اللصوص (*)
قصة: أحمد هاشم الشريف
كان يحدث نفسه وهو في طريقه إلى شارع شبرا..
ينبغي أن يكون المرء حريصا في مدينة كهذه، شوارعها تحتضن المجرمين والأبرياء، ترضعهم من ثدى واحد ، أمى الريفية قالت لي وهي تضغط على يدى مودعة عند السفر : "احذر وتنبه هناك يرقد اللصوص في وداعة الحمام، لكنهم ينقرون البيضة في الوقت المناسب.."
العرق يغمر جبهتى مع أننا فى نهاية شهر ديسمبر في بداية يناير، تحمل حقيبتي في البنك، كعادتها ، وبين يدى الموظفين تضع المولود، طول الطريق يدى على بطنها ترتعش في إشفاق، حتى لا يجهضها اللصوص.
مدير الشركة قال لى يوم استلام العمل : "اعتبر هذه الحقيبة زوجتك ، ثم لبس نظارته الذهبية الإطار، وانشغل عنى بمراجعة أوراق أمامه على المكتب فانسحبت في صمت.
وصل أخيرًا إلى شارع شبرا .. خلال ذلك قابله عشرة أشخاص لا يعرفهم، صافحوه بحرارة تثير الريبة قبل أن تبعث على الاطمئنان، وبإيماءة من الرأس، كان يرد تحياتهم، إيماءة سريعة يستأنف بعدها السير ليتجنب الدخول معهم في حديث، من العبث أن يصغى مثلاً لهذا الرجل الذي تأمل وجهه لحظات، ثم تكلم وهو يهز كتفه بيد ويداعب ذقنه بالأخرى:
ماذا جرى لك يا صديقي... ماذا جرى؟ طلق الوظيفة بالثلاثة وترمل. الموظفون لصوص الكبير منهم يقص ثوب الصغير ولا يهمه بعد ذلك أن يتمرى جسمه.. والصغير إذا واتته الفرصة لا يتراجع عن الاختلاس..
قبل أن يبدأ في عبور الشارع قابله جاره فى المسكن. أخبره أنه ينتظر
خطابا هاما من البلد، ثم بدا على وجهه الشحوب وهو يهمس في أذنه طالبا بعض النقود..
قال لنفسه: "الناس تفهم أن النقود معى على الدوام، حتى في آخر الشهر يرون الحقيبة الجلدية فى يدى. جارى لم يصدق عندما اعتذرت له ورجوته أن ينتظرني في البيت حتى أعود.."
بدأ يعبر شارع شبرا من ناحية الدوران وهو يدرك أن اللصوص يتعقبونه يرصدون حركاته، ينتظرن غفلته لحظة واحدة، يفتحون فيها، يتسللون منها واحدا بعد الآخر، لذلك سار في يقظة تامة، يفكر في كل خطوة يقدم عليها..
عندما أسرع فى عبور الشارع، أدرك أنه يقوم بهذا العمل ليتفادى العربات النزقة التي تكاد تخطف الأقدام وليكسب الوقت أيضا، هناك في الشركة تقف الخزانة قلقة فى انتظاره، خرساء حتى وقت حضوره، عنده تنحل عقدة لسانها، تبدأ في الثرثرة بلا انقطاع.
بعد دقائق وجد نفسه محشورا فى زكيبة هو وحقيبته يتنفسان بصعوبة ويحدث نفسه..
قد أكون مدركا وواعيا لنفسى.. قد أكون مالكا لزمام تفكيري الآن.. ولكن قبل ذلك لا أدرى.. أمس صعدت السلم حتى السطح وفتحت باب حجرتي ثم القيت بجسمى على الفراش في صمت والحقيبة بجواري.. كانت حجرة جارى مظلمة مشلولة، لا صوت ولا حركة، جاء البواب ودق الباب طويلا، لم يجبه جارى بكلمة، وجدت نفسى أحاول أن أنطق بصوت مسموع فشلت في ذلك، فكرت فى أن اتحامل على نفسى وأنهض لأشعل النور، لكني خفت أن أسقط على الأرض من فرط التعب، كان حلقى جافا ومع ذلك نمت دون أن أشرب..
وتنبه إلى حركة غير عادية في العربة، ولام نفسه على غفلته وشرود تفكيره، كانت فتاة شقراء تصفف شعرها على صورة كعكة وترتدى فستانا احمر، تقف بجواره، بجوار الحقيبة بالذات، تتأمل وجهه ثم تنظر إلى الركاب وتبتسم بلا سبب، فيهرب لون فستانها الأحمر إلى خديها..
في وسعه أن يرتاب، أن يتأمل وجوه الركاب جميعاً بحثا عن اللصوص ولكن ريبته لم تصل بعد إلى مرحلة اليقين، وراح يقول لنفسه وقد ضاق بكل شيء:
لا شك أن زحام العربة وجوها الخانق وحرصى على الحقيبة، مضافا إلى ذلك تلك الابتسامة المريبة واللون الأحمر الذي صاحبها ، كلها أمور تثير الأعصاب..
أمس عندما استسلمت للنوم، حلمت أنى أسير فى شارع يشبه شارع شبرا، كان الوقت متأخرا، وجرس كنيسة الأقباط يدق بلا انقطاع، والشارع خال إلا من تاجر يركب حمارا وقد تأخر فى العودة من سوق روض الفرج، كان الهواء ساكنا يترقب حادثة غير مالوفة، أو مألوفة ولم تعد تثير اهتمامه..
نسيت أن أتذكر شيئا تافها بالنسبة لما حدث فيما بعد، قابلني صاحب البيت وخاطبني بلهجة عنيفة عن تأخر جارى فى دفع الإيجار، وكان معه البقال والمكوجي أيضا، ولا أخبرت الثلاثة أني غير مسؤول عن ذلك، هندوني بانهم مخترعين قمر رأسي، ثم السرقوا وهم يضحكون قاللين ببنضحك أكثر من راسلة الأصلع..
لا أدرى إذا أسرعت في السير تاركا الثلاثة خلف ظهري، وجدت نفسي اقترب من التاجر وسمعت صوته الخافت بحث خطا الحمار، كان يبدو واضحا بمجرد تخطيه أعمدة الإضاءة، ولكن ما إن يتعداها بمسافة قصيرة حتى يفرش قله على الأرض..
ولم أكن مستعدا للاقتناع بأن السر في اقترابي من التاجر راجع إلى تأخر الوقت أو ركود الهواء أو جرس الكنيسة الذى يدق بلا انقطاع، والتهديد بانتزاع الشعر من رأسي أبدا، ولا هو راجع إلى ذلك الإحساس الغامض بالخوف الذي يسير متمهلاً مع الدم داخل العروق ثم يتجمع في مفاصل الأطراف لم أستطع الاهتداء إلى سبب واحد يفسر لى ما أراه، ذيل الحمار كان يتحرك بعصبية متوهما أن الذباب يحط عليه الآن، التاجر لا يكف عن حث الحيوان حتى تدلت أذناه تحت ثقل الكلمات، وتراكمها بطريقة تفوق الاحتمال..
وفجأة توقف جرس الكنيسة وقد أصابه الدوار من تحذير يطلقه لا جدوى من ورائه..
وخرج من أحد الشوارع الجانبية رجل اعترض طريق التاجر..
توقف الحمار ورفع أذنيه فى انتباه.. وتدلى ذيله نحو الأرض..
هبط التاجر من فوق حماره، وحاول أن يدخل مع الرجل في حديث لكن ذلك كله لم يستمر لحظات.
كانا يقفان أمام مخبز مجاور لشارع الراهبات، تناثرت أمامه الواح وقضبان حديد ملقاة على الأرض فى إهمال... سحب الرجل قضيبا حديديا وأهوى به فوق رأس التاجر ثلاث مرات متلاحقة..
لم تأت الضربة الأولى فوق رأسه، هبطت فوق إحدى أذنيه ثم حطت على كتفه.. لكن الضربة الثانية كانت أكثر إحكاما ، بعدها ركع التاجر أمام الرجل كأنما يطلب منه العفو..
حتى هذه اللحظة، كان في إمكان التاجر، لو أنه بذل أقل مجهود، أن ينهض على قدميه ويجرى تاركا وراءه اللص وحافظة النقود والحمار، لكنه لم يفكر في ذلك، أو أنه فكر ثم استقر رأيه على البقاء، ركع للقاتل لا ليكف عن ضربه ولا ليطلب منه الرحمة وإنما ليجهز عليه في الحال.
قبل الضربة الثالثة خرج من المخبز ثلاثة عمال، وقفوا يرقبون الصراع في صمت كأى شيء مألوف، رأوا بوضوح التاجر وهو يعتمد على يديه حتى لا يهوى على وجهه دفعة واحدة، ثم وهو يحاول القيام، ويقوم بالفعل، ويسقط بعد ذلك على ظهره.
وأصبح عدد العمال الواقفين أمام المخبز ستة راحوا يتهامسون ويشيرون بأصابعهم نحو التاجر المقتول..
وبعد هروب القاتل بحافظة النقود، وتدلى أذنى الحمار كما تدلى ذيله إلى الأرض، واختفاء العمال الستة داخل المخبز اقتربت من التاجر المقتول وانحنى رأسى يتأمل منظره، كان الدم يبدو متجمدا على فمه، كف عن التدفق مات هو الآخر..
أصبح عدد ركاب العربة أقل بكثير مما كان عليه، لم يعد يشعر بأنه محشور في زكيبة، رغم ذلك كان يحس بالعرق يسيل على رقبته . وكانت الفتاة ذات الفستان الأحمر ما زالت تنظر إليه ثم تنظر إلى الركاب الباقين وتبتسم بلا سبب، وعندما جاء المحصل وناوله ثمن التذكرة راح يتفرس في وجهه ثم قال:
- ياه، إن منظره يثير الدهشة.. ويدعو إلى الضحك أيضًا... راح الركاب يتأملون وجهه في فضول، لعلهم تأملوه من قبل بما فيه الكفاية، ظلوا ينتظرون واحدا يبدأ في فتح الثغرة ليتسللوا بعد ذلك...
- لماذا كل هذا العرق.. انظروا إليه فثيابه مبتلة أيضا ..
- إنه مريض بالحمى.. يداه ترتعشان على الحقيبة.. مريض بالحمى...
كان يقابل هذه التعليقات بالصمت، وإن كان يتأمل وجه قائلها ليعرف بالضبط ما يعنيه، فى طريقه إلى شارع شبرا حرك رأسه عشر مرات ليرد على تحيات الناس، كيف يعرفه هؤلاء جميعا؟ وهنا في العربة يتبعونه أيضا بنفس الفضول..
دخل إلى حجرة مكتبه في الشركة ونظر طويلاً إلى وجهه في المرأة المثبتة خلف الباب، ورغم الشحوب الذي رآه ، بدأ يخاطب نفسه قائلاً:
سأبعث بخطاب إلى أمى أطمئنها فيه على سلامة الحقيبة، وخيبة أمل اللصوص في انتزاعها من يدى، وجلس بالفعل إلى مكتبه وراح يكتب دون توقف، وكانت آخر عبارة انتهى إليها قوله "رغم أنهم تتبعوني هذا الصباح في الشارع وفي العربة، وتحسسوا الحقيبة عن عمد وسط الزحام ثم حاولوا مضايقتي بالتعليقات، إلا أنهم فشلوا تماما وأنا يا أمى لا احتفظ في الحقيبة بأي نقود ولكن التعليمات كما فهمتها تقتضى بالحرص عليها .. وفي صباح اليوم قابلني جاري في السكن وهو موظف مفصول من الخدمة، يشيع البعض أنه متهم بالاختلاس ويقول الآخرون إن أحدا لم يملك دليلا ضده، وأنه استقال من الوظيفة بمحض اختياره، والمهم فى الموضوع أنه نظر إلى الحقيبة وطلب منى بعض النقود ولكني اعتذرت بسرعة وأنا أصافحه ..".
بعد أن انتهى من كتابة الخطاب، اعتقد أنه تصرف بحكمة لأنه لم يخبرها بالضعف الذي استولى عليه اليوم..
لكن ما إن أغلق الخطاب حتى شعر بالحزن، وود لو فتحه من جديد ليخبرها فيه أنه ينقص جزءًا من نفسه كل يوم، ويحس بصوته يزداد خفوتا ، حتى أصبح لا يقوى إلا على الحديث مع نفسه..
وظل بقية الوقت يفتح أدراج المكتب ويغلقها ويقلب في الكشوف والاستمارات مدة طويلة وهو في غاية الاهتمام، ثم يكتشف في النهاية أنه لا يبحث عن شيء محدد.
وقبل موعد الانصراف بقليل جاءه ساعى المدير وسأله عن موعد صرف المكافآت.. وكانت الكشوف معدة للصرف، والنقود في الخزانة، لكنه أرجا الصرف إلى الغد..
وفي طريق عودته إلى البيت بعد أن ركب العربة، تنبه إلى أنه نسى الحقيبة لأول مرة فى مكتبه، لأول مرة منذ أن تسلم العمل وعقد المدير قرانه عليها، وبدلا من أن يلوم نفسه كان يهمس في صوت خافت وهو يضحك..
اعتبرها زوجتك ها ... ها... اعتبرها زوجتك.. كيف سكنت هذه الأكاذيب رأسي واستقرت فيه؟ يا لى من ساذج.. يا لي من ساذج..
ولفت نظره راكبان يتحادثان بجانبه...
كان الأول يقول ضاحكا:
- سمعت آخر نكتة.. واحد سأل موظفا صغيرا : مرتبك كم؟ فقال: أنا والمدير معا نقبض مائة جنيه وعشرة... ها... ها... ها..
ورد الثاني وهو يحرك يده في الهواء:
- ولماذا تضحك.. إن الموضوع له جانب آخر...
وكان يتحدث بهدوء من يحاول ضبط أعصابه وهو يستأنف حديثه:
- أنا مثلاً.. عملى لا يختلف عن عمل أى صراف وإن كنت بلا حقيبة... اتسلم مرتبى من خانة الشركة لأسلمه للآخرين وأنا راض عن ذلك.. تصور أنا راض عن ذلك..
نزل من العربة، وضع الخطاب فى صندوق البريد دق على الصندوق بيده عدة مرات، بدأ يجتاز شارع شبرا ، قابله الرجل الذى نصحه في الصباح، صافحه بنفس الحماس الذي يثير الريبة، هز كتفه وداعب ذقنه ثم قال:
- اسمع يا صديقي.. أنت بدأت تجف.. شعر رأسك تساقط أغلبه.. مع ذلك تنظر إلى شاردا دون أن تعى أو تفهم...
وبعد أن فحصه بنظراته استأنف حديثه همسا وهو يزداد اقترابا منه :
- أين حقيبتك الجلدية.. كنت تحملها في يدك هذا الصباح...
لم يقو على مصافحته، تركه مسرعا وهو يشعر بدوار في رأسه، عند باب البيت أعطاه البواب خطابا باسم جاره قائلاً :
- طرقت باب حجرته حتى يئست.. ولا أعرف مكانه..
فأخبره بأنه قابله صباح اليوم، وأنه ينتظر هذا الخطاب.
ارتمى على فراشه وحلقه جاف، سينام دون أن يشرب قطرة ماء، حقيبته الجلدية لم ترقد بجانبه هذه المرة، خطاب جاره في يده، الخط على المظروف باهت وجه جاره كان شاحبا هذا الصباح.
في الليل استيقظ على صوت طرق متواصل يقطعه حديث أشخاص، تبين أن الطرق على باب الغرفة المجاورة، وأن المتحادثين هم صاحب البيت والبقال والمكوجي، كانت أصواتهم تبدو واضحة، تسب وتتهم ثم تهدد بتوقيع العقوبة، وعندئذ يؤكدون ذلك بطريقة قوية..
لم تبد أية حركة تدل على وجود جاره، ولكن ما إن انتهى الطرق وتباعدت خطوات اللعنات مع هبوطهم درجات السلم، حتى سمع جاره يتحدث إليه بصوت غير واضح..
أنا مريض.. أنا لست مريضا .. معى مسدس فارغ لكني سأخيفهم به عندما يحطمون الباب.. أتركهم يتأملون فوهته ساعات طويلة قد تمتد إلى أيام وأنا أصوبه إلى رءوسهم وإصبعى على الزناد دون أن تضغط عليه.. قلوبهم ستقف في الحال متجمدة من الدهشة، لتختنق توسلاتهم الزائفة، ثم تقفز من أفواههم وهي تعوى كالكلاب المسعورة.
واستيقظ مرة أخرى وهو يتحسس شعر رأسه، كان يعلم أنهم يتعقبونه وأنه لا يمكن أن يظل هكذا تحت رحمة النوم المتقطع، وتذكر الفتاة ذات الفستان الأحمر، والدم المتجمد على فم التاجر المقتول، وكان جاره ما زال يتحدث إليه بنفس الصوت الضعيف:
- سابصق في جيبي حتى لا ينتقم التراب من قدمي وتحل على لعنة الأرض.. وعندما يأتون أتركهم يفتشون جيبي...
فتح خطاب جاره، لم يجد فيه شيئًا مهما كما كان يتوقع، والده يعتذر له عن إرسال نقود، ووالدته تدعو له بالخير.
كف جاره عن الهذيان.. يبدو أنه نام أخيرا..
وساد الصمت فترة طويلة.. جلس خلالها يتأمل الخط الباهت على المظروف.. وأحس لأول مرة بالإشفاق على جاره.. وندم لأنه تسرع وكتب لأمه عن التهمة الموجهة إليه..
ودقت الساعة مرتين في الراديو، فأدرك أن الانتظار عبث.. ارتدى ملابسه بسرعة وهبط السلم، وفى الشارع أسرع في السير عندما أحس بلسعة البرد في ساقيه وراح يبحث عن صيدلية تفتح أبوابها ليلا..
وعند المخبز المجاور لشارع الراهبات توقف وهو يلهث ويتحسس شعر رأسه، وينصت لأقل حركة تنبئ عن وقع أقدام، ودق جرس كنيسة الأقباط، لكنه لم ينجح حتى في تحريك الهواء الساكن...
(*) نشرت في مجلة جاليرى ٦٨ ، العدد ٥ ، أبريل ١٩٦٩.
القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009
بانوراما القصة القصيرة المصرية
خيري شلبي..
إرسال تعليق