نار الغيرة

قصة: إبراهيم المصرى (*)

كانت الست "إلهام" تتأمل زوجها وهو يتكلم، والفرح يفعم قلبها، والعزة تملأ نفسها، والزهو العميق يخلع عليها حلة رائعة من جمال مطمئن أخاذ.

كانت تتمنى لو استطاعت أن تسدل قناعاً على وجه زوجها المليء وعينيه السوداوين المتألقتين، وحلو حديثه، وسحر أناقته الذي كان مضرب الأمثال.

كنا تتمنى لو استطاعت أن تسدل قناعاً على وجه زوجها فتحجب جماله الباهر عن أعين الحساد...

وجلست على مقعد بجواره، وطوقته بذراعيها، وأمالت رأسها على كفه ومضت تتأرجح فى بطء كالأطفال. وهى تمر بيدها على شعره وخديه تتأمل محياه الجميل تارة، وتختلس منه القبل تارة أخرى، وهو مستقر في مكانه، هامد في جلسته، ينظر إليها من خلال أهدابه المستسرة نظرة صابرة متضجرة متعبة.

هكذا كان يعيش رشدى "بك" منذ سبعة أشهر مع زوجته إلهام التي لم يعرفها طويلاً قبل الزواج، والتي خلبت لبه بأنوثتها الخالصة ودلالها الشرقي، فغض الطرف عن فقرها، واقترن بها رغم إرادة والديه.


وكانت إلهام وقد ذهب بلبها الفوز بشاب غنى وجميل، تحب زوجها إلى حد العبادة، وتغار عليه إلى حد الهوس والجنون... 
كانت تحرص على راحته، وتتفانى في خدمته، ولكن خوفها الشديد عليه كان يحيرها ، وكان يعذبها ، ويضرم في صدرها نار غيرة طائشة أكلة.

كانت تغار عليه من كل نظرة وكل امرأة وكل صديق. 
كانت ترقيه وتبخره، وتسمى عليه وتحرسه، وتنشد "العمل" الناجح الذي يشده إليها ويربطه.

كانت لا تزور السيدات الجميلات لكيلا تزار. وكانت تحتال على زوجها، وتغريه بقربها، وتصرف عنه الأهل والأصدقاء، ثم تندس في صميم فكره، وتراقب حركاته وسكناته وتعد عليه كلماته، وتحاسبه على أبسط الهفوات يجسمها خيالها الملتهب الأناني المريض.

كانت تستولى على نقوده ولا تعطيه منها إلا بقدر، خشية أن ينفقها في الخارج كما تتوهم على الممثلات والراقصات.

كانت تتسلل إلى مخدعه في الليل كاللص، وتنبش جيوبه، وتبعثر أوراقه، عساها أن تعثر على رسالة حب تفضحه، وتجرده أمامها من كل سلاح.....

وكان إذا أسرف في التألق تجهمت واعتقدت أنه إنما يتجمل لسواها وإذا بدا ضاحك السن منشرح الصدر، عبست وتوهمت أن مصدر سعادته امرأة غيرها. وإذا بالغ في التلطف مع صديقة لهما ، كشرت له عن أنيابها وأحرجته. وإذا أعرب اتفاقاً عن إعجابه بصوت إحدى المطريات اتهمته بأنه يحبها، وإذا استهجن صوت أخرى قالت إنها حيلة منه لإخفاء علاقة بها، وإذا زين عروة سترته بزهرة قام فى نفسها أنه ذاهب ولا شك إلى موعد غرام.....

كانت تريد أن يحيا لها وحدها، ويفكر فيها وحدها، ويتنفس لها وحدها وكانت لفرط كبريائها وغرورها، تهوى في نفس الوقت أن يبدو أمام الناس متأنقاً جميلاً، كي تفاخر به أترابها، على شرط أن يظل جامدا متحفظاً مهيبا، أشبه بدمية مؤدية لا إحساس لها ولا شعور.....

وحين كان يجمعهما البيت بعد عودة رشدى "بك" من الديوان، كانت إلهام تحس أن ملك الدنيا قد أصبح لها، فتنشر جناحيها على زوجها المسكين وتطويه تحتهما. ولا تزال به تلهيه عن أفكاره، وتصرفه عن تأملاته، وتشغله عن مطالعاته، وتباعد بينه وبين العالم، حتى تضمحل قواه، وتذوب إرادته ويستحيل إلى عاشق مفتون لا يعنيه من أمر الحياة سوى المرأة والكسل والهوى.

ولم تشعر إلهام على مر الأيام، أن قلبها يخدعها، وخوفها يغرر بها، وهواجس نفسها المضطربة لا تنفك تورطها في أعمال وتصرفات مزرية بكرامتها وكرامة زوجها. لم تشعر أن حبها المستبد المقرون بغيرة حمقاء، يؤثر على مهل في شخصية زوجها، ويبدل من جوهر هذه الشخصية شيئا فشيئا.

تحمل رشدى "بك" أول الأمر هذا الحب مغتبطا ، ولكنه لم يلبث أن تبرم به...
أجهدته من امرأته عواطفها العنيفة، وانفعالاتها الشديدة، ونزواتها الطارئة، وقبلاتها الملهوفة المحمومة التي لا تنتهى.

أرهقته وساوسها، أضنته شكوكها، حاصرته غيرتها ، ضيقت عليه الخناق وسدت في وجهه السبل...

أحس أنه لم يتزوج لينعم بالحياة بل ليودعها، ولا ليستقبل الهدوء بل الفوضى، وبات يشعر أن زواجه أصبح قيدا ، وبيته أصبح سجنا وامرأته جاسوسة عليه وسجانة.

وكان رشدى "بك" رجلاً طيبا مسالما فلم يثر ولم يتمرد. لاطف امرأته . خاطبها بالحسنى توسل إليها أن تكبح أهواءها ، وتحكم عقلها في ميولها . وتخفف من وطأة حبها وغيرتها ، فارتاعت إلهام وجزعت ثم استنكرت وثارت. واتهمت حبه بالفتور، واخلاقه بالجمود، وراحت تبكي نفسها ، وتندب حظها، وتشكو ضيعة الحب والوفاء فى هذا الزمن الغادر المشئوم.

ولما أعيته مداواتها ، ذهب إلى أمها وقص عليها قصتها. فدهشت الأم واستغربت، ولم تفهم كيف يمكن أن تحبه ابنتها فيغضب، وتغار عليه فيستاء ويتبرم، في حين يتمنى الرجال لو ظفروا بزوجة كإلهام، تعرف كيف تحب وتغار لأنها تعرف قدر الفضيلة ومعنى الشرف والوفاء...

وحار رشدى "بك" في أمره، وضاق ذرعا بحياته، وخشي وهو الرجل الهادئ الوديع أن يثور فيفقد سلام بيته، فأعاد الكرة على امرأته، وأجزل لها الود والنصح. ولكن إلهام لفرط ما انتابها من خوف وتملكها من جزع، أغرقت في حبه بدل أن تتزن، وأسرفت فى الغيرة بدل أن تعتدل، وأرسلت نفسها على سجيتها ، توكيدا لسلطانها ، ورغبة في الاحتفاظ بالرجل الذي اعتقدت أنه على وشك أن يفلت منها.

عندئذ لم يطق رشدى "بك" احتمال الحب ولا احتمال الغيرة. أراد أن يتخلص أن يتحرر أن يخرج إلى الحياة، أن يرى أصدقاءه، أن يتصل بالناس أن يلهو ويعبث أن يمرح ويعيش.

وكان مثال الظرف والكياسة والأناقة والجمال، وكانت إلهام قد أحبته لكل هذا، وازدادت تشبئا به وهى تراه محط أبصار النساء. فلما رأته ينصرف بغتة عنها، ويتبرم فجأة بحبها ، ويبالغ في التأنق والتجمل، ويخرج مرفوع الرأس شامخ الأنف متهللاً متحديًا إلى حيث يلهو ويمرح مع الأصدقاء والخلان، اضطرم حبها، واتقدت هواجسها، وتضاعفت غيرتها، وبدأت عواطف الكمد والحنق تستأثر بها، وتنتشر في نفسها، وتفسد أخلاقها وطباعها على الرغم منها.

وكانت حنونا فأصبحت قاسية، ورقيقة فأصبحت غليظة، وباشة فأصبحت متجهمة سريعة التأثر، سريعة الانفعال، عصبية متكبرة متغطرسة.

ولكن رشدى بك لم يكترث لها وأراد أن يؤدبها ، أراد أن يلقى عليها درسا أراد أن يروضها لا أن يخدعها، فأطلق العنان لرغباته البريئة المحتجزة وشرع يحيا وفق هواه...

وطفق يمعن في زيارة الأصدقاء، ويسهر في الخارج مرة أو مرتين في الأسبوع، ويقيم في بيته الحفلات يدعو إليها نخبة مختارة من السيدات والرجال. وخيل إليه أن امرأته لا بد أن تثوب إلى رشدها ، وتقلع عن تهورها ، وتصبح آخر الأمر إنسانا اجتماعيًا عاقلاً. بيد أن عكس ما قدره هو الذي وقع.

توهمت إلهام أن زوجها لم يعد يحبها على الإطلاق، وأنه قد أفلت منها بالفعل. فازداد سخطها، واستفحلت غيرتها ، وبدت مروعة الأخلاق ناقمة، تفتن في التحرش والاستفزاز، وتثير المنازعات لأسباب تافهة، وتصد وتعرض وتصيح، وتصرخ، ثم تبكى وتنتحب كالأطفال...

وأحس رشدى "بك" أن حريته انقلبت عليه وبالاً، وأن بيته يتحول شيئا فشيئا إلى جحيم.

أحس أنه لن ينعم بالحرية فى الخارج ما دام لا ينعم بالراحة في البيت.

أحس وهو ذاهل مبهوت أن المرأة قوية، وأنها عنيدة، وأنه هو الذي سيفقد هدوءه، وهو الذي سيفقد هناءه، وهو الذي سيفقد سلامه البيتي. وكان طيب القلب كريما فلم يفكر في الطلاق بل تراجع وانكمش وفكر في الخضوع والتسليم.

يئس من نفسه ويئس من زوجته، فأراد أن يستريح..

أراد أن يشترى راحته بأي ثمن.
أراد أن يعيش في السجن وأن يكون سعيدا ولو في حيز ضيق محدود. وكما كان يجد بالأمس في طلب الحرية كذلك أراد تحت تأثير ياسه أن يجد اليوم في طلب الهدوء والاستقرار.

ونزل على حكم امرأته وأجابها مختارا إلى كل ما تريد ...
أنكر نفسه وكبح عواطفه ولفظ الحياة، ودع أصدقاءه وكف عن الخروج ولزم البيت أولع بالسكون وهام بالوحدة واستراح إلى الكسل. نبذ الأناقة وعاف البشاشة وهجر المرح. غشيته البلادة وتولاه الخمول، وأصبح يغدو في البيت ويروح كالكهل المتقاعد، لابسا طاقيته، جارا شبشبه، تائها في صحراء جلابيته، يرسل كل ليلة في طلب جاره وصديقه الحاج عبد الكريم أفندى الموظف المحال إلى المعاش، ليخلو به ساعة، ويلاعبه "عشرة طاولة"...

وظن رشدى بك أن حياته الجديدة سترضى امرأته، ولكن إلهام لم ترض مع ذلك ولم تهدأ ...

كانت تريده لها وحدها ، ولكن محتفظا بأناقته ورشاقته، مبقيا على فتنته، حريصاً على سحره، كي تباهى بحبها له، وتفاخر به أترابها النساء.

فلما رأته يعبس ويتجهم، وينكمش ويتبلد، ويسمن ويرتهل ويستحيل من شاب إلى كهل، ومن فتى عصرى إلى درويش، عز عليها أن يتبدد حلمها، فانهالت عليه لوما وتأنيبا، وتبكينا وتعييرًا، وزجرًا وتقريعا، تحاول أن تبدل شخصيته مرة أخرى. وترده كما كانت تحبه رجلاً ساحراً جميلاً رشيقا ....

وبهت لانقلابها، وحار واضطرب ولم يعد يدرى كيف يرضيها، فأمعنت في لومه، وأوغلت في زجره، وأبت إلا أن يعود كما كان ولكن رشدى "بك" ارغى وازيد وهدد وتوعد، ولأول مرة في حياته ثبت أمامها، وتحدى جبروتها ، وتشبث بموقفه، ودافع عن راحته، ورفض كل الرفض أن يعود إلى الماضى خشية أن تغدر به المرأة ثانية فتعذبه وتنكل به...

ولكي يقطع كل أمل لها في تبديل حياته الجديدة، أمعن في طلب الخمول والانزواء كما كان قد أمعن في طلب النشاط والحرية، فماتت همته. غاض جماله، انحطت شخصيته وأمسى قعيد بيت لا يهمه من أمر الحياة سوى الأكل والنوم والصمت والحلم.

وتأملته إلهام وجن جنونها ...

لم تستطع أن تصدق أن هذا الرجل التافه الغبى الدميم كان بالأمس زوجها؟!

لم تستطع أن تتصور أن هذا المخلوق الفاني يمكن أن يكون حبيبها ؟ لم تستطع أن تسلم بأن في مقدورها أن تمنحه بعد الآن قلبها وجسدها. هالها منه أن يطعنها في خيالها، ويصيبها في عزة نفسها، ويذل كبرياءها أمام أترابها...

حقدت عليه وخجلت منه وعافت ملمسه واستفاقت ذات يوم وإذا بها تحس على الرغم منها أنها تحتقره وتكرهه ...

كرهته بقدر ما أحبته!

كرهته وتمنت لو يطلقها .. ولكنها كانت فقيرة وكان غنيا وكانت فوق ذلك معتدة بنفسها، مزهوة بمكانتها ، تحب الترف، وتخشى المجتمع وترتعد من شماتة النساء. فلم تجد بدا من كظم غيظها ، وخنق عواطفها، والحرص على بيتها، والنزول صاغرة على حكم هذا الشقاء المروع اليومي الذي جلبته بغيرتها على نفسها. 

وهكذا أصبحت تعاشر زوجها وهى تكرهه، وتحتمل قريه وهي تمقته. وتبيحه نفسها وهى تبغض نفسها وتبغضه، متمنية من صميم فؤادها لو يطرا عليه داء عضال يقتله، فتموت فيه حرارة الجسد كما ماتت فيه حرارة القلب والروح ولكن القدر الساخر أبى أن يهب إلهام نعمة الحرية... 

صبرت طويلاً على غير جدوى، وتعذبت طويلاً على غير جدوى وظل زوجها البغيض ينتهك روحها ، ويغتصب جسدها ، أياما وشهورًا وسنين على غير جدوى...

وفجأة، وفى مثل نوبة المرض، أو وقدة الحمى، أو صرعة النوم العميق ضاقت ذرعا بصبرها ، وأناخ عليها السام، فانطفأ أملها، وتداعت أعصابها، وترنحت واستسلمت هي الأخرى.

استسلمت وهي ذاهلة، رضيت بحظها وهى تائهة، ولم تعد تدرى لماذا كانت تبكى، ولماذا كانت تتحسر، ولماذا كانت تملأ حياتها لوعة وقلقا وغما ...

وشاع فيها نفس الكسل، وسرى فيها نفس الخمول، واستحوذت عليها وتمكنت منها نفس البلادة. فقرت أعصابها شيئا فشيئا، وهدأت حواسها وبدأت على دهش منها ، تتذوق هي أيضا لذة الراحة وعدم الاكتراث...

وكان رشدى بك يتأملها وهو مرتاح...

أما هي فكانت تخالسه النظر وتهز كتفيها وتحاول أن تضحك.

فإذا ما هبط الليل، وخيم الصمت على البيت الموحش، وناء زوجها بعمل العزلة والضجر، كانت تنهض لساعتها، تنهض من تلقاء نفسها وتفتح باب بيتها، وتنادى الحاج عبد الكريم، وتقول له فى رجاء وهي تبتسم:

 - مش تتفضل يا حاج عبد الكريم افندى تلعب مع البيه "عشرة طاولة"؟!
===============================
(*) إبراهيم المصرى (۱۹۰۰) - (۱۹۷۹)، 
قصة نار الغيرة للكاتب إبراهيم المصري. من مجموعاته القصصية : (خريف امرأة) ١٩٤٩ ، نفوس عارية) ١٩٥١ ، (الغيرة) ١٩٥٦ ، (الأنثى الخالدة) ١٩٥٧ ، الباب الذهبي) ١٩٦٣ ، صراع مع الماضى ١٩٦٧ ، الكأس الأخيرة ) ١٩٦٩ ، (أرواح ظامئة ۱۹۷۳، (الوجه والقناع) ۱۹۷۳ ، (خبز الأقوياء) ۱۹۷۳)، (أغلال الجسد) ١٩٧٦.

القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009



Post a Comment

أحدث أقدم