من القصص المغربي
شمس سوداء لمحمد عز الدين التازي
سيد الوكيل
مازال
هذا الملمح الفانتازى الغرائبى والساخر – عادة – يلون الصوت القصصي المغربي، عند
القاص المتمرس ( محمد عز الدين التازى) يأتينا عبر مجموعته القصصية ( شمس سوداء )
الصادرة عن دار( توبقال).
يأتى
اسم محمد التازى على رأس مجموعة الكتاب المتحققين في وجودهم الإبداعي سواء في
القصة القصيرة التي قدم لنا منها (أوصال الشجرة
المقطوعة – النداء بالأسماء- منزل اليمام – الشبابيك- يتعرى القلب – شيء من
رائحته) أو في
الرواية التي قدم منها تسع روايات آخرها (عيوشة /امرأة تحت الشمس ).وهو ينتمي إلى
جيل من الكتاب يتميزون بامتلاك موقف ذاتي متماسك ينظرون من خلاله إلى العالم، وهو
موقف يختلف عن كتاب الموجة الجديدة التي بدأت في التسعينيات متأثرة بسطوة
التكنولوجيا. إنه جيل أشار إليه (أحمد بوز فوز ) باعتبار كل منهم ينطوى على ذات
متعددة لحظية وصغيرة تسيل في العالم وتعكس تفككه.
وشمس
سوداء ..عنوان يشير إلى روح تشاؤمي، سنجده مشفوعا بسخرية مريرة ، ويخرج – حتى - الطبيعة من سياقها (الطبيعي) ليضعها في سياق غرائبي، وهو أحد البقايا الرومانسية التي
تجعل من الأشياء معادلاً للذات، وإذا كانت الذات التي تنزف سرداً على هذا القدر من
الاتساق والاعتداد بنفسها، فإنها سوف تكون في موقف مناوئ للعالم، ناقدا له أو رافضا لكل مواضعاتة التي لاتجد لها مكانا فيه
وربما في عالم آخر..
أول
قصص المجموعة بعنوان (ولادات) تصور لنا ذاتا تشعر بأزمتها ، وتسعى طوال الوقت إلى
الخروج من مأزقها ، ولكننا لا نتعرف على نوع هذا المأزق ولا أسبابه، وكأنه مأزق
كوني وفرضي، موجود هكذا بالضرورة ، موجود وحسب، ومن ثم تلجأ الشخصية إلى حيلة
غريبة، هي أن تعيد ولادة نفسها من جديد، ربما أمكنها هذه المرة أن تكون أكثر
اتساقاً وتوافقا مع الواقع (ولد نفسه قطاً، ثم ولد نفسه ذبابة، وولد نفسه ذات مرة
غيلماً، ثم صار ذات ولادة سمكة ).
وفى
كل مرة تأخذ الشخصية سمات الولادة الجديدة،ولكنها في كل مرة أيضاً ستفشل في التكيف
مع واقعها لأن الذات على هذا القدر من التماسك والصلابة فلا يمكنها أن تتغير وفق
معطيات الواقع (عاد إلى خمره، وتأرقه، ورأى السماء مقلوبة، منكفئة على نفسها، وقد
صارت تحته فيما هو فوق يطير نسراً).
صحيح
أن الموقف كله فانتازي، مبالغ في التخييل، وأن اللغة نفسها مبالغة في رمزيتها، ولكننا
لانجد صعوبة في فهم الرموز وفك الشفرات، ولن نضل طريقنا في حيل فنية غامضة ونحن
نسعى إلى التعرف على أزمة هذا النص، أو ملامح تلك الكتابة التي تعبرعن معانيها
بسهولة، فلن نجد – مثلاً – صعوبة في استخلاص الروح (اليوتوبية ) من السطر الأخير في القصة ، الذي
يفتح في نفس الوقت أفقاً جديدا للمحاولة وكأنها قدر محتوم، ينهيه الراوي بقوله: (وعاد إلى أحلام ولادته من جديد).
كان
الحلم بولادة جديدة عند الرومانسيين يعكس إيمانهم المطلق بوجود عالم أفضل في مكان
ما، وعلى قدر ما عكست كتاباتهم روحاً تشاؤمية، عكست في نفس الوقت هذا الحلم
بالمدينة الفاضلة، ولكننا لا نتوقع أن تكون أحلام (محمد عز الدين التازى)هي نفس
أحلام أجداده الرومانسيين، فهذا المعنى (اليوتوبى) بالخلاص ووجود عالم أفضل، وصورة أكثر
اتساقاً للذات، لا يثبت بقوة في يقين الكاتب، بل على العكس هو محل قلق وشك، إن
انعدام اليقين وغلبة الرغبة في تدمير الذات والخلاص منها بتفكيكها وتماهيها مع
ذوات الآخرين هو أبرز ملامح الكتابات الجديدة التي أشار إليها الناقد المغربي (بوز
فوز) وهو يتحدث عن كتّاب التسعينيات من القرن الماضي، ولا نقول إن (محمد التازى )
بلغ مبلغهم، لكنه – إذا جاز لنا التصنيف- أكثر اقتراباً إليهم منه إلى الرومانسيين
الأوائل.
إن
النزعة اللايقينية هي المسؤولة – غالباً- عن روح السخرية التي نجدها في قصة (صحائف)
حيث نرى ا لراوى وقد حمل على عاتقه مسؤولية إيقاظ الضمائر، لفضح الواقع من حوله
وتعريته، وذلك بكتابة لائحة سوداء تتضمن أسماء ومساوئ كل من أشاعوا الفساد في
الأرض بهدف تطهيرها وتخليصها (وتلك هي مقاصد الرومانسي القديم) ومن ثم يمكن إعداد
لائحة أخرى بيضاء فيقول: (وكل علاقتي بتلك اللائحة السوداء أنني قضيت العمر أخوف
منها، وأخاف حتى أيقظت الضمير وحكمته في كل أمر أملاً أن تكون هناك لائحة بيضاء،
يكتب لإسمى أن يسجل فيها).
لن
يخطئ القارئ التقاط الإشارة على الموقف ( اليوتوبى ) فاللائحة البيضاء تمثل الوعد
بالعالم الأفضل، لكن المفارقة الساخرة بعد ذلك تجعل منها شيئاً عبثياً، فالراوي
يحكى لنا أنه بعد أن كتبت اللائحة البيضاء لم يجد اسمه فيها، مما يعنى السخرية من
ذلك اليقين الرومانسي بفكرة الخلاص، وهي في نفس الوقت سخرية من أولئك الذين يحلو
لهم ترتيب وتصنيف العالم، أو تقسيمه إلى صحائف بيض وأخرى سود، فقد لا يجدون
لأنفسهم مكاناً في هذا العالم .
وتحتشد
اللغة بطاقة بصرية مدهشة، ولكنها رغم ذلك لن تفارق ذات المعنى المفعم بالتشاؤم
المتعلق بوجود ضوء ما، لكن هذا التعلق مشوب بالحذر ،خشية أن يغشى العين، فنقرأ في
قصته البديعة (قيامة ) هذا المقطع الدال، يقول فيه: (العين معلقة بالمصباح في
الظلام تتحسس مكانه المعلق في فضاء الغرفة، زمن جنائزي، خفق أجنحة الليل، انتظار
البداية، الستارة تحركها، المرآة لا تعكس أي شيء، الروع صاعدة هابطة، ألوان الظلام
العميق،عمائم بيضاء، سدة علية، هيام، غربة، هدير البحر، خرائب، زوال، وقع خطى فى
الخارج ، دب من القش ملقى على الأرض، روائح، عودة الضوء إلى المصباح ، العين
يغشاها النور المفاجئ..)
إرسال تعليق