سطوة اللغة وكوارث التكريس لها بقصد أو بدون قصد
بقلم: أشرف الصباغ
كتب نجيب محفوظ الكثير من المونولوجات الداخلية لشخصيات بسيطة باللغة العربية الفصحى.. بينما كسر أنطون تشيخوف قبل أكثر من 140 عاما موضوع اللغة والحوار داخل النص السردي عندما جعل الراوي يتحدث بخطاب قريب إلى مستوى خطاب الشخصية ليحيل القارئ إلى أن الشخصية هي التي تتحدث وليس الراوي. وتعد هذه الخطوة من أهم سمات السرد عند أنطون تشيخوف..
سيظل موضوع لغة الحوار في السرد المصري موضوع جدال خطير يهيمن على المتلقي ويسفر عن قضايا خطيرة في عملية التلقي نفسها. بل ويهدم تأثير الخطاب لصالح تأثير اللغة. وعلى الرغم من العلاقة الجدلية بين اللغة والخطاب، إلا أن الخلط لا يزال يسيطر على هذه العلاقة ويصنع حالة ارتباك وانشغال تبعدنا عن الهدف الأساسي من وظيفة السرد، حيث نركز على اللغة ونجعلها البطل الرئيس في النص. بل ويجعلنا نخصص المساحة الأكبر لتفسير الماء بالماء. فنجد أنفسنا قد نسينا موضوع النص، ومتابعة الأحداث والبناء والتراكيب النفسية للشخصيات وتصرفاتها وتطورتها وتحولاتها لتصبح اللغة بطلا رئيسا.. وفي نهاية المطاف نجد أنفسنا وقد جلسنا في فصل دراسي من فصول الدراسة الابتدائية لنصحح جميعا موضوع تعبير كتبه أحد التلاميذ من أجل أن نمنحه درجة على لغته الجميلة، ونحكم عليه من حيث قدرته العظيمة على استخدام اللغة والمفردات والمرادفات..
من الواضح أن مشكلة الحديث بلغتين أو ثلاث (الفصحى والعامية وما بينهما) لا يدفع ثمنها إلا النص السردي.. أو بمعنى أدق، الأدب هو الذي يدفع ثمن جريمة الحديث بلغتين وثلاث. فعندما نتحدث بلغة واحدة يكون الاهتمام المبدئي بالخطاب وليس باللغة. ومن ثم تسير عملية القراءة والتلقي بشكل طبيعي، وينجح القارئ أو المتلقي في متابعة أحداث العمل الأدبي بصورة طبيعية. لكن عندما نتحدث بالفصحى وبالعامية وما بينهما تنشأ عملية فصل مشينة حيث يتم الاصطلاح على أن الراوي يتحدث بالفصحى، والشخصيات المثقفة تتحدث بالفصحى أو ما شابهها، والشخصيات البسيطة أو غير المتعلمة تتحدث بالعامية.. لنكتشف أننا أمام كارثة حقيقية يدفع ثمنها النص الأدبي والكاتب نفسه، ليتحول أي نقاش إلى جدال حول اللغة ويضيع النص الأدبي في زحمة الانشغال باللغة وعبادتها حد الهوس.
ارتحنا كثيرا إلى ما تم رسمه لنا منذ قرون على أيدي النقاد ومفسري الأدب ومسؤولي التأويلات الأدبية والثقافية. وأصبحت الأعراف والمعايير والقوانين تملي على الجميع إسناد اللغة الفصحى لفئة معينة، واللغة العامية لفئة أخرى. وبالتالي، أصبح خطاب الشخصية يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة على الرغم من أن الخطاب هو الأساس والرئيس في النص وليس اللغة. وأرجو ألا يتم انتزاع الكلام من سياقاته لنصرخ في هلع: إن اللغة هي وسيلة التوصيل وأداة الاتصال، فكيف نهمل اللغة!!!! لا أحد يدعو إلى إهمال اللغة أو تحييد اللغة. والنص السردي مكتوب أصلا باللغة وليس بالشاكوش. إن الكلام هنا يدور حصرا عن جريمة يتم ارتكابها بقصد أو بدون قصد، وهي إهمال أو تغييب الخطاب لصالح اللغة بنتيجة الخلط بينهما تارة، وعبادة اللغة تارة أخرى.
من الواضح أننا بددنا العديد من الحقب الزمنية على عبادة اللغة لأسباب كثيرة نعرفها جميعا. وهي ليست موضوعنا الآن في السياق الحالي. ويبدو أيضا أننا سنبقى طويلا أسيري هذه الإشكالية التي تريحنا وتجعلنا نسير وفق المعايير والقوانين لنؤكد أننا تلاميذ وطلاب صالحين ينفذون ما يطلب منهم من قبل النقاد أو القراء أو لجان الجوائز. فهي- الإشكالية- على الأقل تمنح البعض السلطة لهدم أي شيء وأي نص، وتعطي البعض القدرة على تيرير الكسل والاستسهال والقراءة الهزيلة والهزلية.
لا توجد قراءات متشابهة. ولا يتشابه المتلقون. ومع ذلك يجنح البعض إلى سلطة المعايير والقوانين لتوحيد لغة السرد، وتعميق الفصل (لغويا) بين الراوي والبطل المثقف والسيدة الأمية بائعة الجرجير. ولا يتصور أحد ماذا كان يمكن أن يحدث إذا كنا نتحدث بلغة واحدة في الواقع!!!! إذاً، فلنتصور معا أننا نتحدث بالفصحى فقط أو بالعامية فقط، أو بلغة بينهما. فهل ستكون كارثة اللغة والفصل بين الشخصيات وعبادة اللغة موجودة داخل النص السردي؟!
ربما يكون منطق الشخصية وخطابها ورؤيتها للعالم، هي الأمور التي تستحق الاهتمام بدلا من عبادة اللغة وتأليهها ومحاولة فرض نسق سردي وحواري معين يثير السخرية في الكثير من الأحيان، ويساهم في تكريس حالة التراجع والضعف والهشاشة التي تهيمن على النص الأدبي، أو بالأحرى موضوع التعبير الذي يشغل بال لجنة المحققين والقضاة الذين يجتمعون لمحاكمته هو وكاتبه ويمنحون كلا منهما درجة لاجتياز امتحان اللغة.
إرسال تعليق