كيف نفسد النص السردي ونحوله إلى موضوع تعبير لتلاميذ الصفوف الأولى من المرحلة الابتدائية..
بقلم: أشرف الصباغ
لنتصور أن هناك قارئا يقرأ عملا سرديا مترجما إلى اللغة الألمانية أو الإنجليزية أو النرويجية. فماذا سيلفت نظره في العمل: بناء الشخصيات؟ تحولات الشخصيات النفسية والاجتماعية والمهنية والوظيفية؟ بناء العمل السردي ككل؟ خطاب الشخصيات؟ خطاب العمل السردي ككل؟ وبطبيعة الحال، فالشخصيات في هذا العمل المترجم ستتحدث بمستويات لغوية واحدة "تقريبا"، وفي الوقت نفسه ستقدم نفسها عبر خطاب متباين المستويات يخضع لمنطق الشخصية ونظرتها للعالم وتصرفاتها.
لا علاقة هنا لوعي الشخصية بلغتها. وإنما وعي الشخصية مرتبط ارتباطا عضويا بخطابها ويما تقوله وبما يحمله هذا الخطاب من طاقة وأفكار. وبالتالي فبائعة الفجل الأمية يمكنها أن تتحدث مثل البطل المثقف الفبلسوف.
نعم، بائعة الفجل ستتحدث مثل المثقف الفيلسوف. وهنا نصطدم بكل العوائق التي تفصلنا عن الإبداع والخيال، وتبعدنا عن التخلي عن النظرة الجامدة والكلاسيكية الهشة، وتجعلنا خاضعين لسلطة العناد والجهل والإصرار على الخضوع التام للغة.
إنهم قرروا أن بائعة الفجل الأمية، سيدة ذات وعي متواضع. وبالتالي، يجب أن تتحدث بلغة متواضعة، ولتكن مثلا اللغة العامية. وإمعانا في الصلف والغيبوبة والعناد مع النفس قرروا أن المتعلم أو المثقف يجب أن يتحدث بلغة فصحى تعكس وعيه الرفيع.. ولكن ماذا لو كانت بائعة الفجل أكثر وعيا من المتعلم والمثقف الفيلسوف؟ ماذا لو كانت السيدة البسيطة غير المتعلمة لديها خطاب أرفع وعيا من هذا المثقف؟ هل نجعل المثقف يتحدث العامية، ونجعل بائعة الفجل تتحدث الفصحى؟
أحيانا يكون هناك حوارا طويلا بين شخصيتين أو ثلاثة في العمل السردي. يطول هذا الحوار لصفحة أو صفحتين. ونفاجأ بوجود جمل حوارية لا تتماشى مع منطق الحوار الدائر وخطاب كل شخصية، بل تتناقض معهما وتتعارض مع منطق الحوار. لكنها في الوقت نفسه تتفاعل بشكل عضوي وجمالي مع منطق العمل ككل؟، ومع خطاب العمل بشكل عام. ألا يستحق ذلك أن يكلف القارئ نفسه عناء القراءة الجادة والتأمل والسعي لرؤية أكثر شمولية بدلا من التمترس خلف فكرة مسبقة، وخلف نظرة ضيقة وبائسة، وخلف معايير وقوانين كان يجب هدمها منذ حوالي القرن؟
يستغرق القارئ في اللغة ومحاسنها. وبطبيعة الحال، هو حر في رؤيته وذائقته. ولكن من الأفضل طبعا أن يذهب ليقرأ الشعر مثلا، أو يشاهد عرض باليه، أو يستمع لمقطوعة موسيقية. لندعه يستمتع قليلا بـ "اللغة". لكن الشعر والموسيقى والباليه لن يمنحوه أي راحة، ولن يلبوا له تلك الذائقة المعوجة والمثالية والهشة، لأن الشعر ليس ولن يكون أبدا مجرد براعة لغوية وقدرة على التعبير اللغوي. الشعر أعظم وأرقى وأهم من أن يكون مجرد لغة: إنه عالم كامل من الصور والتراكيب والمجازات والخيال التي تحتفظ في داخلها بمنطق وخطاب، وليس بتهويمات لغوية وتأملات من تحت الجميزة. وهو ما ينطبق شئنا أم أبينا على الموسيقى والباليه على سبيل المثال.
أن يزنق القارئ نفسه في فقاقيع اللغة، ويحبس نفسه في سجنها، فهو في الواقع يجرد أي عمل سردي أو فني من دعائمه الأساسية ويحوله إلى لغة وتدريبات لغوية. وفي نهاية المطاف يمكن أن نجد بين أيدينا نصا سرديا بلغة حسنة وصحيحة من حيث الصرف والنحو والفصحى والعامية، ولكن لا يوجد به شيء. بالضبط مثل الفقاعة. تلك الفقاعة اللغوية الجميلة.
مَنْ هذا الذكي اللمَّاح الذي افترض أن الإنسان البسيط يجب أن يتحدث بلغة عامية، والإنسان المثقف يجب أن يتحدث بلغة فصحى أيا كان مستواها؟ ومن الذي قال إنه يجب أن تكون هناك فصحى وعامية تعبران عن مستوى وعي الشخصيات ووضعها الاجتماعي وتعليمها؟ ومن قال أصلا أنه يجب أن تكون هناك فصحى وعامية في العمل السردي، أو حتى في الواقع؟!!
كون الواقغ معوجا، وكون الحياة خاضعة لحالة فصام بشع وسخيف وردئ بسبب وجود فصحى وعامية، فهذا لا يعني إطلاقا أن ينتقل هذا الفصام إلى الأعمال الأدبية. وبالتالي ليس أمامنا الآن، وبشكل مؤقت، إلا أن نتعامل مع الفصحى والعامية ومابينهما على اعتبار أنها لغة واحدة يمكن استخدامها لا للتعبير عن وعي الشخصيات ولا عن وضعها الاجتماعي أو وظيفتها، وإنما مجرد لغة نكتب بها عملنا السردي الذي يتميز بخطابات مختلفة وبمستويات خطاب متباينة كجزء من بناء العمل ومنطقة.
إن التمترس وراء اللغة وانعدام الخيال، والتمسك بالفشل والكسل وتضخم الذات والاستعلاء وإصدار الأحكام على الشخصيات الروائية وعلى كتابها، يبعدنا كثيرا عن الإخلاص للكتابة، وعن الإخلاص للقراءة وإعادة القراءة، ويلقي بنا في تلك المنطقة الخانقة التي لا وجود للعمل السردي فيها إلا كنص لغوي أو موضوع تعبير يجب أن نحاكمه ونحاكم صاحبه ونمنح كلا منهما درجة. كل ذلك يبعدنا عن فهم العمل وعن كتابة الأعمال السردية الجيدة التي يمكن أن تكون على مستويات راقية من حيث البناء والخطاب وطرح الافكار والأسئلة، ويحبسنا في فقاقيع اللغة التي لا تنتج لنا إلا فقاقيع سردية تعمينا وتجعلنا مرعوبين ومسعورين وقتلة للعمل الأدبي ولبعضنا البعض. ومن جهة أخرى، تعمل على تضخيم ذواتنا وتعميق استعلائنا الناجم عن الإحساس بالدونية وقلة الحيلة.. بل تجعلنا ننظر إلى كل الأعمال، الموجودة خارج الفقاعة التي حبسنا أنفسنا فيها، كأعمال تافهة لا ترقى لما نكتبه نحن داخل الفقاعات.
إرسال تعليق