فصل من رواية 

بعد منتصف الليل 


صفاء عبد المنعم
------------------ 
"خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم، لأنني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم".
- قصة يونس – 
----------------------------------------- 

     رأيتُ حمامً أبيض يطوف حولي.
في البدء نزلت حمامة واحدة. 
نثرتُ لها بعض الحبوب بيدي. أخذت تلقط الحب بمنقرها الأحمر الجميل، ثم بعد لحظات، نزل حمام أبيض كثير، أخذ يلقط الحب وهو يلف ويدور حول بعضه. وأنا دهشة في حبور، بحثتُ في يدي عن مزيد من الحب، لم أجد، قمتُ من مكاني مبتسمة علي أجد بعض الحبوب على الرف كما تعودت أن أضعها للعصافير التي تأتي مزقزقة عند نافذتي كل صباح، في نشوى، عندما قمتُ من النوم، وأضاءت نور الحجرة، وفتحتُ النافذة، رأيتُ الحمامَ يقف أمامي على الشجرة وهو ينفض ريشه الذي يشبه الطابشور الأبيض.

همست له في شغف: أيها الحمام أقبل، لقد حصلت على بعض الحبوب الشهية، تركتُ النافذة مفتوحة، وعدتُ إلى سريري ويدي قابضة على بعض الحبوب، ثم ذهبتُ في نوم عميق على أمل أن يأتي الحمام الوديع ويلقط الحب ثانية.

تكرر هذا المشهد. عندما حاكته لي صديقتي وهى تحدثني عن أنها رأت حمامة بيضاء تطير عاليا في سقف حجرتها، وأنها أخذت تنادي عليها.

ومن قبل كان قد حكت لي صديقة أخرى عن مشهد ظل يراودها مذ كانت طفلة في الثامنة من عمرها"رأت حمامة بيضاء تأتي إليها في فناء المدرسة وهى تلعب مع البنات الحجلة، فتخبرها بأن جدتها قد ماتت، ثم طارت الحمامة وهى تقود سرباً طويلاً من الحمام الأبيض الذي ظل يتابع خطواتها من المدرسة إلى البيت الذي ترقد فيه الجدة، وأن أختها أخبرتها بأن جدتها قد ماتت. وأمتلأ البيت بالناس والرجال والنساء والصراخ.
وظلت منكمشة طوال اليوم أمام الصراخ والعويل والنواح.

هل الحمامة البيضاء هى حاملة البشارة؟
فتحتُ عيني ونظرتُ نحو النافذة، لم أجد الحمام، ولكنني وجدت مجموعة من الغربان السوداء تحتل الشجرة، ثم سمعتُ صوت العصافير وهى تزقزق، وتخرج من أعشاشها تبحث عن الحب الذي وضعته لها بالأمس في الطبق عند النافذة كما تعودت كل يوم.

      - الموت - هو الحقيقة التي لا يمكن أنكارها أو تبسيطها.
أن نستسلم له بعد طول عناء، بعد مشقة، في الكهولة، في الشباب، لا يهم، هو يأتي، ستظل صورته واضحة تماما أمام أعيننا مهما حاولنا المراوغة أو أكتساب الوقت للحظات، لأيام، لأي مدى نريد أن نعيشه.

هل حقا أنتِ من تقررين متى تموتين؟
لا أظن.
هو يأتي بغتةً، في سعادة، في حزن، في مرض، في صحة، يأتي وقتما يشاء، تظل تنظرين إلى صورتك فى المرآه صامتة وهناكَ خلف ظهركِ صورة والدتكِ عليها شريطا أسود.
والدتكِ وهي شابة في ريعان شبابها.
أنتِ الآن تشبهينها.

هل سألتِ نفسكِ يوما ما هى خيارتها وأنتكاساتها، لحظات ضعفها، قوتها؟
كانت عندما تريد أن تبكي تمسك زجاجة القطرة البلاستيكية الموضوعة على المنضة بجوارها، وتضغط عليها ضغطة قوية، فتنزل منها نقاط سريعة، ومتتالية، ربما تفرغ الزجاجة كاملة في لحظة غضب، وتغلق عينيها، وهى مازالت واضعة رأسها للخلف على الوسادة، والزجاجة في يدها وتبكي، تبكي في صمت، تدخل في حالة من النشيج المتواصل، ولكي لا تسمعينها وتسمعين صرخاتها الداخلية المكتومة من الوجع والألم، كانت تضع زجاجة القطرة على المنضدة، وتمسك بيدها المرتعشة الراديو الصغير، وتدير المؤشر ببطء، فيحدث ذبذبات متتالية، وتظل وراء الذبذبات حتى تهدأ، فيأتي صوت الغناء مندفعا خارجا بصوت مرتفع، وتدعي كذبا أنها تغني مع المغني الذي ينبعث صوته خارجا في قوة، وهى تبكي من داخلها في نهنهات منخفضة وبصمت وبعنف لا تدركيه، وأنتِ خارجة من الباب تضحك لكِ، فتتركينها وحيدة كي تستمتع بصوت المغني المفضل لديها، ليكن(عبد الحليم حافظ)، في أغنية الويل الويل، ولكن الحقيقة غير ذلك!
هىَ غير ذلك تماما! 

هىَ لا تريدكِ أن تسمعين صوت صراخها، صراخها الداخلي، ولا أن تري دموعها المنسابة بغزارة فوق خديها، لإنها الأم المسالمة، الصابورة، المتحملة، الضعيفة، القوية، الشجاعة، الرخوة، المهزومة، الصامتة في عنف.

وصلني خبر وفاتها بعد ساعات قليلة من فرح صديقتي سوزان.
كان كوب الشاي الساخن في يدي، وضعته على المنضدة، وأنا في حالة دهشة وأطمئنان. دهشة في إختيار الموعد، وأطمئنان بأن العروس الجميلة ذهبت إلى بيتها الجديد، البعيد.
فحمدتُ الله مرتين.

مرة للسبب الأول، ومرة للسبب الثاني، وهو أنتهاء الفرح بسلام.
أدركتُ لحظتها بأنني فقدت أمي وإلى الأبد، لن تفي جميع كلمات الحزن الآن، بكل طاقة الألم والحزن بداخلي.
ألقيتُ بكوب الشاي الساخن داخل جوفي على دفعاتٍ متسارعة، وأرتديتُ ملابسي السوداء، وأخذتُ شنطة كبيرة بداخلها ملابس سوداء كثيرة لزوم الحداد والجنازة.

فكرتُ كثيراً في التوقيتِ الذى أختارته أمي، هل هى من أختارت؟ أم الموت هو الذي آتى هكذا بغتةً؟
رأيتُ صورتها في شبابها أمام عيني حينما كانت تضحك وأنا صغيرة وتناديني (يا قطةِ).
ذهبتُ إلى البيت على الحالة الطفولية التى أنا عليها الآن، ودخلتُ الحجرة كي أراها، وجدتها نائمة مبتسمة على نفس الصورة الجميلة المطبوعة في عيني، في شبابها، وهى تضحك.
شابة في الثلاثين من عمرها أو ربما أكبر قليلاً، وقفت الطفلة التى أنا عليها الأن أمام وجهها وقبلتها، وملست بيدها المرتعشة على شعرها الأسود الناعم المسدل على كتفيها، وأنا اسمع صوتها تناديني مداعبةِ لي: يا قطةِ.

أغلقتُ باب الحجرة على وجهها، على صوتها، وفررتُ هاربة إلى الخارج، أحاول أن استنشق هواءً طازجاً، وأعيد ترتيب المشاهد التي سوف استدعيها فيها مجدداً كُلما لاحت لي ذكرياتي القديمة معها.
وحدها عمتي من مكثت في البيت، وحدها معي ليلاً.
نهاراً يمتلئ البيت بالأولاد، والزوجات، والأقارب والمعزيين.

من داخلِ هذا الضجيج كنتُ أدخل حجرتها وأغلق الباب جيدا ولا أخرج منه، حتى الصلاة هجرتها، كنتُ أتناول الطعام في حجرتها.
في أيامها الأخيرة، كانت لا تخرج من حجرتها إلا إذا أنا أتيت إلى البيت، تجلس إلى جواري على الكنبة الأسطنبلي القديمة تحت النافذة نحتسي الشاي معاً وتحكي لي عن ذكرياتها، ماضيها.
كنتُ استيقظ مبكراً، أجدها في أنتظاري، جالسة كي تكمل لي حديث الأمس، كأن عبئأ ثقيلاً تريد أن تفرغه على فترات متتالية، على دفعات، طوال مدة أقامتي القصيرة معها. رحلت ومعها حكايات كثيرة سابقة عن طفلة صغيرة كانت تحب الحكايات ولعب الحجلة والبلد وطفولتها وصباها وعملها الشاق في البيت داخل أسرة ممتدة. 

رحلت ومعها معاركها الصغيرة مع أبي عن مصروف البيت، وطبع جدتي الشديد، ومع أخوتي عن المذاكرة. عشرة ابناء يعيشون في بيت واحد، سبعة ذكور، وثلاثة إناث.
أعود إلى بيتي عاجزة ومحملة بأسئلة كثيرة، ماذا فعلنا لها أمام ما فعلته هى معنا؟ هى صاحبة الضحكة الواسعة، والصوت الدافئ الحنون وهى تناديني دائما: يا قطةِ. كل ما علي أن أفعله في هذا الوقت، أن أغمض عيني واستسلم لأهتزازات السيارة المنطلقة بي إلى المقابر. همست عمتي في أذني بهدوء شديد: بعد الأربعين حاولي ترجعي بيتك حبيتي.

لا أدرك تماماً ماذا أقول لها وإلى أين أذهب؟ ولكن مستسلمة لحالة الصمت التي أنا عليها.

     بعد الأربعين بسنوات، حينما دخلت المقهى، ورأيت الزحام الشديد بالمكان، والأضواء الصفراء الباهتة تشع من جميع الأركان. أكره بشدة تلك الأضاءة، تشعرني بحالة من الغثيان والقرف والأنقباض النفسي، أخذت أنظر حولي، واتتبع مسارات الأدخنة المنبعثة من الشيش، ودخان السجائر الكثيف، أبحث عن مكان منزوي بجوار النافذة المفتوحة، رأيت رجلين يجلسان في استرخاء شديد يبلغان من العمر الكثير، قلتُ في داخلي هذا حسن، سوف أجلس بالقرب منهما، علهما يقومان سريعا، وأحتل أنا مكانهما.
بعد دقائق، دخلت صديقتي سوزان، تلكَ الشابة الجميلة، قوية البنيان، تبلغ من العمر السابعة والثلاثين، أصبحت أكثر نضجا وحيوية. ربما تكون تقترب من عمر الرجلين الجالسين هناك بجوار النافذة، الأسمر يقترب من بداية الأربعينيات، والأبيض يصغره بقليل، ربما تكون هى من عمر الرجل الأبيض تقريباً. ولكن أنا أكبر من هما بكثير، لقد مررت بهذه المراحل العمرية من قبل. المكان يزداد أزدحاماً، وأدخنة السجائر تزداد كثافة، أكثر وأكثر، هناك سحابات بيضاء كثيفة تتصاعد من حولنا. أنظر نحو صديقتي وأشير لها بيدي.
تأتي متبخترتا في مشيتها، لقد لمحت الرجلين الجالسين بالقرب مني. أقتربت أكثر وأكثر ثم نظرت حولها باحثة عن كرسي لم تجد واحدا. نظر النادل نحوها، واقترب وهو يحمل بين يديه كرسي خيزران قديم، وضعه على الأرض. جلست فى صمت.

ثم طلبتُ زجاجتين بيرة.
ردت في ضيق : مشبرة وحياة أبوك مفهوم.
جلست تتحدث فى هدوء: أتأخرت عليكِ معلش، المواصلات رهيبة.
مددتُ يدي وربتُ على كتفها: بكره العيد كل سنة وأنتِ طيبة.
أخذت تهز قدميها هزات متتالية، ولم ترد، أكتفت بأبتسامة باهتة، ثم أخرجت علبة سجائر من شنطتها، واشعلت واحدة.
كانت هذه الأهتزازات المتسارعة تصبح مصدر قلق وتوتر شديد بالنسبة لي، وأحاول عبثا أن أهدء من روع صديقتي حتى تتوقف عن هز قدميها أسفل المنضدة، حتى لا تزيد نسبة التوتر لديها.. وتزعجني.

وهى التي جاءت من آخر الدنيا على أمل أن تسعد ولو قليلاً معي فى هذا المكان. ولكن خاب ظنها كثيراً. جاء  النادل ووضع زجاجتين باردتين جداً أمامنا وفتحهما في سرعة ودربة، ثم أنصرف إلى منضدة أخرى. مدت كل منا يدها، وألتقطت زجاجتها، وأخذت تشرب منها فى صمت. بعد نصف ساعة تقريباً أصبح على المنضدة أربع زجاجات فارغات تماماً.
بدأت الأبتسامة تشرق على وجه صديقتي بعد أن أزدادت سحب الدخان حولنا، وهى تتصارع خارجة من النافذة.

     الجو بالخارج بدأ فى التحسن، فأتت نسمات قليلة باردة من النافذة التى نجلس بجوارها. نظرت كل منا تجاه الأخرى، وأخذنا نضحك بقوة وعنف دون سبب واضح يذكر. المنضدة التى كان يجلس عليها الرجلين فارغة تماماً. قمنا في سرعة وجلسنا ثانية في صمت.
أتى النادل ووضع أمامنا زجاجتين جديدتين. نظرتُ نحوه: الحساب لو سمحت. ضحكت وهى تشعل آخر سيجارة من علبة السجائر: لسه بدري. أنصرف النادل من أمامنا، وذهب بعيداً.
أصبح بعض الزبائن ينسحبون رويداً رويداً من المقهى بسبب تحسن الجو بالخارج. ضحكتُ وقلتُ لها: بكره العيد يا قطةِ.

هزت رأسها هذه المرة هزات خفيفة وهى تبتسم فى هدوء: كُل سنة وأنتِ طيبة. 
أصبح الآن على المنضدة أربع زجاجات فارغات أيضاً.
جاء النادل مسرعاً، ووضع زجاجتين جديدتين، قبل أن يفتحهما أشرت له بالنفي، ثم دفعت الحساب، وقمت واقفة.
وتركتُ صديقتي تستمتع بالهدوء، وأخر نفس من السيجارة، وسحابات الدخان، والنسمات الباردة التى تأتي من النافذة.
الكلمات تخلق لحظة الشعور بهشاشة الروح، وتخرج مندفعة في عفوية طيبة.
قلت لها وأنا أبتعد عنها بخطوات واهنة: تصبحين على خير.

كانت حركة القدمين تزدادان توترا وأهتزازا، كدت أسقط على الأرض عندما تعثرت قدمي في المنضدة القريبة وأنا أحاول أن أرفع قدمي وأخطو خارج المقهى. وجدتُ صديقتي تأتي مسرعة، وتمسك بيدي، وتصعد بي نحو الرصيف القريب. ثم جلستُ على أقرب كرسي أمام باب المقهى، ودخلت هى مسرعة أحضرت شنطتها وجلست إلى جواري، ثم طلبت فنجاناً كبيراً من القهوة السادة.
جاء نادل آخر، ووضع منضدة صغيرة أمامنا، ثم عاد مسرعا.

قالت بصوتٍ خفيضٍ وهى حزينة: أنا أسفه، كنت مشغولة عنكِ.
مددتُ يدي وأنا أربتُ فوق يدها: ولا يهمك.
شعرتُ بحالة شديدة من القرف، وأريد التقئ. جريتُ مسرعة، وهبطتُ إلى الأرض وبجوار الشجرة، أفرغت ما في معدتي بسرعة خاطفة.
ثم عدتُ إلى مكاني ثانية، جاء النادل، ووضع فنجاناً كبيراً من القهوة وهو يشعر بالقرف والأمتعاض. نظرتُ نحوه في غضب وضعف: أنا أسفه. 

أستدار بعيداً عني، وهو يردد: ولا يهمك. ثم عاد مسرعاً ومعه زجاجة ماء وكوباً فارغا. صبت لي صديقتي كوباً من الماء. شربته في سرعة، كنتُ أشعر لحظتها بعطش شديد، وغضب شديد، وأمتعاض شديد، وتقلص شديد في معدتي. مدت يدها وربتت بحنو فوق ظهري: إيه رأيك نتعشى سوا؟ 

هززت رأسي نفياً: مليش نفس.
قامت مسرعة تجاه الكشك المجاور للمقهى، وبعد لحظة عادت ومعها كيساً كبيراً من الشيبسي، وعلبة سجائر جديدة. نظرتُ نحوها في صمت، فهمت ما أريد أن أقوله.
قالت بهدوء وضعف: دي تالت علبة سجاير أشتريها النهاردا، أنا عارفة أنتِ عايزة تقولي إيه؟ تقولي صحتك، وفلوسك، كلام كتير زهقت منه.
صمتُ، ومددتُ يدي أرشف من فنجان القهوة، رشفات بطيئة في صمت، وببطء علي أسترد وعي الذي فقدته قليلاً.

رأيتُ الرجلين الذين كانا يجلسان في المقهى بجوار النافذة، يجلسان أمامنا مباشرة على الرصيف.
نظر كل منهما تجاه الآخر، ثم نظرا تجاهنا وضحكا. هنا أنتبهتُ لهما تماما. الرجل الأسمر وسيما بعض الشئ، يبلغ من العمر .. تقريباً في بداية الأربعينيات، أما الآخر الأبيض فهو أكثر هدوءً، يدخن بايب في صمت، وأبعد وجهه عنا سريعاً. ثم سمعت صوته وهو ينادي على النادل: أتنين قهوة سادة. قال الأسمر موجها الكلام نحونا: الجو هنا جميل. أفضل من داخل المقهى. هزت صديقتي رأسها إيجابا. وأنا نظرتُ نحوه بإمتعاض شديد. شعر بالخجل، وأخذ يدخن في صمت. ثم قال الآخر متنهداً: الجو هنا فعلاً بدأ يتحسن بقوة.
أنتهيتُ من شرب فنجان القهوة، وزجاجة المياه. جاء النادل ووضع أمامهما صينية عليها فنجانين كبيرين من القهوة. قالت صديقتي له في خجل: ممكن كوبيتين شاي، سكر بره من فضلك. أنصرف النادل مسرعاً، ودخل إلى المقهى بعد أن أخذ فنجان القهوة الفارغ من على المنضدة. نظرت صديقتي نحوي بهدوء شديد: نشرب الشاي وننطلق. 

     كنتُ في هذه اللحظة تحديداً، بدأت أشعر بالتحسن أكثر من قبل، مددتُ يدي وأخذتُ سيجارة من العلبة الموضوعة أمامنا وأشعلتها. ضحكت صديقتي ضحكة عالية وهى فرحة: الحمد لله، الجميل فاق وروق، النبي تبسم. ضحكتُ في مرارة أشد: الجميل زهق وعايز يتمشى. قالت في فرح: خلاص نشرب الشاي، ونتمشى الجو جميل، والشارع هادي.

نظر الرجل الأبيض الصامت نحونا، وهو يضحك: ممكن نوصلكم أى حته، أحنا معنا عربية.
 نظرتُ نحوه بتنمر وغضب شديد، ثم زفرتُ زفرة قوية وأنا أدفع دخان السيجارة عاليا.
قال الآخر: والله فكرة، أحنا كنا رايحين الأوبرا، وقلنا نحود هنا نشرب شاي.
نظرتُ نحوه بغضب أكثر وصمت.
قال الأسمر: أنا اسمي سامح مهندس، وهذا صديقي مراد محاسب. 
ضحكت صديقتي في مرح: تشرفنا.
دفعتُ بغيظ بأخر نفس من السيجارة وحبسته داخل صدري، ولم أرد.

ضحكت صديقتي: أحنا أصلا كنا رايحين حفلة في الأوبرا، والتذاكر خلصت.
رد الأبيض الصامت : أكيد حفلة جميلة.
قمتُ واقفة وأنا أحاول التحكم بشدة في غضبي وتوتري، وسرتُ بعيداً. قامت هى الآخرى سريعاً بعد أن دفعت الحساب للنادل، وجرت ورائي: في إيه حبيبتي، مالك؟
رددتُ في قوةِ وغضب: محبش حد يفرض نفسه علي.

ضحكت في هدوء وتروي: دول ناس ظراف.
      سرنا في الشارع الهادئ، ونحن نحاول الغناء بصوت هادئ رخيم (ساعات أقوم الصبح قلبي حزين. أطل بره الباب ياخدني الحنين اللي اشتريته أنباع، واللى قابلته راح وفات الأنين، وارجع وأقول، ارجع وأقول: لسه الطيور بتفن، والنحلايات بتطن، والطفل ضحكه يرن، مع إن مش كل البشر فرحانين) وعند كلمة فرحانين أخذنا نمد فيها  ونعلو بصوتنا، ونكررها كثيراً، ثم تعلقت كل منا بذراع الأخرى، وأخذنا نكمل الأغنية، ونسير ونضحك ونغني ونسمات باردة تأتي إلينا، ونشعر بأهتزازات شديدة في داخلنا. ونسمات الهواء بدأت تزداد جمالاً كلما دخل الليل. وتوغلنا داخل الشارع الهادئ.

     أشعُر أحيانا برجفة من الألم الداخلي عندما أكون وحيدة داخل مقهى مكتظا بالزبائن. وحيدة أنا وسط هذا الكم الهائل من البشر والأصوات المزعجة، يا لها من سخرية شديدة أن أبحث عن الهدوء داخل الضجيج. دائما لا أميل إلى استرضاء أُناس يتطفلون علي حتى ولو كانوا ظرفاء. دائما ينتابني التعنت والسخف، وربما أريد أن أرد عليهم بشئ كبير من العجرفة، وهذا ما فعلته اليوم.
هزتني صديقتي ضاحكة: إيه مالك يا جميل؟
أتراجع بهدوء شديد ولا أطيل في الحوار معها: حاسة كنت سخيفة قوي. ثم دخلت داخل نفسي ثانية أحدثها: من أين ورثت هذا الأسلوب المتعجرف المتعالي المزهو بنفسه، رغم أنني سيدة متواضعة الجمال والطول، والحس الأنثوي. تذكرت جملة أمي والتي كانت ترددها لي كثيرا: أوعي تكوني فاكرة نفسك بنت، البنات حاجة تانية خالص.

هل الأنوثة بعيدة عني؟ ما هو مفهوم الأنوثة من وجهة نظر أمي؟
لم أسألها يوماً عن هذا المعنى، ولكن كنتُ أراها جميلة، تعتني بتفاصيل دقيقة في جسدها، وتهتم بنفسها رغم كل شئ. كنتُ أتأملها كثيراً وهى تضع الروج فوق شفتيها، والكحل حول عينيها، وعندما ترتدي ملابسها، كانت تتأنق بشكل لافت للنظر. عكسي تماماً، كنتُ أرتدي ملابسي فى سرعة وفي الظلام كي لا يستيقظ أخوتي، لا أضع المساحيق ولا أحبها، أعقص شعري الطويل إلى الخلف، لا أنظر في المرآة طويلاً. ضحكتُ في سري وأنا أسير بجوار صديقتي الجميلة في الليل، وصوت أم كلثوم يتهادى إلينا منبعثا من باخرة بعيدة، وهى تشدو بأغنية: يا ليلة العيد.
قالت صديقتي فجأة: إيه رأيك: نركب مركب.
نظرتُ نحوها في نشوة طفلة صغيرة: موافقة.
قالت الشاطئ قريباً جداً من هنا أخر الشارع، ونصبح أمام المراكب.
وصوت أم كلثوم الصادح يأتي إلينا ونحن نقترب أكثر وأكثر.

     أختارنا مركباً جميلاً، مزيناً بالزهور، وعندما صعدتُ أنا وصديقتي، لمحنا الرجلين الذين كانا بجوارنا فى المقهى يجلسان فى استرخاء شديد، وهما ينظران نحو الماء. عندما رأيتهما حاولتُ أن أخرج وأعود، ولكن صديقتي حاولت معي، وسحبتني من يدي فى هدوء، وبدأ القارب يتهادى فى الماء، وكأنه سعيداً بنا، نظرتُ نحو المراكبي الجالس أمامنا، كان سعيداً صامتاً، نظرتُ نحو صديقتي وجدتها منتشية تضحك وهى غير مصدقة. حاولتُ أن أضغط على الكلمات بهدوء وغلظة خوفاً من جرحها، وأنا أسأل نفسي هل هى فى حالة تواطئ مع هذين الرجلين؟ أم الصدفة، الصدفة التي أتت بهما إلى هنا؟ أبتعد المركب قليلاً عن الشاطئ، رفع المركبي صوت المذياع. وأشعلت صديقتي سيجارة وأخذت تدخن وهى تنظر نحو الماء، وتبعد نظراتها عني، لأنها فهمت سريعاً ما يدور في رأسي.

خطرببالي أن أتفادى أنتقادي لها أو حتى توجيه أتهام مباشر، هو إهدار للطاقة، أدركتُ حين إذ إنني يجب أن أتحاشى إيذاء مشاعرها إكراما لصداقتنا. ألقت صديقتي بعقب السيجارة من يدها فى الماء، ثم دفعت الدخان المحبوس داخلها في الهواء بقوة وقالت: والله العظيم ما كنت أعرف إنهم هنا. القدير هو الذي يدبر الأمور.
تبسمتُ كظماً لغيظ مبهم، لماذا أنا هكذا؟ ثم صمتُ قليلاً وأنا أحاول الأستمتاع بالجو الجميل والنسيم الهادئ، وصوت المركب وهى تتهادى فوق صفحة الماء، على نغمات الأغنية، ضحك المركبي وهو يقدم لنا كوبين من الشاي، ثم نظر نحو الرجلين الجالسين بعيداً عنا: الأستاذ بيمسي. كنتُ أود أن أرفض يده، أو أن ألكمه لكمة قوية في وجهه، ولكنني أخذت الكوب من يده الممدودة نحوي وشكرته: شكراً لحضرتك. مدت صديقتي يدها وأخذت كوب الشاي وهى منزعجه قليلاً من نظراتي النارية وقالت: شكراً يا ريس.

     لقد كان خطأً كبيراً أن أسوي هذا الأمر بيننا بكثير من الغلظة وقليل من الصبر. إن الصمت هو التعبير عن التعاسة! خرجنا من المركب سعيدتين، وأخذنا نسير بخطى بطيئة سعيدة في الشارع المظلم.
في زاوية مظلمة جداً. خرج مجموعة من الصبيان المتشردين، وأخذوا يجذبون الشنط بقوة من فوق أكتافنا، صرخنا صرخات متتالية وعالية كى يهربوا أو يأتي أحدا ما لنجدتنا، لم يحدث شئ من ذلك، تركت صديقتي لهم شنطتها بعد رحلة عناء طويلة من الشد والجذب والسحل على الأرض، حيث كان الصبية في عنفوان شبابهم وقوتهم ورائحتهم القذرة النفاذة، جعلت صديقتي لكى تتخلص من هذا الموقف المذري أن تترك لهم شنطتها. لعلهم يفرون بعيداً عنا.

ولكن ما حدث هو العكس تماماً، تجمعوا أكثر وبكل قوة جذبوا الشنطة من فوق كتفي بعنف أشد، وقوة أكبر، أخذوا الشنطة مني بعد أن قطع ذراعها، وشعرتُ بكتفي يكاد أن ينخلع، وقعتُ على الأرض أمام صديقتي على هيئة كلب ضخم، أصبحتُ أقف على يدي وقدمي من شدة جذبهم لي. أنهارت صديقتي في بكاء عظيم وهى تتأسف لي بشكل مأسوي: أنا أسفة، والله العظيم أسفة جدا، كان المفروض نروح من بدري، والله العظيم كان قصدي أبعد الحزن عن قلبك حبيبتي.
نظرتُ نحوها وأنا مازلتُ على هذا الوضع الكلبي. حاولت هى جذب يدي ومساعدتي على النهوض، ولكن دون فائدة، أشرتُ لها برأسي أن تتركني لحظة، حتى أستفيق واستطيع النهوض من على الأرض.

وقفت على الرصيف أمامي تتطلع إلي بعينيها الزرقاويين باحثة عن رجل شرطة أو أي رجل كان لمساعدتنا، ولكن دون فائدة، حتى الصبية المتشردين فروا من أمامنا سريعا، كل مجموعة منهم أخذت شنطة وأختفوا تماما، كل مجموعة في أتجاه مختلف. لا يوجد حولنا سوى الصمت والليل والظلام وأعمدة النور المطفأة بسبب تخفيف الأحمال. لقد أصبحت الدنيا أضيق من ثقب الإبرة أمام عيني.

حاولتُ النهوض، والوقوف على قدمي، لا فائدة، حاولتُ مرة ومرة ومرة ومرات كثيرة، فشلت جميع المحاولات، سرتُ بضع خطوات وأنا على هذا الوضع الكلبي، وأقتربتُ من الرصيف الذي تقف فوقه صديقتي، وأخذتُ نفساً عميقاً وأنا أشهق بقوة وأكاد أن أبكي بجنون.
هل هذا حلم؟
هل هذا حقيقة؟
هل ما حدث لنا طوال اليوم والليلة هو نتيجة الحلم البائس الذي رأيته بالأمس؟ وأن الحمام الأبيض الذي رأيته في منامي ما هى إلا هؤلاء الصبية المتشردين؟ جاءت صديقتي، وجلست على الرصيف إلى جواري وهى بين حالة من الدهشة والخوف والذعر، هل تبكي أم تضحك؟ خبطت كفاً بكفِ والدموع تنهمر من عينيها: والله العظيم، والله العظيم موقف ولا في أفلام السينما. الواقع قد فاق الخيال.

نظرتُ نحوها بغضب وشفقة: وبعدين؟ ثم أكملت حديثها: ولا قبلين، لقد سرقوا كل شئ، الفلوس، والموبايل، أنا حتى مش عارفه هانروح إزاي؟ وأنتِ تعبانه كده. ولا حتى عربية تعدي تنقذنا، إيه الناس أختفت فجأة.

أخذنا ننظر حولنا طويلاً، لا شئ يحدث، لا أحد يجئ، إن هذا لفظيع، قلتُ هذه الجملة بصوت مرتفع، مما جعل صديقتي تضحك بقوة وبصوت مسموع وهى تمسح دموعها المنهارة على خديها: والنبي ده وقته!
قلت لها في مزحة سوداء: في إنتظار جودو، هذا وقته تماماً، أمرأتان وحيدتان بعد منتصف الليل، وفي الشارع ومسروقتان ومسحولتان من صبية متشردين.
أخذت تخبط كفا بكف وهى تمسح دموعها: والله أنتِ فايقة ورايقة.
ضحكتُ بمرارة العجز: العبث، إنه العبث يا صديقتي. 
    
     لا ضوء في أي مكان.أحسستُ بالخوف والفزع، كأننا داخل مقبرة عظيمة، والظلام يحيط بنا من كل جانب، كأننا داخل عالماً غريباً غير مرئي، مكان أسود، أو مدينة سوداء. قالت صديقتي وهى تصعد درجات السلم في هدوء وبحذر شديد: على مهلك لحسن السلم مكسور. كنتُ أسير إلى جوارها على أربعِ. مثل كلب ضخم. منذ وقعت في الشارع، وأنا لا استطيع الوقوف أو فرد ظهري. 

قالت وهى تحاول أن تتحسس الحائط بيديها: باين النور مقطوع هنا كمان ، إحنا فى الدور الكام؟ رفعتُ صوتي كى تسمعه: الدور السادس. قالت متنهدة في خوف: ياه لسه باقي أربعة أدوار. مين قالكِ تسكنى هنا يا جيهان؟ نطقت أسمى بقوة مصحوباً بغضب. كانت لأول مرة تنطق أسمي مجرداً دون ألقاب، وهى التي طوال الوقت كانت تناديني: يا أبلة جيهان.
البيتُ غارقاً في الصمتِ والظلمة، وكأن سكان البيت قد هجروه فجأة، روائح عطنة تفوح من كل مكان، وكلما صعدنا درجة ووقفنا قليلاً لألتقاط الأنفاس، سمعنا صوت القطط تموء بشكل مزعج، أزداد مواء القطط كلما أقتربنا من باب الشقة المغلق، الرائحة تملأ المكان حولنا، روائح كريهة والقمامة متروكة منذ أيام، ورائحة براز القطط تزكم أنوفنا كلما صعدنا أكثر. ضحكت صديقتي غاضبة: هو ده البيت صحيح، ولا أحنا دخلنا بيت غلط؟
- هو ده البيت يا سوزي. أعرفه جيدا لقد عشت فيه سنوات طويلة.
لا أعرف لماذا ناديت اسمها بهذا التدليل المرح، ولم أقل اسمها واضحا كما قالت لي منذ قليل. فمثلاً لماذا لم أقل لها: هذا هو البيت يا سوزان الذي عشت فيه سنوات طويلة. قالت لي وهى تتنهد غير معلقة: إحنا في الدور الكام؟ قلتُ لها ساخرةً وأنا مازلتُ أصعد  جوارها على يدي وقدمي: إحنا الدور الجاي.
- عرفتي منين؟
- عرفته من رائحة الزبالة، أنا أمبارح كنت عاملة محشي.
ثم ضحكتُ ساخرةً: إيه مش شامة ريحة الكرنب؟
وضعت يدها على أنفها وهى تحاول أن تغلقه: أف فعلاً الريحة بشعة قوي.
جلستُ على الأرض بجوار الباب، وضحكتُ ساخرة: المفتاح كان في الشنطة اللي خطفها المتشردين.
بدأت أشعرُ بالفزع.

    بتنا ليلتنا على السلم المظلم، من شدة التعب والأرهاق، مع ضوء الصباح أدركتُ أن الليلة كانت منذ بدايتها ليلة سوداء، تذكرتُ المقهى، والقئ، والرجلين، والمركب والنيل وصوت أم كلثوم وأغنية يا ليلة العيد.
أذن اليوم هو العيد.
ولكن أين مظاهر البهجة؟ لا توجد أية أصوات حولنا، أنتظرتُ قليلاً ربما أسمع صوت تكبيرات العيد تأتي إلينا من المسجد القريب الذي يبعد عن البيت قليلاً.
لا صوت.
أستيقظت صديقتي وهى تحاول أن تفتح عينيها بصعوبة: إحنا فين؟
- في البيت.
- بيت مين؟
- بيت أمي.
أخذت تتلفت حولها مزهولة: بيت أم مين؟
- بيت أمي يا سوزان، فوقي.
 أخذت تفرك عينيها بظهر يديها.
- وإيه اللى جاب بيت أمك هنا؟
ثم قامت واقفة، وهى تحاول لم شعرها المسدل على كتفيها، ثم بصقت على الأرض.
رفعتُ عيني نحوها برجاء شديد: سوزي ممكن تنزلي السلم، وتشوفي حد يفتح لنا الباب. أخذت تبحث بعينيها على السلم هنا وهناك وتفتش بقوة: أجيب مين؟
- نجار.
- نجار منين؟
- بجوار الجامع يوجد نجار.
أخذت تعدل ملابسها وتمسح عينيها وهى تحاول أن تستوعب المشهد. ثم تذكرت فجأة: أنا ساكنة في القاهرة الجديدة، إيه اللي جبني هنا؟
حاولتُ أن أهدئ من روعها وأنا أزحف صاعدة على الدرجة العليا بعيداً عن الباب.
نظرت نحوي في ذهول وكأنها تراني لأول مرة.
- أنتِ مين؟
- أنا جيهان؟
- جيهان مين؟
- صديقتك.
- أنا معنديش صديقة اسمها جيهان.
حاولت جذب يدها كي تجلس إلى جواري على السلم، ثم دفعتني بعنف، وهى تهبط درجات السلم في سرعة وخوف.

     أجلس الآن بمفردي على حاشية قديمة، أشاهد فيلماً قديماً أبيض وأسود (لإسماعيل ياسين)، كي يذهب عني الغضب قليلاً، ورغم أن الصورة مشوشة، والصوت ضعيف، إلا أنني كنتُ أحاول أن أجعل ونسا معي في البيت.

أخذتُ أبحث عن موبايل قديم كنتُ قد تركته بالأمس هنا على المنضدة، وأحاول أن أفتحه كى أتواصل مع العالم الخارجي.

أخذتُ أبحث وأبحث حتى وجدته أسفل كتاب(مائة عام من العزلة) أمسكته بيدي بقوة، وعدتُ جالسة على الأرض، وجدته فارغاً، بحثتُ عن الشاحن أسفل المنضدة، وجدته بعد عناء طويل، أدخلتُ الشاحن فى الفيشة كي يشحن الموبايل، شعرتُ بجوع شديد، ومعدتي تؤلمني، أخذتُ أزحفُ على يدي وقدمي حتى دخلت المطبخ، حاولت الوقوف مرارا لا فائدة، يأستُ قليلاً، وشعرتُ بغبن شديد، وبأن الدنيا تكاد أن تظلم في عيني.. فتحتُ الثلاجة، وجدتُ كيساً من الخبز وعلبة صغيرة من الجبن، أخذتهما ووضعتهما في فمي قابضة عليهما بقوة، وعدتُ زاحفة إلى الصالة، جلستُ على الحاشية، وفتحتُ علبة الجبن، شممتُ رائحة نتنة تنبعث منها، فتحتُ كيس الخبز، وجدتُ بعض الخضار بدأ يتسرب إليه، نظفتُ قطعة خبز وأخذتُ ألوكها في فمي. كان الفيلم قد أنتهى، وجاءت نشرة الأخبار، بعد المقدمة الموسيقية، لاحظت أن هناك بعض الصور، تعرض بشكل مشوش (مجموعة من الصبية المتشردين، يجرجرون امرأة واقفة على الأرض في الظلام، وصورة أخرى تعرض رجلاً مسلحاً يطلق النار على صبيين من المشردين، صورة تالية امرأة عجوز تسير في الشارع وهى تمشي مثل الكلب على قدميها ويديها، امراة تشبهني تماماً، ثم جلست على الرصيف تبكي. صور عمارات تنهار، وحرائق في مناطق متفرقة، طفل عار تماماً يجري خلف رجل عجوز مبتور الساق. امرأة نحيلة جداً تشبه عود الثقاب، تحاول جذب الطفل من الخلف).

أمسكتُ الرموت، وأخذتُ أبحث عن شئ مختلف، جاء صوت مغنية قديمة، صورة باهتة تماماً من فيلم قديم على ما أعتقد (غرام وأنتقام) وهى تغني ليالي الأنس في فينا، فينا روضة من الجنة...

جلستُ منقبضة القلب وأنا أحاول أن أتذكر اسم المغنية، رن الهاتف، أخيراً بعد طول أنتظار سمعتُ صوت صديقتي وهى تلهث في رعبٍ شديد: جيهان، أنتِ شفتي نشرة الأخبار؟ 
أعتدلتُ في جلستي قليلاً: أيوه شفتها، تفتكري مين اللي صورنا بالليل؟

     أخذتُ أعيد في ذاكرتي أحداث ليلة الأمس، وأرتب المشاهد و الأحداث المبعثرة بشكل عشوائي، هناك مناطق مفقودة، ثم قلتُ لها بخوف: مين يا سوزان؟
أغلقت الخط.

فتحتُ الموبايل، وجدتُ الصور التي رأيتها في نشرة الأخبار، منتشرة على مواقع التواصل الإجتماعي، وهناك فيديو تفصيلي عن الحدث، وكأن هناك من كان يرقبنا في صمت. ثم سألتُ نفسي من الذي قام بتصوير ذلك الفيلم. ونشره على السوشيال ميديا بهذا الشكل وبسرعة؟ ولماذا عندما كنا نصرخ ونستغيث لم يأت أحد لنجدتنا؟
هل الحكاية مدبرة؟

أغلقتُ التليفزيون بسرعة، وأخذتُ أزحف حتى وصلتُ عند باب الشقة المفتوح، لأنني تركته مفتوحاً، ونسيتُ غلقه بعد فتحه بالأمس.
أخذتُ أنادي على جارتي: يا أم جمال، يا ست هدى.

ناديتُ على جميع الجيران، وسكان البيت، لا أحد يجيب، كأن البيت مهجوراً، وأنا أعيش فيه بمفردي. الست هدى، أم جمال جارة أمي وصديقتها، كنت أعرف أنها تعيش مع أمها في البيت بعد وفاة زوجها. أخذت أزحف قليلاً، حتى دخلتُ حجرة أمي ، وصعدت فوق السرير بعد مشقة بالغة، ونظرتُ من النافذة، رأيتُ المرأة النحيفة التى كانت تجذب الطفل العاري من الخلف، تقف أمام الجامع والطفل إلى جوارها، والرجل العجوز المبتور الساق جالساً إلى جوارهما على الأرض. ضربت بعيني بعيداً على الناصية التى بجوار الجامع أمام الخرابة الواسعة، رأيت مجموعة من الصبية المتشردين، أخذتُ أنظر نحوهم بعمق وتمعن شديد، أنهم يشبهون المتشردين الذين رأيتهم منذ قليل في نشرة الأخبار. أغلقتُ النافذة بسرعة قبل أن ينظروا نحوي، وأنا أغلق النافذة بعنف، سمعتُ صوت الطفل العاري يبكي وهو يصيح: جعان، عايز أكل.

     ثلاثة أيام مرت، وأنا جالسة في البيت بمفردي، نفد الطعام المحتمل وجوده في البيت، الثلاجة فارغة، حتى الحبوب أنتهت.
النور مازال مقوطعاً منذ الصباح، اسمع بعض مناوشات القطط على السلم تبحث في صفائح الزبالة عن طعام. تعجبتُ كثيراً، كيف تجد القطط طعامها، رغم أنه لا يوجد أحد في البيت؟ وكأن الدنيا فارغة تماماً. زحفتُ قليلاً بمقعدتي نحو الباب، ونظرتُ من خلاله، فأنا لم أغلقه، وجدتُ القطط الكبيرة تأكل قطة صغيرة وهى تصرخ فى ألم مكتوم. أغلقتُ الباب بسرعة خوفاً من دخول القطط بعد ذلك.
سمعتُ رنين الهاتف، منذ أن تحدثت مع سوزان لم اسمع صوتها، زحفتُ على يدي وقدمي بسرعة.
- ألوه مين معيا؟
- ...
- أخلي البيت إزاي؟
دا بيتنا ورثاه عن أمي.
- ...
ثم أغلقت الخط في غضب.
بعد وقت طويل، رن الهاتف ثانية، سمعتُ صوت صديقتي تحذرني: يا جيهان. سيبي البيت بسرعة. لحسن سمعت أن المنطقة هتتهد بعد يومين.
أغلقتُ الخط على صوت صديقتي، ولم أشغل بالي بتحذيرها لي.
فتحتُ التلفاز، وجدتُ نشرة الأخبار، وصوت المذيع يحذر المواطنين القاطنين في المربع ( 1) من المنطقة (ع) بسرعة، يجب إخلاء المنازل.
أتصلت بصديقتي كي أستفسر منها.
- أيوا يا سوزان.
إيه حكاية المربع (1) في المنطقة (ع)؟
قالت صديقتي بصوت ملتاع وشديد الخوف: المربع (1) الكورنيش، المنطقة (ع) منطقتكم. منطقتكم يا جيهان جالها إزالة، والدولة تحذر المواطنين المتبقين مثلك بسرعة الإخلاء.
ضحكتُ بمرارة ساخرة: فين المواطنين؟ مفيش حد غير رجل عجوز، وامرأة نحيفة، وطفل عاري.
لقد رأيت مجموعة صبيان متشردين يقفون على الناصية أمام الخرابة الواسعة.
قالت صديقتي: تمام. أنا عرفت في الجرنال إن الدولة ناوية تزيل هذه المناطق الموبوءة.
وقالت كلمة موبوءة بصوت ممطوط وقوي وسعيد.
أغلقتُ الخط، وعدتُ زاحفة أجلس أمام شاشة التلفاز أبحث ثانية عن فيلم قديم..أو نشرة أخبار جديدة.

     بعد منتصف الليل سمعت صوت شاحنات عملاقة، صراخ، وضجيج، فتحت النافذة، رأيت كراكات ضخمة تدخل الشارع، وخلفها الصبية المتشردون يقذفونها بالحجارة.
صراخ، ضجيج.
أغلقتُ النافذة، هاتفتُ صديقتي: سوزي،الجرافات تملأ الشارع.
ضحكت ساخرة وهى تغيظني بكلامها: مش قلت لك سيبي البيت.
رددت عليها بكل غيظ: أنتِ ناسية، إني ضعيفة ومش قادرة أقف على رجلي.
 ثم أغلقتُ الخط.
فتحتُ التلفاز، رأيت صورة رجلين يجلسان في قارب يحتسيان  الشاي، والمركبي يقف أمامهما. تذكرتُ الرجلين سريعاً، أنهما كانا معنا في المركب ليلة العيد. بعد لحظةٍ، فتحتُ الموبايل، رأيتُ نفس الرجلين في ريلز وهما يسبحان في حوض سباحة والمياة الزرقاء حولهما.أخذت أفكر ماذا أفعل؟ وكيف أترك البيت؟
سمعتُ صوت الهاتف يرن، فتحته: أيوه يا سوزان أنا شفت الرجلين في المركب في التليفزيون، وشفتهم في ريلز في حمام سباحة.
أخذت تضحك: يا حبيبتي أنتِ بتحلمي، دي تهيؤات، رجلين إيه؟ ومركب إيه؟ وحمام سباحة إيه؟ أنتِ فين وحشاني ونفسي أشوفك.


     لا وقت لدي للتفكيرفي شئ.
كيف أتركُ البيت وأنا على هذه الحالة من الهشاشة والجوع والتعب، خصوصاً وأنا أصبحت أزحف على بطني مثل الزواحف من شدة الهزال والألم.
فى البداية كنتُ أسير على قدمي، ثم على أربع بعد حادث السرقة، والآن أزحف على بطني من الخوف، بعد أن رأيتُ الجرافات وهى تدخل الشارع، أخذتُ أضحك، أضحك بقوة شديدة، شديدة ومرة ومؤلمة فبكيت.
في البدءِ يولد الطفل ضعيفاً يزحف على بطنه، وبعد عدة أشهر يسير مثل جرو صغير على يديه وقدميه، وبعد عام وعدة أشهر يستطيع الوقوف والسير على قدميه. ها أنا ذا أصبحت طفلة صغيرة مولودة منذ يومين.
منذ يومين، لم أجد طعاما في البيت.
بحثتُ على قدر طاقتي في الزحف على بطني، فأنا لا استطيع الوقوف بشكل جيد مهما حاولت، لذا  لا استطيع أن أفتح مثلاً فريزر الثلاجة والبحث داخله عن طعام، وربما يكون ممتلأً فأنا تعودت عندما أقبض المعاش، أقوم بشراء جميع الإحتياجات من لحوم ودواجن وبقالة وخضر وتخزينها، حتى العيش الذي أحصل عليه ببطاقة التموين، لأنني كنتُ مضافة إليها مع أمي أقوم بتخزينة داخل أكياس في الفريزر.
إذن أنا أملك مخزون هائل من الطعام، ولكن كيف الوصول إليه،  والصعود فوق الكرسي.
قررتُ أن أحادث صديقتي سوزان في التليفون لأنها هى الوحيدة من بين صديقاتي القليلات التى تعرف بيت أمي وأنني مقيمة فيه منذ وفاتها.
الأخريات كن يأتين إلي في بيتي الذي كنت أعيش فيه مع أبنتي في مدينة من المدن الجديدة، وتركته لها شقة جميلة وواسعة، أشتراها زوجي قبل وفاته بعامين، وأقمنا فيها، هناك الحدائق جميلة والشوارع واسعة، وكل إنسان يعيش داخل بيته، كانت فكرة شراء شقة في العاشر من رمضان بالنسبة لي سخيفة فأنا لا أحب الأماكن البعيدة.
وتزوج الأخوة جميعاً، وتركوني، وعندما مرضت أمي قالوا جميعا، وكأنهم على أتفاق بالإجماع(جيهان تجلس مع أمنا في البيت) بحجة أنني الصغرى، وأنهم جميعا مشغولين وأنا الوحيدة التي توفي زوجها.
    في البداية شعرتُ بالأمتعاض والضيق، ولكن مع الوقت تذكرتُ أيام طفولتي الجميلة، وأنا طفلة صغيرة أعيش داخل جدران البيت مع أمي وأبي وأخوتي وبما أنني البنت الصغرى فيجب أن أرعاها وأعيش معها.
عشتُ معها عامين كاملين.
كانت مثل الطفل الوديع الذي ترعاه أمه، تضحك لأبسط الأشياء، وتفرح بأبسط الكلمات، وعندما أقدم لها الطعام تشكرني بأمتنان عظيم، فأرى الدموع  تطفر من عينيها دون سبب، وتمسك يدي كأنها تريد أن تقبلها، وتحتفظ بها طويلا بين يديها وهى تدعو لي.
عامان كاملان عاشتهما أمي معي، ورغم أن أخوتي اصبحوا لا يأتون إلى البيت إلا أول الشهر، وعندما أضحك معها وأقول لها مازحة: جاين ياخدوا المصروف.
تضحك وهى تغلق عينيها منتشية: وماله كله من خير أبوهم.
أحيانا كنت أغضب منها، وأقول لها: من يعطي من؟
تضحك: أنا الأم. أنا التي تعطي.
ثم تمسك يدي وتضغط عليها بقوة: أخواتك غلابة مرتباتهم ضعيفة، وعندهم عيال ومدارس وجامعات.
أسحب يدي من يدها وأخرج من الحجرة غاضبة، تنادي بصوت قوي: يا جيهان أعملي لي كوباية شاي وتعالي اسمعي عبد الحليم بيغني في الراديو.
تعرف أمي جيداً أنني أحب عبد الحليم حافظ، مذ كنت فتاة صغيرة، كنت أجلس إلى جوار أختي الكبرى تغريد وهى تسمع عبد الحليم.
أختي تغريد أكبر مني، وكانت معلمتي الأولى فى الحياة، عكس أختي الوسطى فريدة،  
وبما أنني كنت أصغر أخواتي نلت شرف الدلع والمحبة من الجميع، حتى أخي رأفت الكبير أكبر الأخوة عندما أصبح موظفا ويقبض راتبا كل شهر، أشترى لي ساعة جديدة وهو يعطيها لي كان يضحك : من أول مرتب ياجيجي هدية للقطة الصغيرة.
كنتُ في الصف الثالث الأعدادي، فرحتُ بها كثيرا، وكنتُ أتباهى بها أمام زميلاتي في المدرسة.
وأختى تغريد كذلك عندما أصبحت موظفة في وزارة الصحة قامت بشراء شنطة
جديدة جلد طبيعي وضحكت وهى تقول لي: شنطة جديدة للقطة الصغيرة.
أخي رأفت وأختي تغريد أعشقهما جدا بهما حنان مختلف تماما مثلا عن أخي حامد وأخي ناصر. فهما يأخذان مني المصروف الذي أقوم بوضعه داخل الحصالة.
يأتي حامد في البداية على استحياء ويملس على شعري الناعم وهو يضحك: عاملة إيه يا جيجي في الكيمياء. أنا ممكن أذاكر لكِ. اضحك بغيظ: عايز كام يا حامد.
يضحك بفرح: خمسة، عشرة، خمسة عشر. أضحك بدوري: خمسة عشرة قروش.
يقف غاضبا: خمسة عشرة جنيه يا قطة، أنا عايز أروح السينما في أسبوع كامل لأفلام   يوسف شاهين، وأخوك حبيبك مفلس. أضحك وأنا أهز رأسي: تمام. ثم أفتح الحصالة وأعطية عشرة جنيهات كاملة، يأخذها مني وهو يجري خارجا من الحجرة: أوعي تقولي لماما.
ثم يدخل أخي ناصر بتودد شديد وبطريقة هادئة: القطقوط مش عايز حاجة في الرياضة، هندسة، جبر، أنا تحت أمرك، أخي ناصر يكبرني بخمس أعوام  فقط، ولكنني أشعر دائما أنه طفل صغير، أضع القلم في فمي وأنا أضحك: عايز كام يا نونو.
يضحك: اللي تجيبيه يا قمر، خمران ونفسي في سيجارة، أرفع صوتي منادية يا ماما.
يضع يده على فمي بقوة: إيه يا قطقوط مش أنا أخوكي حبيبك، وهجيب لك باكو لبان معيا إيه رأيك؟
أهز رأسي وأخرج جنيها كاملا من داخل كتاب الهندسة وأعطيه له وأنا أضحك: أخوات آخر زمن الصغير يعطي الكبير. يضحك وهو يقبل رأسي: يا عني القطة الصغيرة هتعمل إيه بالفلوس، سلام. ثم يضع الجنيه في جيب البيجامة مسرعا وهو يخرج من الحجرة.
تدخل أمي وهى تضحك: عرف ياكل بعقلك حلاوة. أضحك وأنا أرتمي في حضنها الواسع. تخرج جنيها من صدرها وتعطيه لي. أرفض بشدة وأنا أضحك وأقبل يدها: ربنا يخليك لنا يا ست الكل.

Post a Comment

أحدث أقدم