حفنة
   

قصة: حسين منصور 

منتصف الليل ، سكون عادى يحيط بالمكان ، التلفاز مضاء ،أعلنت المذيعة عن بدء عرض الليلة ، القفة ، والغربال معلقان على الحائط وسط الدار يكسوهما التراب ، ويعيدانى إلى زمن كريه.

    طقس لا يتكرر كثيراً:
   القفة المليئة بالذرة تأخذ مكانها بالقرب من باب الدار، وقفت أمى مرتدية جلبابها الأسود ، بين ذراعيها أختى الرضيع ، جدتى فى مجلسها المعتاد على مصطبة الدار ، تهش بعود فى يدها على لاشىء ، حصلنا أخيراً على بعض الذرة الصفراء بعد وقوف طويل أمام الصوامع حيث تتصارع كتل من ناس.

   اتجهت ناحية القفة وأخذت بإحدى أذنيها ، جذبتنى أمى ، بكيت ، جذبتنى ، بكت أختى ، غلب بكائى بكاءها ، فمالت على جدتى ، وضعت أختى فى حجرها ثم خرجت أمى وأنا آخذ بطرف جلبابها.

     قطعنا الحارة إلى " الخلا " ، نعل أمى الزحاف يغطس فى التراب ،انعطفنا يميناً إلى " الإنجبى " حرارة الأرض تلهب قدمى – ثم يساراً ناحية عزبة المغربى ، طاحونة " ماتياس " يعلن صفيرها المسافر فى السماء عن خبر سعيد ، النسوة وقفن فى أدوارهن ، غبار أبيض يغرق المكان ،و آثار أقدام متقاطعة على أرض الطاحونة.

        وضعت أمى القفه فى الصف ، الخالة "عزيزة" تجلس بجوار الباب _ نظرى معلق بها _اتجهتُ إليها ، وضعتْ حباتِ الترمس فى حجرى ، فحفنت أمى حفنة من الذرة ووضعتها فى حجرها ، ثم عادت تنادى على " زينهم " الطحان مستعجلة دورها ، فيرد بلهجة آمرة:    
- قبنى ياختى الأول 
فترد خاضعة
- قبنت ودفعت ياخويا.

        جلست أصف قشر الترمس صفوفاً متوازية ، أقدام النسوة تأبى أن تكتمل لعبتى ، عربة البطاطا تقف فى الخارج ، وصوت " عبد الرازق " يقطعه الضجيج ، أبدأ فى البكاء ؛ تحفن أمى حفنتين للبطاطا.

           جاء دور أمى ، فرفعت القفة ناحية القادوس ثم اتجهت إلى طاقة الدقيق، التهمت أنا قطعة البطاطا ،و عادت أمى مبيضة الوجه والشعر بعد انحسار غطاء الرأس عنه ، وخرجت آخذاً بذيل جلبابها.

               ليلة مليئة بالأسى ، ملعون أبو الجوع الفيلم مر أكثر من نصفه ، ابتلعت الشاشة وجوه الهنود الحمر ،العجوز الأبيض يلقن حفيده موعظة الخلود ( يابنى : لقد جئنا إلى هذه الأرض لتكون لنا ، وسوف أقدم لك النقود التى يكون بها العالم لك ) بسط الصغير ذو العيون الملونة كفيه ( هات ياجدى ) مد الجد يده وصب فى كفى الصغير حفنة من قمح.

            فى جوف الليل أسرعت إلى أمى ، هززتها ؛ قامت وقد أمسك الفزع لسانها ،اقتربت أكثر ، خداى يلمعان ، ووابل من دمع حار ينهمر عليهما ، جثوت على ركبتى ، ألقيت برأسى فى حجرها ، ذرات من كحل السقف تفضح لون شعرها ، ضمت رأسى إلى صدرها الواهن من عجف السنين ، طبطبات كفها على ظهرى تعزف لحناً حانياً – مازال أبى يغط فى نوم عميق – غمرت بدمعى صدرها وبصوت يحجبه النحيب قلت : ليتك ماعلمتنى أكل البطاطا ، ثم انطلق صوت بكائى يكسر السكون ، وطلقات من صراخ تخرج من الدور المجاورة.

Post a Comment

أحدث أقدم