الوهم والحقيقة(*)
قصة قصيرة
أبو المعاطى أبو النجا
من العسير أن أحدد اليوم أو اللحظة التي بدأت ألاحظ فيها ذلك الشيء ومن المؤكد أنه لم يكن فى البداية بهذا الوضوح، وأن إحساسى به لم يكن بهذه القوة!
ويوم إثر يوم أصبح ذلك الشيء الذي لا أستطيع حتى الآن أن أمسك به في يدى الحقيقة الوحيدة التي تملأ كل حياتي، تملؤها بالمرارة والأسى، وتملوني بالعجز... العجز عن التعامل مع هذه الحقيقة كما يتعامل الناس مع حقائق حياتهم، لأن هذه الحقيقة التي تثقل قلبى بالألم لا تزال تفلت من أصابعي كالشعاع!
وما جدوى أن أتذكر اليوم أو اللحظة، وهذه الحقيقة تبدو لي الآن وكانها قديمة قدم علاقتي بزوجتى، حتى لقد حاولت كثيرا أن أتذكر وجه زوجتى القديم فلم أفلح، ولم تفلح حتى صورها القديمة في أن تعيد إلى ذاكرتي تلك الملامح التي ألفتها طوال خمسة أعوام هي عمر زواجنا، ومع ذلك فلست أملك دليلاً على هذه الحقيقة سوى وجه زوجتى... ذلك الوجه الذي بدأت ملامحه تشى بهذه الحقيقة كما تشى الحقول بمقدم الربيع، لماذا لا أنطق بهذه الحقيقة بنفس البساطة التى لاحظتها بها لماذا لا أقول إننى نظرت فى وجه زوجتى ذات يوم أو ذات لحظة فتأكد لي أنها تحب نعم زوجتى تحب... تلك هي المسألة!
ليس من الصعب أن تدرك أن زوجتك تحب، فنظرة المحب لا تخطئها المين، إنها نظرة قريرة هانئة، وهنازها آت من هناك من الأعماق، لا صلة له بأحداث حياتكما اليومية. وقد لا تثق بذلك في أول مرة، قد تظن أن لهذه النظرة القريرة الهانئة أسبابًا فى حياتكما ، وقد لا تعنى بمعرفة السبب، وقد تخمنه إذا كنت لا تعرفه، ويمضى يوم وآخر، وتختلف الظروف والأسباب، ويتغير إيقاع الحياة اليومية، ولكن النظرة ذاتها.. النظرة التي تمسح أحداق العيون بالفرح، والتي تومض ومضاً خفيفاً ولكنه دائم كومض النجوم، تلك النظرة التي تحيل العينين إلى نبعين دائمين يرويان ملامح الوجه كله بذلك الرضا العذب وبمسحة من الحلم لا تختلف بين النهار والليل، هذه النظرة تبقى دائما رغم تغير الظروف والأسباب، ولكنها أبدًا لا تبقى كشيء ثابت جامد منعزل عن حياتكما.. إنها تشارك في هذه الحياة، تشارك في أفراحها وأحزانها، تغسل الأحزان والمتاعب والمشكلات وتتجاوزها أحيانًا وكأنها لا تراها، تقفز فوقها كعصفور يتخطى الأعشاب والمستنقعات، وتلتمس الأفراح والمباهج، تلتقطها كما يلتقط العصفور الحبات الغائرة فى قلب التراب والحصى نلتمسها التماسا كأنما لتبرر نفسها ، وكما تلتمس الشعلة أنفاس الهواء لتبقى مشتعلة دائما.!
إنها تشارك في هذه الحياة ولكنها أبدا لا تندمج فيها ، ولا تنتمى إليها ، فولاؤها الحقيقي لأعماق القلب الذي تصدر عنه، ويمضى يوم وأيام وشهور ويتأكد لك أن هذه النظرة تخضع لدورة أخرى مجهولة، ولإيقاع آخر لا صلة لحياتكما به!
إنها أحيانا تتألق وتترنم وترقص وكان ثمة لحناً مجهولاً تستقبل وحدها انغامه الشجية، وأحيانا تشرد وتخبو كأنها تطارد النغم الشجى الهارب أو تخشى أن يسمعه أحد، فهى تنكسر عليه وتكاد تغلق دونه أبوابها الرقيقة التي كانت مشرعة وأحيانا يلفها قلق حزين غامض فتصبح أو تمسى مقروحة هامدة ليوم أو أيام يعود بعدها الصفاء والضياء، ولكنها لا تفقد أبدا مسحة الحلم الجميل الرقيق الذي يغلف الأسى والفرح معًا.
ويتأكد لك يوما بعد يوم ما قد تكون لبعض الوقت في شك من أمره وهو أن هذه النظرة تخضع لدورة أخرى مجهولة تدور فيها زوجتك مع شخص آخر لا تراه ولا تعرفه، ولكنك تؤمن بوجوده دون أن تكون في حاجة إلى دليل من أي نوع آخر !
وقد يكون لك مثلى صديق من النوع الذى لا تتحرج أن تفتح أمامه قلبك وقد تكون مثلى من النوع الذي يحتاج إلى شهور طويلة من العذاب حتى يجد الشجاعة على أن يبوح له بمثل ما بحت به ومهما يكن نوع صديقك فغالبا ما سوف يتهمك بالجنون، وبأنك مريض بالوهم، وبأنك من النوع الذي يخلق لنفسه آلاما يتعذب بها حين لا يكون هناك ما يعذبه، خاصة إذا كان هذا الصديق يعرف زوجتك قبل ذلك، ويقدر على أن ينتزع من حياتكما عشرات الأمثلة التي تؤكد حبها لك ووفاءها!
آنذاك سوف تقدم مثلى على أنك بحت له بما لا ينبغى أن تبوح به المخلوق.
وقد تفكر للحظات أنه قد يكون هو نفسه، ذلك الصديق من تحبه زوجتك، ولكن بالنسبة لى، لم أفكر فى ذلك مرة واحدة، قد تتهمنى بالغفلة خاصة إذا اعترفت بأنني لا أملك دليلاً على ذلك سوى شعوري الخاص الذي
أصبحت أثق به ثقة كاملة، ذلك الشعور الداخلى الشخصي وحده هو الذي يؤكد لي أن زوجتي تحب، وأن من تحبه ليس هو الصديق الذي فتحت له أبواب قلبي!
وقد ينجح هذا الصديق في أن يضع بذور الشك في إيمانك بمعنى تلك النظرة القريرة الهانئة!
ولكن هذه الشكوك سرعان ما تتبدد حين تكتشف أن زوجتك كلها وليست نظرتها فقط أصبحت تخضع لتلك الدورة الغريبة المجهولة وعبنا تحاول مرة أخرى أن تجد فى حياتكما مصدرًا لتلك الطاقة العارمة وتلك الحيوية النادرة التي تعصف بزوجتك وهى فى الواقع تعصف بك، تلك الحيوية التي توشك أن تخرج زوجتك من جلدها ومن ثيابها، والتى تجعل كل شيء في بيتك وفي حياتك يتمرد على إطاره ويتجدد، كل شيء في بيتك وفي حياتك يتنفس بهذه الحيوية ويتحرك بها وينعم بآثارها الزهور والمفارش والستائر وقطع الأثاث وثياب الأولاد وحتى ثيابك أنت وقبل كل شيء ثياب زوجتك، كل شيء يتجدد ويتأنق ويبرق، ولا يستقر في حال أو مكان، تلك الحركة الدءوب المرحة المتغيرة في بيتنا جزء من تلك الحركة الغامضة التي تهدر في قلب زوجتي، تلك الموسيقى التي لا أعرف كيف تضبط زوجتى وقت إرسالها في محطات الراديو وتلك الأغنيات الهامسة التي أصبحت تترنم بها هنا وهناك وهي تتحرك كالفراشة بسرعة وبخفة لا يتطلبهما شيء !!
وهذه الرقة التي هبطت فجأة كالملاك، هذه الرقة التي تتحدى كل أنواع الغضب وتصبر على شقاوة الأطفال، وسخافة الجيران، ولا أقول سخافتي فقد اسئلت زوجتي في براعة مذهلة كل ما يمكن أن يجعل منى شخصا سخيفاً، لم تكن يوما كما هي في تلك الأيام سماحة ولطفا ومحبة.. أجل محبة ! كان ثروة هائلة من العواطف قد هبطت على زوجتى من السماء ثروة يستحيل إخفاؤها ويستحيل أن تحتفظ بها، ولا تبدل منها، ويستحيل أن تشعر وأنت تأخذ نصيبك منها أنك صاحبها أو أنك تستحقها ولكن كيف ترفض أو تتمرد؟
زوجتي تحب تلك هى الحقيقة الوحيدة التي تواصل نموها الضاري في بيتي، تحت سمعي وبصرى وفى فراشي، أصبح لزوجتى جمال المحبين، وهو جمال غريب، ونادر، جمال لا يعبأ بالوقت ولا بالثياب ولا بالأسباب لا يعبأ بالراحة أو التعب بالصحة أو المرض جمال يتوزع على الروح والجسد وعلى أوقات النهار والليل، فى العيون والكلمات والمشاعر والإرادة والفكر، جمال قادم من هناك.. من شعور المرء بأن الحياة ولا شيء أقل.. الحياة تريده وتتمناه وتعبده وتختاره دون غيره طريقاً تعبره إلى المستقبل، إلى الخلود تتحدى به الموت والذبول وكل النهايات!
جمال يصدر عن الثقة بالنفس ليصنع الثقة بالعالم، يصدر عن الشعور بالكمال ليصنع الكمال في الحياة، جمال مكتسح جارف مقتدر يرغمك على رؤيته والإحساس به وأكثر من هذا يرغمك على الإعجاب به وحبه والتماسه رغم يقينك المروع أنه ليس منك وليس لك، وأنه يدين بوجوده لشخص آخر لا تراه رغم وجوده!
زوجتي لها ضحكات المحبين، وهى ضحكات صادرة من القلب تلتمس أوهى الأسباب لتصدر فى قوة ونقاء حين تنتهى الأسباب تبقى هي قوية وصادقة تخلق أسباب بقائها خلقا ، وترعاها كما ترعى ام مقتدرة وحيدها ، زوجتي لها سعادة المحبين، وهي سعادة أبية راسخة ذات كبرياء، وذات مسام كالفلين تمتص كل شيء، وتفيض على كل شيء، وكل أحد ، لا شيء يمكن أن يتهدد قدرتها على الأخذ والعطاء، لا شيء سوى حزنها الخاص، وهو حزن مثلها مجهول المصادر، لا أحد يمكنه أن يعتذر له أو عنه وحين يجيء، يتقنع بالأمراض النسائية المجهولة المعلومة وبالأحلام والرؤى، لا شيء يفضحه سوى دبول العيون، وساعات الأرق، وكميات الطعام الناقصة، والحكايات التي تروى باقتضاب عن مشكلات في العمل ومضايقات في الطريق..!
من المستحيل أن تحتمل أنت أو أنا أو أى مخلوق هذا كله دون أن تبحث عن صديق، دون أن تخلقه خلقا .. ودون أن تفكر في أية عاقبة، أو ندم ولم أشعر بالمفاجأة حين قال لى صديقى الذى لا أتردد في أن أفتح له قلبی!
سوف تجن... أراهن أنك سوف تجن!
ولهذا أبوح لك.. حتى لا أجن!
ولكنك تعشق الجنون.. تسعى إليه.. تريده!
ما أقوله لك حقيقي تماما ..!
أنت لا تريد أن تعرف الحقيقة.. الواقعة.. لو أردت أن تعرف فهناك الف طريقة.. ولكنك لا تريد، نعم لا تريد!
ودون تفكير قلت له : قل لى طريقة واحدة!
يمكنك أن تلاحظ سلوكها مع أصدقائك، وتلاحظ أيضا سلوكهم معها...
ولم أقل له إنني فعلت ذلك من قبل، لم أقل له إننى لاحظت حتى سلوكها معه، مع ثقتى الكاملة بأنه هو بالذات لا علاقة له بهذه المسألة!
لم أقل له إنه أصبح لزوجتى ذكاء المحبين، هو ذكاء قادر ملهم، فهى توزع اهتمامها على الجميع في عدالة، وكأنها تحبهم جميعا بنفس المقدارا وحتى لو أخطأت مرة فأي معنى للزيادة أو النقصان في تلك المرة!
لم أقل له إنه من الجائز أنها تحب زميلاً في العمل، أو أن حبا قديما قد بعث فجأة، لم أقل له إننى لاحظت وتابعت ومضيت في كل الطرق التي يمكن أن يشقها العقل والظنون والهواجس، وأنني وجدتها جميعا طرقا مسدودة يسدها ذكاء زوجتى المحبة، وربما أنها ككل الطرق التي يشقها العقل وحده يمكن أن تتسع لألف احتمال واحتمال!
لم أقل له إننى سوف أضيع.. وسوف أفقد يقينى كله لو تخليت عن ذلك الشعور الداخلى الذى يتغذى بما لا يحتمل الشك، بما لا يقدر سواى على الإحساس به وعلى رؤيته!
وفوجئت بصديقى هذه المرة... فوجئت به يقول لى وكأنما اهتدى إلى حل!
- حاول أن تفاجئها مرة... المهم عنصر المفاجأة... قل لها مثلاً وأنتما تتناولان الطعام.. والحديث يدور حول أي موضوع "سناء.. انت تحبين...
ولم أرد..
واستطرد صديقى: المهم أن تلاحظ رد الفعل... المهم ما يمكن أن تكشف عنه تداعيات الحوار.. المهم أن...
وصمت صديقى، ويبدو أنه لم يلاحظ إلا مؤخرًا رد الفعل بالنسبة لي!
وبذلت جهداً لكى يستمر الحوار بيننا .. شبه طبيعي...
وحتى لا يشعر صديقى بما يدور فى داخلى، ولكن هل نجحت في ذلك ؟؟ وفي الحقيقة أنه لم يدر بيني وبين صديقى أى حوار حقيقي من قبل كنت واحداً من الثين مؤمناً أو مجنونا، وكلاهما لا يقدر على الحوار.. وكنت قبل ذلك كله قد اخفيت عن صديقى اخطر جزء في قصتي...
وربما لو أخبرته به لما قدم اقتراحه البرىء أو الماكر، والذي يدينه بقدر ما ببرنه.
كان مثل هذا الحوار المقترح قد حدث بينى وبين زوجتي، حدث بالفعل... الغريب أنني كنت اريد ان استعمل نفس كلمات صديقي ولكن حين بدات الحديث مع زوجتي أقول:
- سناء.. أنا أحب...
وكمن يمثل الدهشة قالت:
- اعرف..!
و دهشت انا بحق هذه المرة:
- تعرفين ماذا ؟
- أنك تحب.
قالت محاولاً أن أمثل دور المشاكس.
- ناقص أن تقولى أنك تعرفينها ...
- أعرفها طبعا ...
- من؟
- أنا..
ثم لم أشعر سوى بملمس ذراعيها الناعمتين وشعرها الغزير يعجزانني عن أي حوار وبريق عينين سعيدتين إلى الحد الذي لا تسمحان فيه لشخص أو شيء أن يفسد هذه السعادة..
وجاهدت لكي أقول في سذاجة مرعبة:
- لماذا لا تأخذين المسألة بجد..؟
- طبعا أخذها أنت تحبني.. اليس كذلك؟
- وأنت قلتها بلا وعي.
- أحبك!
- ماذا تريدين؟.. قلتها وأنا أحاول أن أفك وثاق الذراعين برفق...
- انت؟.. قالتها وهي تعيد إحكام الوثاق برقة....
- الآن؟
- نعم !
- انت...
ولم أكمل عبارتي.. لم يكن ثمة معنى لشيء ولا حتى لما تريد.. وحتى حين أصبحنا شخصا واحدا .. رغبة واحدة... جنونا واحدًا .. كنت أثق كما لم أثق من قبل بأن زوجتي تحب.. تحبه هو .. ذلك الشخص الآخر المجهول الذي لا أعرفه... حتى وهي بين ذراعى تغمض عينيها على صورته... لتراه... لتعتقد أنه هو ما تلمسه ما تحس به... حتى في لحظة الصدق الأعظم كنت أتوقع أن تنطق باسمه ولكنها لم تنطق حتى باسمى.
كانت تنطق باسم الحب وحده.. وكانت تتوجه له.. وتصلى في محرابه...
أكان من المكن أن أروى له لصديقى هذه القصة ولكنها في يمكن أن ترويها لمن تحب. ومع أن العقل وحده هو الذي يتصور أن الخيل التنوع أو العبقرية الفظيعة هي التي تدفع صديقي لو كان هو من تحبه زوجتي إلى تقديم هذه النصيحة لأنها تصلح دليل براءة بقدر ما تصلح دليل اتهام!
فإن اللتي في براءة صديقي بعد تقديم هذه النصيحة لم تهتز تلك الثقة التي لا تعتمد على شيء أكثر من شعورى الخاص الذي يتأكد لي كل يوم أنني ساضع إذا تخليت عنه مع أنه يمكن أن يقودني إلى الجنون..
ولكن الجنون الحقيقى لا المتوقع هو الذي كان في انتظاري حين فوجئت باختفاء صديقي كنت ابحث عنه في كل مكان يمكن أن يذهب إليه. وحتى بعد أن أخبرني جيرانه أنه سافر دون أن يعرفوا إلى أين؟ ظللت أبحث عنه وانتظر عودته!
كنت أود أن أؤكد له ثقتى فيه، وثقتى فى براءته، كنت أود أن أبوح له بما لا أقوى على البوح به لغيره. كنت أود أن أكمل له القصة التي شهد بدايتها ثم بدا وكأنه ملنى أو مل النهاية، أو ضاق ذرعا بالحوار من جانب واحد..
كنت أود أن يشاركني اليقين بأن زوجتى تحب، وبأنها تعيش في هذه الأيام آلام المحبين.
وبأنه يجب أن يثق فى طريقتي لأننى لو تخليت عنها فسوف لا أملك دليلا واحدا على براءته!
ولكن صديقي رغم انتظارى لم يعد... ولست أدرى متى يعود؟ وحاجتي إلى صديقي لا يمكن أن تنتظر، فلتكن أنت صديقى ومنقذي من الجنون وشاهدي على ما يمكن أن يصبح له غياب صديقى من معنى بعد أن أصبح الزوجتي آلام المحبين!
في البداية لم تفزعنى آلام زوجتي، كانت هذه الآلام جزءا من تلك الدورة التي ترتبط فيها زوجتى بذلك الشخص الآخر الذي تحبه كانت جزءا من السعادة والمرح والنشوة.
وكنت أتوقع بين لحظة وأخرى أن تتوارى الآلام المجهولة المصدر فجأة، كما جاءت فجأة !! ولكن أحزان زوجتى بدت وكأنها لا تبغى الرحيل!
عقلي وحده هو الذي يصر أن يلتمس علاقة ما بين صديقي الذي لا يجيء وأحزان زوجتي التي لا ترحل!
عقلي وحده هو الذي دفعنى ذات لحظة لأن أقول لها، لزوجتي:
- شريف لم يعد يزورنا ...
- الغائب له عذره....
- متى عرفت انه مسافر؟
- لا أعرف إن كان مسافرا أم لا.
- أيمكن أن يكون هنا ولا يجيء؟
- كل شيء ممكن!
نعم.. كل شيء ممكن لو أننى ظللت أفكر في المسألة بهذه الطريقة.... لو اننى تخليت عن مشاعرى الخاصة التي تؤكد لى براءة صديقي، وأن زوجتي تعاني في نفس الوقت. آلام المحبين..
لم يضننى شيء مثل محاولة زوجتى أن تكتشف لحزنها أسبابا كل يوم.. كان بحثها عن الأسباب يكلفني بأن أبحث بدورى عما يثبت كذب هذه الأسباب!
حزن زوجتى لا ينتهى، ومحاولاتها تجهد محاولاتى، وصديقي الغائب لا يعود!
- سناء.. أنت حزينة
ابتسمت زوجتى ابتسامة فضحت حزنها ...
- انت تعرف الأسباب قلتها لك!
- نعم.. ولكن هل تستحق كل هذا ؟
- جائز أنها لا تستحق.. لكن...
زوجتي أصبحت شبحا ، وليس من المعقول أن أنتهز هذه الفرصة لأحقق انتصارا رخيصا على هذا الشبح، ولكن هل من الممكن حقا أن أحرز هذا النصر.. هل من الممكن أن أظفر من هذه الشفاه الشاحبة باسم الرجل الذي تحبه؟
لو أنها تعرف أن كل ما أريد أن أعرفه هو أن هذا الرجل ليس صديقي..؟ ترى هل تغضب أم ترضى؟
لو أنني حاولت الآن بالحيلة أو بالقوة مع هذا الشبح الذي كان يوما زوجتي... لا نتفضت عن قوة هائلة لتحتفظ إلى الأبد باسمه.. نعم هذا ما تنم عنه الملامح الشاحبة الهزيلة المصرة، ستبقى وحدها التى تعرفه وتحبه وتحزن من أجله!
هل اعتذر عن ضعفى أم عن ضعف زوجتى، كلانا غارق في ضعفه، في أحزانه الخاصة، كلانا يدرك آلام الآخر من طرف خفى فلست أظن أنها حتى الآن وبعد كل محاولاتي لا تدرك أنني أدرك!
كلانا يتهاوى تحت مطارق ثقيلة .. تسحقه وتمزقه.
ورغم ذلك فكلانا وحيد تماماً، منعزل عن الآخر، تعجز الآلام المشتركة عن أن تقيم بيننا جسرًا..
ربما ما يربط بيني وبينها الآن خيط دقيق من الشفقة المشتركة فلا أحد غيرها ولا أحد غيرى يدرك معنى الهزيمة التي تحيق بنا معا..
شيء واحد هو الذي اتخيله واتمناه أن ترحل أحزان زوجتي لبعض الوقت أن تعود لها سعادة المحبين واقتدارهم آنذاك سوف التمس مسدسي الصغير الذي تخفيه قبضة يدى لا لأقتلها فهذا ما لا أفكر فيه، لكن الأرغمها . ارغم كبرياءها واقتدارها على أن يبوحا باسمه، باسم الرجل الذي لا أزال أؤمن بانه ليس صديقي.
أحيانًا أعتقد أن هذا الهدف الصغير هو كل ما أعيش من أجله أن أعرف ما لا يستحق المعرفة، وأحيانًا أعتقد أننى لا أخشى شيئا مثلما أخشى أن تعود لزوجتى سعادة المحبين واقتدارهم، لأنها آنذاك سوف لا يرهبها شيء، ولا حتى فوهة مسدسى الصغير، ما أخشاه وما أتوقع حدوثه أنها سوف تضن يسرها الغالي.. وسوف تواجه الموت من أجله.. وربما أنها لن تواجهه أبدا، فإن قتلها سوف يعنى بالنسبة لي أن أقتل بيدى الدليل الوحيد الذي يمكن أن يؤكد يوما ما براءة صديقي وصدق مشاعري، وبراءتي من الجنون.
لو عاد صديقى اليوم لفتحت له قلبي كما أفتحه لك ولكنه لا يريد أن يعود لا يريد أن يشارك في هذه اللعبة التي تقتل لاعبيها جميعا فهأنذا المح في عينيك أنت.. يا من اتخذته لبعض الوقت بديلا لصديقى المح نفس الاتهام الذي كان يوجهه لى، اتهاما بأننى لا أريد أن أعرف الحقيقة، أو أسعى لها، وانتى أسرع الخطى فى طريق واحد لا غير سوف ينتهى بى إلى الجنون المح في عينيك هذا الاتهام، ولكننى أرفضه منك، كما رفضته منه.. واستميحك أن تسمع قصتى حتى النهاية ..!
***
فصديقى حتى الآن لم يعد من رحلته الغريبة.. ولكن أحزان زوجتي هي التي بدأت ترحل.. نعم بدأت ترحل.. يجب أن تصدقنى في هذا، فهذا أمر لا يحتمل الكذب.. هذا أمر أنا مصدره الوحيد ويجب أن تصدقنى.. وجه زوجتي القديم الذي لم أتعذب بشيء مثلما تعذبت بمحاولة تذكره يعود.. الملامح القديمة، لزوجتى تعود.. نظراتها وضحكاتها وسعادتها وأفراحها وصوتها وضعفها وأحزانها .. تعود لتصبح جزءًا من حياتنا اليومية.. تتسق معها وتتألف تنبع منها وتصب فيها، تعود دون طلقة رصاص دون اكتشاف حقيقة الرجل الآخر الذي كانت تحبه، والذي حل ضيفا على حياتنا بعض الوقت، تعود كسيرة حزينة لا تبعث في نفسى حبا أو كراهية أو شفقة أو حقدا ، تعود كما ذهبت، وأنا بلا دور، أو لعله كان لى دور الخائف العاجز المروع.. ذهبت دون أن أملك لها منعًا، وتعود دون أن أملك لها رفضا أو قبولاً!
عادت إلى بيتنا كما كان، وإلى أولادنا الذين يكبرون ويتطلعون وتخفى عيونهم أكثر من سؤال عما يجرى في هذا البيت، يكبرون ويمضون سراعا نحو سنوات الحب والألم والنشوة والوهم والحقيقة.
أما أنا فسأظل انتظر عودة صديقى الغائب الذي يمكن أن تجد أنت لغيابه ألف معنى. أما أنا فسوف أنتظره لأننى واثق من براءته واثق من قدرته على إثباتها، ولا مفر لى من صداقتك حتى يعود صديقي!
المح في عينيك نظرة ارتياب وكأن نهاية القصة لم تقنعك بشيء.. أو لعلك لم تقتنع بعد بأنها قد انتهت .. وهذا بعض حقك، ولكنى لا أسمح لك لحظة واحدة بأن تشككنى فى براءة صديقي، فلو سمحت لنفسي بهذا الشك فعليك أنت أن تشك في هذه القصة كلها من البداية حتى النهاية في كل ما رويته لك !
اسمعك تهمس بأن جنوني مؤكد، ولست أطلب منك سوى أن تتريث قليلاً في إصدار هذا الحكم القاسي فمن يدرى يا صديقي.. فقد تفتح عينيك ذات صباح لتكتشف بدورك أن زوجتك تحب!
(*) نشرت في مجموعة الوهم والحقيقة)، ١٩٨٤ أبو المعاطى أبو النجا (من مواليد (۱۹۳۱)، من مجموعاته القصصية: فتاة في المدينة)، (الابتسامة الغامضة) (الناس والحب)، (الوهم والحقيقة)، (مهمة غير عادية)، الجميع يربحون الجائزة)، في هذا الصباح).
القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009
إرسال تعليق