة (شهد) الخرساء الجميلة ، اغتصبت وحرقت نفسها ، فأشار الكاتب على لسان أحد الشخوص بالرواية بأن كثير من بنات الشارع فقدن عذريتهن.
الحبكة وربط الأحداث وروايتها جاءت من خلال تعدد الرواة ، فلم يكن هناك راو واحد للرواية وأحداثها ، فليس هناك راو عليم ، وليس هناك راو واحد ، ولكن هناك ، لكل فصل شخصية تروي من خلال علاقتها بالشيخ جمعة وتحكى جانبا من شخصيته كما رأتها وتعاملت معه ، النساء يصورنه أنه ملاك والرجال يصورنه شيطان ورائحته لا تطاق ،فتظهر بعض الحقائق من تطور شخصية الرجل مع زوجته "غناوي" التى كانت تتعامل معه بقسوة وتطرده أحيانا من البيت وتسبه وكان يضعف أمامها ، فلم ينجب منها غير البنات وكان يتمنى الولد ، تتغير شخصيته بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ ، ويتحول إلى الشيخ جمعة بعد انضمامه لجماعات التيار الإسلامي الذي حكم وسيطر على البلد ، وتسلط جمعة على سكان البيت وتجبر عليهم ، واتهم المسيحيين بالكفر وسلط عليهم أحد شخوص الرواية ليفجر الكنيسة ، ويصور مشهد اعلانه بهدم البيت لإعادة بنائه وتطهيره ، بالتماهي مع الفوضى و هدم البلد ووصول الحكم لتيار الإسلام السياسي والإخوان ، حتى أن جمعة نفسه رمز به الكاتب لذلك التيار برائحته التى لا تطاق وفساده ، وكأنه يحاكم من خلال شخوص روايته تيار الإسلام السياسي ويدين الخلافة... إلخ
تنتهي الرواية بكشف آخر قصة في حياة جمعة ، بظهور شخصية كريمة ، تلك الفتاة الصغيرة التى كانت صديقة لابنته الخرساء شهد ، فتحكى كريمة ، كيف أحبت الشيخ جمعة وكيف راودته لكنه تعفف ، وذهب لأهلها ، أمها بائعة الفطير والجبنة التى تأتي من الأقاليم إلى شارع الخلفاء لتبيع بضاعتها ، فتصبح صديقة لغناوي زوجة جمعة التى خضعت واستكانت لجمعة بعد ان ضربها وتخلى عنها ، وكان يختفي ويظهر دون موعد حتى عرفت بمقتله ، فأظهرت شغفها وحبها له نتيجة لجماله وفحولته.
يطلب جمعة الزواج من كريمة ، ويغدق على أهلها من المال والذهب وشراء شقة كبيرة لهم ،وكان ذلك أحد الأسباب التى جعلت كريمة تقبل الزواج منه بعد أن اصبح ثريا ، من خلال علاقته بالجماعات الدينية وغسيل الأموال والإرهاب ..الخ
نكتشف أن كريمة انجبت له الإبن لكن الفرحة لم تتم، لأن الإبن الذي أنجبته مريضا بالتوحد ، فيختفي جمعة حتى تظهر جثته.
ويبدأ كل راو وكل فصل في الحديث عن جمعة تلك الشخصية الغامضة المتطورة التى لم تظهر بنفسها ، ولكنها ظهرت من خلال شخوص الرواية وحديثهم عنه ، ورسم شخصيته من خلال رواياتهم التى اختلفت واتفقت عليه ورأته شيطانا ورأته ملاكا!
تطالعنا الفصول بالعناوين حسب شخصية الرواية وعلاقتها بجمعة.
يبدأ الفصل الأول بعنوان صادم :
مصيبة لا على البال والخاطر
(حمزة) حيث يصور مشاهد الخيانة واكتشاف جثة جمعة.
ثم الفصل الثاني :
ياريتك طاوعتني يا إبراهيم (نعيمة) حيث تحكى نعيمة قصتها وزواجها وخيانتها وعلاقة أبيها المحرمة مع أم زوجها.
الفصل الثالث:
لماذا خصني الله بهذا الإختبار الصعب (ابراهيم) ، وهو زوج نعيمة الذي يحكى اكتشاف خيانتها له واتهامها مع حمزة بقتل جمعة.
الفصل 4 : ما ذنبي ان الله خلقني وسيما (إسلام) الذي يحكى علاقته بجمعه واتهام جمعة له باغتصاب ابنته الخرساء شهد، وهذا الفصل الذي قال فيه : اكتشفت أمهات شارع الخلفاء أن بناتهن جميعا فقدن بكارتهن.
5: أنا أكتر واحد فرحان بموت جمعة (عنتر) : أحد الشخصيات الذي يحرضه جمعه على تفجير الكنيسة ، ويتحدث عن مشهد من أحداث ٢٥ يناير فيما سمي بموقعة الجمل.
6: نوار : الذي يتحدث عن جمعة قبل وبعد ٢٥ يناير..
7: الشيخ مفتاح : يتحدث عن سيطرة جمعه وجماعته على المسجد وخطبة الجمعة بالقوة وابعاده عن المسجد وتهديده.
8: غناوي : زوجة جمعه
تحكى عن زواجها منه وكيف كان فقيرا لكنه جميلا وكيف بدأ حياته معها وكيف قام بتغسيل ابنته شهد ودفنها ، وكيف شعرت بحبها له بعد رحيله واكتشافها لزواجه وانجابه ابنا معاقا وكيف اختفى حتى سمعت خبر قتله.
9- قتلته إمرأة ( عبودة ):
أحد شخوص الرواية وصديق قديم لجمعه وكان يحب غناوي زوجته لكنها فضلت جمعه عليه وجمعه يعلم بحبه لها.
10: أم هاني : تحكى قصة صداقتها بغناوي زوجة جمعة وهي أم كريمة التي تزوجها جمعة لإنجاب الولد وتحكى عن كرمه وطمعها في ماله ليخلصها وزوجها وبنتها من الفقر.
11- القس عبد الشهيد:
يحكي عن علاقته بجمعه قبل ٢٥ يناير حيث كان ودودا معه ويحب ابنه ابانوب ويحتفل معه بعيد ميلاده وبعد ٢٥ يناير يتهمه بالكفر ويحرض عليه ويريد هدم البيت ليخرجه ويتخلص منه في رمزية شديدة لعلاقة التطرف والإرهاب ونظرته للآخر.
12: هانم : العجوز التى تحكى عن كرم جمعه معها وفي نفس الوقت تشيع الفتنة في البيوت.
13- أنتكا : الخمورجي الفاسق الذي يحكي عن كذب جمعه ويكشف كذبته ويفضح لقب ياجوري الذي خدع به جمعه اهل الشارع وقال أن جمعه لم يكن إلا عسكري مراسلة ولم يشارك فى أسر عساف ياجوري.
14- كريمة :
الفتاة الصغيرة صديقة شهد الخرساء ابنة جمعة التى أحبت جمعة بالفعل وتزوجته ليخلصها وأهلها من الفقر وتقول : لو رجع الزمن وظهر في حياتي لتزوجته.
تنتهي الرواية نهاية مفتوحة دون تصريح أو تلميح عن قاتل جمعه ، فقد تركها الكاتب متعمدا للمتلقي ليتساءل:
من الذي قتل جمعة؟!
تقول كريمة في آخر سطرين بالرواية : تركنا جمعة وغاب طويلا ، بحثنا عنه ، تلفونه برقمه الخاص الذي لا يعرفه أحد سواي مغلق ، اكتشفت بعدها ، اختفاء شهادة ميلاد الولد وقسيمة الزواج والصور التى تجمعنا.
تنتهي الرواية التى تكونت من هذه الفصول التى تحمل عناوين شخوص الرواية التى وصلت لأربعة عشر فصلا وراويا لأحداثها ، فلم يكن هناك راو عليم او راو متكلم مشارك ، أو راو مخاطب ، كلهم شخوص شاركوا فى الرواية كأنها بطولة جماعية ، وكل فصل له حكاية وبطل يتحدث عن البطل الحاضر الغائب والقتيل الذى رآه البعض ملاكا ورآه البعض شيطانا ، تحبه النساء ويكرهه الرجال ، صعلوكا فقيرا فاسقا ضعيفا مستكينا حتى في بيته وأمام زوجته قبل ٢٥ يناير ٢٠١١ وثريا وشيخا وقويا ومتجبرا على زوجته وفتوة على أهل شارع الخلفاء بعد ٢٥ يناير ، فيتضح من خلال طريقة السرد وتعدد الرواة التى قد يجد المتلقي أو الناقد أنها اضعفت من النص والحبكة الروائية بحيث يستطيع المتلقي أو الناقد أن يتخلى عن بعض الفصول دون أن تتأثر الرواية وترابط أحداثها، أو يجد فيها مجموعة قصصية متوالية يربط بينها البطل الأوحد وكل الشخصيات تتحدث عنه.
وقد يرى البعض الأخر تشويقا وإثارة واستفزازا لعقلية القاريء ومتعة فى جرأة وتناول الأحداث.
كان ذلك من حيث طريقة السرد فإذا ما تناولنا اللغة،نجد قليلا من السرد باللغة الفصحى ، كثيرا من الحوار باللغة العامية التى اذا ما استطعنا وصفها لقلنا أن الكاتب استخدم ألفاظا جريئة صادمة في الكثير من الأحيان قل ان نجدها فى بعض الأعمال الروائية لبعض الكتاب مثل الراحل المبدع حمدي أبو جليل في روايته لصوص متقاعدون والتى نجد فيها أوجه الشبه فى استخدام اللغة والحارة وطبيعة الشخصيات مع اختلاف الفكرة والهدف والمضمون وطريقة السرد.
أخيرا وليس آخرا ، قد نختلف مع الكاتب في أشياء كثيرة حتى في مبدأ حرية الإبداع ، لكن نستطيع أن نقول أنه نجح في استخدام رمزية العنوان والإسقاط ، ربما صور الجانب المظلم للحياة عند بعض الناس والأماكن ، لكن بالتأكيد ليست هذه هي حارة الأستاذ نجيب محفوظ وليست هذه ظلال شخصيات وأبطال رواياته ورمزية شارع الخلفاء وجمعة واسلام وحمزة والشيخ مفتاح والقس عبد الشهيد التي لها دلالتها ورمزيتها الدينية وإسقاطها على الأحداث وفكرة وخيال الكاتب التى أراد الأستاذ سمير أن يقول من الرواية أن الأبواب ما زالت مواربة وأن الحكايات لم تنته وأن القضايا ما زالت معلقة وما زال هناك خطرا قائما وأننا لم نستطيع أن نغلق الشباك ولم نستطيع أن نفتحه وتركنا الأبواب مواربة رغم الثورة التى حدثت وأشار إليها في بعض الفصول وسط ضجيج الأصوات والشخوص والخيانات التى تحدث في
قاع المجتمع نتيجة الفقر والجهل والتخلف وعدم الوعي والذي قدمه الكاتب دون تحفظ وبجرأة شديدة في نهاية مفتوحة ربما يكون لها تكملة في جزء آخر ليجاوب على السؤال : من قتل جمعة ؟ وهل ستغلق الأبواب أو تظل مواربة ؟ أم ستفتح الأبواب والقضايا ويعود جمعة بعد اختفاء حسب ما قالت كريمة في النهاية ويفاجئنا الكاتب أن جمعة لم يمت والجثة لرجل آخر ومن ثم يعود مع جمعة رجاله وجماعته وتبدأ مرحلة جديدة من الصراع في شارع الخلفاء؟ كل شيء وارد..
كل التمنيات الطيبة للأستاذ سمير فوزي بدوام التألق والنجاح ومزيد من الإبداع والإصدارات.
صابر الجنزوري
٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤
إرسال تعليق