حيطان عالية (*)

قصة: إدوار الخراط


وقف على الباب فى الطريق الضيقة بين مخازن القطن. ومزقة من سماء الغروب الباهتة معلقة من فوقه من بعيد.

كان قد حيا زملاءه الذين انصرفوا من قبل إلى شئونهم. وكأنه يتردد إذ يترك يومه الطويل الممل من الكتابة فى دفاتر حسابات المخزن، ويهم بالعودة وخطواته تنقله من حياة إلى حياة.

وضاع في سيل من الناس يهرولون فى الطريق التي تجرى إلى جانبها ترعة المحمودية، والمخازن تقفل أبوابها وخفراؤها يتحققون الأقفال، ويتحدثون في كسل، ويحسون الليل لما يكاد يبدأ.

وسحابة مقطعة تترك ذيلها المحمر على كوبرى القبارى، وعربات الترام تصلصل في الشارع بين سيارات النقل المسرعة المكومة بالقطن، والكوبرى يبدو من بعيد لعبة من الحديد الرقيق تضطرب فوقها الناس والعربات دون معنى.

وقف ينتظر الترام، في حشد من العمال وصغار الناس، وجوههم قائمة مريدة تضيئها لمعة عابرة إذ يتركون عمل يومهم ويعودون ينشدون شيئًا من نسيان أو شيئا من حياة.

وأحس الميدان تملؤه العربات والدبدبة وطنين الناس، والسماء تتسع فجاة فوقه فإذا هي فسيحة براح يخامرها ضوء آخر النهار، وأحس وحدته في هذا الغمار تنفتح في داخله كحفرة، لأنه يعود إلى بيته، ولكنه لا ينتظر شيئا، فهناك امرأته تقف أمام موقد الجاز فى المطبخ، وسائر الغرف مظلمة مقفلة، وبنته فى غرفة النوم - مريضة. وفى البيت خمود وملل رازح. لكن نفسه لا تنزع به مع ذلك إلى القهوة ولا إلى أصحابه فيها. وهو الليلة لا يكاد يطيق شيئا. يعود إذن يقرأ الجريدة ويتعشى وينام، فهو قد ضاق بيومه كله، ويود لو انتهى منه سريعا. بل ضاق بكل شيء، وقلبه ينقبض من الضجر والقهر كأنه أضاع شيئا عزيزا إليه، أضاعه بلا رجعة.

ومد للكمسارى قرشا فوق أكتاف الناس، والتزام مندفع يهتز، يقطع الشارع الطويل، ونسى نفسه لحظة، في زحمة الأجسام المتعبة يفوح منها في الحيز الضيق صنان العرق وشغل النهار. 
وهو يخبط على الباب ولا يرد عليه أحد.
فخبط في شدة وضيق. وألقى بالتحية إلى امرأته وسأل عن البنت، فأجابته باقتضاب:
- كويسة.
- نايمة ولا إيه؟
- مش عارفة، أهي في السرير.

وجلس على حرف السرير. وطالعه من العتمة وجه بنته أسمر منحوفا مشتت الشعر ضئيلا ، هذا الوجه الصابح الغض وقد تهضمه المرض ونشف ماءه وعيناها الكبيرتان تقفان عليه، فى تساؤل. كأنها حيرانة، لا تفهم. وعلى جبهتها المدورة ندى خفيف من العرق. فوضع ذراعه حول كتفها الصغيرة وهو ينحنى عليها، وقد در قلبه بالتحنن، كأنه يعتذر لها من صحته.

وسألها هل أكلت، وماذا تحس الآن؟

ولم تكن هذه الغرفة بالذات مضاءة، فأسلاك النور متعطلة فيها، ولم يتح له أبدا القليل من الفراغ، ولا القليل من النقود، حتى يصلحها.

وامرأته تأتى فتقف بالباب هنيهة، ثوبها قديم ينحسر عن بضعة من صدرها الصغير المرتخى. وإذا اندلاعة من حبه القديم تحرق صدره فجاة.

وقد انقضت خمس سنوات منذ تزوجها ، لكنه لم يستطع أبدا أن يستقر إلى حبها. أهي تحبه، هذه المرأة التى تزوجها والتى تقف بالباب، وثوبها الذي كاد يبلى يلف جسمها الصغير الناعم، جسمها اللدن الضيق؟ إنه يعرفه على الأقل، هذا الجسم. يعرف طراوته الغضة، وجلدته المرهفة الحريرية، يعرف رجفته إذ يستجيب له، وحرارته وتقبضه بالنشوة، ويعرف ملامسته واستكانته ووداعته تحت اصابعه الملاطفة، ويعرف برده إذ يكون جائعا إلى الحنو، وجائعا إلى رجولته، ونداءه الخائف من غير صوت. ويعرف نفرته أيضا ورفضه وانكماشه و انزواءه كحيوان خجول وحشى يدفع عن نفسه، ويقفل أبوابه على ظلامه الداخلي نعم يعرفه جسمها ، لكنه لا يعرف أبدا ما سر الهوى الذي يعيش في هذا الجسم، أهناك هوى على الإطلاق، يعيش فيه ؟ شيء يشبه، ولو من بعيد، هذا الحريق الذي يأكل نفسه الآن، سعر من التوق إلى الزمالة وإلى الفهم، ونار تشتعل من نسيج النفس وحدها ، لا صلة لها بالدماء، حريق من حسه بالوحدة، بأنه مرمى وحده في عزلة نهائية، دون أمل في النجاة.

وهو إنما يطلب من حبه أن تتهدم فيه أسوار هذه الوحدة، ويمضه شعوره أن لا جدوى هناك، فامرأته صامتة وغريبة، أجنبية، وهو وحيد أبدا، وهو يهم أحيانًا أن يهتف بها أن يزعق فيها ، لكى تكلمه، لكي تقترب منه ، لكي تمد إليه يدها، تفعل شيئًا، أى شيء، يشعره أنه ليس غريبا ، هو، ليس شيئا، هو. آتيا من مكان آخر غير معروف ليس منفيا ملقى به في العراء، أنه في النهاية ليس وحده وحده وحده مقضيا عليه دون خلاص بهذه الوحدة التي لا تطاق.

لكنه لا يجد مقدرة أن يهتف بها ، بل أن يهمس لها ويشعر فجأة أن لا طريق إليها ، فهى في معزل، لا تنال، ويده لن تطولها قط، وحبه لها يأكل نسج نفسه، لأنه يود أن يطويها بين ذراعيه، أن يأخذها إلى حضنه قريبة حميمة كأنها بضعة من قلبه ولحمه، كأنها تنبض في داخله، ويعرف أن لا سبيل وترمضه معرفته.

وسوف يدوسه القهر، لأنه في كل مرة يعود محبوطا. ومهما عصرها في لياليه ودعك لحمها إليه، فهى أخرى ما تزال غريبة بعيدة، منفصلة وهذا

الشوق جائع أبدا لن يعرف الرضا. هذا الشوق الذي لا يعرف أن يسميه، لكنه هناك، لا يتبدد، لا ينحل.

وها هى ذى تقف بالباب، وحول عينيها حلقات سوداء من التعب والهم لعلها هي أيضا أن تعرف معنى الوحشة في هذا البيت موقد الجاز يفح وأسلاك النور معطلة، وبنتها مريضة، وهى محبوسة بين هذه الحيطان لا يدرى فحتى وحشتها صامتة غريبة عنه، لا صلة لها به وامرأته لا تعرف أن تتكلم أن تعطى لنفسها أصواتا ، بل لا تعرف أن تعبر عن نفسها بشيء آخر غير الكلام مسدودة تماما ، كان نفسها لم تولد أبدًا وظلت برعما خشنا خاما مغلقا على عصاراته الكثيفة، لن ينفتح.
- أحضر لك العشا؟
- عندنا إيه؟
- بطاطس ورز
بطاطس ورز، من طبيخ الأمس. هذا الأكل الذي تقدمه له، معجونا دائما لزجا في الزيت والدمعة قوام حياته التي ألف طعمها الآن. وهو متعب فجأة مهدود، ولا شهوة له لشيء. لكن فراغا في أحشائه عليه أن يملأه بهذا العجين المطبوخ، دابه كل ليلة.

ووضعت له طبقين على السفرة القديمة المغطاة بفرش أبيض حائل مبقع وسمعها تعود تتحرك في المطبخ من جديد، أمام موقد الجاز

- مش حتيجى تتعشى معايا ؟

وجاءه ردها من المطبخ، وهي تغسل شيئًا في الحوض:

- ماليش نفس دلوقت، يمكن أكل بعدين باعمل لك الشاى عايز شای؟
- آه..
من فم ممتلئ.
وأخذ يحسو شايه الثقيل المسود، وينفث دخان سيجارته الهوليود اللاذعة وفمه يعود إلى إلف إحساسات المساء العادية، يتطعم البطاطس والشاي الخشن المر ودخان الهوليود على لسانه ، لا لذة فيها إلا متعة العادة القديمة، وسمع بنته تكح من عتمة غرفة النوم، كحة مؤسية وهنانة تهتز بجسمها السخن الملقى على الفرش وغشاه العالم يضيق حوله وينقبض به والبيت كالسجن لا حول له فيه ولا يد له في شيء.
- البنت خدت الدوا؟

وامرأته تجيبه، ولهجتها تشى بالمرارة، نعم، ومع ذلك فها هي كما ترى سخنة، ضعيفة، تكح.

وهي تأتي من المطبخ تجفف يديها في فوطة مشعثة، وقد وقعت خصلة من شعرها الأسود اللامع على جانب جبهتها. وانبثقت في داخله فجأة شهرة أن يأخذ هذا الوجه بين يديه، فيغمض عينيها بفمه على ما فيهما من عتاب، ويمر براحتيه على هذين الخدين فيمحو ، برقة، خطوط الخيبة والمرارة التي يراها على صفحة الوجنتين، أن يحتوى ذقنها بين كفيه، وأن يدفن رأسها ووجهه جنب عنقها، في تسليم وضراعة لأن تعفو، فما بوسعه شيء، كأنه حبيب صغير مخيب الأمل.

لكنه ظل على كرسيه، تشعفه شهوته ولا يفعل شيئا. غريبة هذه الاندلاعات، كأنهما لم يتزوجا من خمس سنوات، كأن يديه لم تعرفا بعد مسة خديها ولا ملاسة جسمها كله، ولا خصب شعرها الناعم الهين بين أصابعه، كأنه يشتهيها لأول مرة. وترك رغبته تمضى غير متحققة شيء ما في هذا الوجه المتعب المغلق يحبطه ويصده، شيء يبعدها عنه. وهو يوجس منها . كان في نفسه دبيبا لا يكاد يستبين من حسه بإثم ما، بذنب غير محدد.

وحفزه شيء فاختطف سترته وهب متجها بسرعة إلى الباب، وهو يقول:

- أنا رايح القهوة شوية. يمكن أتأخر بالليل.

صدمه هواء الليل، والشوارع المزدحمة الضيقة بأنوارها الكثيرة تومئ إليه وتبرق، وتغمز في داخله فتحات حساسة، كما لو كانت الأنوار وخزات

تغمز الجلد الملتهب المشدود على جروح ضاربة مفتوحة والترام يجرى في الشارع مليئا بالناس والباعة والعساكر والسيارات تقبض على هامش وعيه بأصواتها، لكنها ترميه بعيداً ، إلى بعد آخر من أبعاد غربته.

ودار بنظره فى القهوة فلم يجد أحدا من أصحابه، وهبط ثقل جديد بقلبه. ألن يجد أحدا يلعب معه الليلة؟ هذه الليلة ... لكنه لن يطيق الجلوس هنا وحده بين الناس. لن يطيق. لن يحتمل.

وانفرجت ضيقته فقد وجد شخصا يعرفه هنا ليس صديقا بالتأكيد لكنه يعرف هذا الوجه فقط نسى اسمه. هذا الوجه مألوف إليه بل مألوف جدا. كأنه يراه كل يوم. لكنه لا يتذكره مع ذلك. هذا الشعر الأكرت وهذه النظارات على عينين صغيرتين مطفأتين، والجبهة الضيقة والذقن المنحدر إلى الوراء.

وإذا هذا الوجه القشف العنيد الجهم يبتسم له فجأة، ويقوم إليه يحييه.

فاتجه إليه مترددا، يرد التحية

ثم يقف مرة واحدة، وقد تقبضت المفاجأة بقلبه وأحس ركبتيه تكادان تتخلعان به هذا الوجه وجهه، وجهه هو. كأنه يرى نفسه خارجا من المرآة، بل من صورة فوتوغرافية مجسمة حية إطارها عرض الحياة نفسه.

وتوقف ذهنه، وأحس أنه لم يعد يفهم شيئا ، ولم يعد يهتم.

لكن الآخر دعاه إليه وسلم عليه، وفى عينيه بريق خبيث، كأنه، هو، يفهم والناس حولهما يلعبون الطاولة ويدخنون ويلغطون، ويجلسون على كراسيهم في خمول، ينظرون إلى الشارع والترام والبنات كأن شيئا لم يحدث. كأنهم هم أيضا لا يجدون في الأمر غرابة، ولا ينكرون شيئا، أبدا، على الإطلاق.
والجرسون يأتي، والآخر يطلب اثنين قهوة على الريحة، وطاولة، كذا. دون سؤال دون تردد. كأنهما صديقان قديمان، وهو لم يتكلم بعد ، وقد عقلت المسألة كلها لسانه، لكن الآخر يسأل عن صحته وكيف الحال؟ فيرد عليه بشكل آلى، وذهنه غائب، وهو يحس ألفة به، كأنه لم يتركه إلا بالأمس فقط. كأنهما يريان أحدهما الآخر كل يوم، ويعرفان أحدهما الآخر منذ الطفولة، وقد تكلما في كل شيء، وعرف أحدهما الآخر ظهرا لبطن، ولم يعد لديهما جديد يقولانه، فلم تبق إلا الطاولة. نوع من الألفة الوثيقة الحميمة تربط بينهما ، معرفة الشخص لنفسه.

لكنهما الليلة يلعبان الطاولة على شيء له أهمية وخطر والحماس يرتفع في صدره الآن، ويشعره بحمو جديد غير مألوف. لا بد أن يغلبه الليلة، هذا الآخر. مصيره كله، بشكل غامض، معلق بلعبته الليلة. لا بد ، لا بد أن يظهر عليه أن يغلبه غلبة نهائية حاسمة باهرة والآخر ينظر إليه من وراء نظارته وهذه اللمعة تضىء عينيه، فهو يعرف أهمية اللعبة، لكنه واثق من نفسه، كل الثقة، هذا الآخر.

وغاظته هذه الثقة من الآخر، وأوغرت صدره، فهو يعكف على اللعب في يقظة ودقة وحرص. وينسى القهوة والبيت والشغل، ويفقد الشارع والناس، ولا يبقى أمامه إلا الأقراص تدور وتنتقل وتخبط خشب الطاولة، تخطط مصيره في حسابها الدقيق. ويداه ترميان النرد وعيناه تتعلقان به وذهنه يعمل في نور سخن صاف وهما يترامقان بنظرات خاطفة وليس بينهما إلا حساب الطاولة يتتابع ويدور سجالا . وفى داخله حس بالعداوة لهذا الآخر الذي يحمل وجهه بل يحمل نفسه أيضا عداوة وغربة ومقت. وهما يعرفان أحدهما الآخر حتى نبضة الدم في غور الشرايين، لكنهما منفصلان، وجسمه يقف بينهما، حائطا من الحجر لا ثغرة فيه، مغلقا على سره حائطا لن تنفتح فيه فجوة. وحياته تدور من داخل الحيطان حياته بأسرها شيء خاص، لا يهتم به أحد في الخارج، ولا يعنى أحدا، ولا هذا الغريب.

هذا الغريب الذي يعرف ذلك كله، ولا يوليه أي اهتمام بل بارد وقاح يلعب مالكا زمام أمره، فى هدوء من يعرف أن الكلمة الأخيرة له.

وسأله الآخر فجأة:

- إزاى البنت النهاردة؟

فوقفت يده فجأة وبرق فيه عينيه، فى موجدة. كأنه يكايده هذا الآخر ويساتره العداوة. يسأله عن بنته المريضة كمن يتابع أخبارها يوما بيوم، ويسأله بكل هذه اللامبالاة. وأخذت عينه رفوف القهوة وقد رصت عليها الأكواب والفناجين وأوعية الشيشة النظيفة، صفا فوق صف، والصبى يعمل في جد بين مواقد الجاز، بلا تعب، والجرسون يصيح من بعيد واحد مضبوط واتنين سحلب عندك، وعاد يهم بمواصلة اللعب لولا أن شلته المباغتة دفعة واحدة، وأحس الأرض تميد من تحته، والقهوة والناس في مقاعدهم تتألب عليه، كهزة من موج ثقيل، وخسأ بصره بالرغم منه دون أن يتحكم فيه، ثم عاد ينظر، مشدودا إلى النظر بقوة لا تدفع. لم يكد يصدق عينيه. لكنها هناك. لا شك في ذلك. وهو لا يحلم، لا يهذى، بل يرى بعينيه، والناس أيضا يرونها ، دون اهتمام، ثم يعودون لشئونهم، كأنها لا هى بالجديدة عليهم ولا شيء غريبا في الأمر كله. وعاد يختلس نظرة إلى الآخر فإذا هو قد أشعل سيجارة هوليود وأخذ ينفث دخانها وهو ينظر إليه، في هدوء، كان الأمر لا يعنيه، بل لا يعنى أحدا، وهو يقول مشيرا إليها ، في ركن القهوة، تحت صفوف الأكواب والفناجين وأوعية الشيشة المرصوصة، جنب مواقد الجاز بنته على سريرها ، تحت العيون جميعا، مكشوفة في وسط الناس.

- لسة تعبانة برضه معلش بكرة تصحى.

والجرسون يدور من جانبها، يؤدى عمله ولا يكاد يلتفت إليها، وهي عريانة، يلقى إليها بنظرة لا مبالية، وهو يطأ جانبا من ملاءة السرير البيضاء التي تقع من حرف الفراش على بلاط القهوة، كأنها هناك من زمن طويل.

والأمر على ذلك غريب غريب، لا يصدق، جنونى. لكنها هناك. ها هي ذي. ليس هناك تخييل ولا هذيان، وهو صاح كل الصحوة، وكل شيء حوله مجسم ملموس. وباب القهوة مفتوح على الشارع، مفتوح على النور والزحمة والضجة بالخارج، والترام مليء يجرى بالناس والمارة والركاب يستطيعون أن يروها على سريرها. والباعة والعساكر يروحون ويغدون، والبنت على فرشتها تحت الضوء القاسي بين ضبابات الدخان بجسمها النحيل الضيق الطفلي وقد التصقت خصلة من شعرها الخفيف بجبهتها المدورة المنداة من العرق وعيناها تتجهان إليه من عربها التام، في حيرة من الألم والمرض عارية منهوكة ملقاة، ذراعاها ممددتان إلى جانبها، لا حياة فيهما، وساقاها الطفليتان الطويلتان لا شيء يغطيهما ، وقد برزت ركبتاها في جفاف وعضلات فخذيها ضامرة نحيلة، وضلوعها وعظام جنبيها ناتئة واضحة، من الهزال، تحت الجلد الباهت المشدود، وباب القهوة مفتوح مع ذلك على أنوار الشارع والناس مشغولون بلعبهم وتدخينهم وحديثهم، يلغطون ويتثاءبون من ملل قعدتهم الطويلة.

وأحس خدرا في جسمه يشله عن الحركة الناس كلهم يقبلون هذا الأمر ثم يشغلون عنه، فى غير اهتمام. وهو أيضا، بشكل لا يصدق، كأنه يعيش في العالم، ولا يعيش فيه، يقبله، ويسلم به، في غير يقين.

والآخر يرمى النرد، وهو لما يكد يتوقف لحظة واحدة.

واستمرت اللعبة على بعد خطوات من السرير الذي ينصب عليه النور الخشن، وعلى تلك الجثة العارية الحية تحدق إليه بعينيها الوادعتين البريئتين لا استغراب فيهما ولا قلق، بل حيرة من الوجع وتساؤل صابر معلق والآخر تلمع عيناه في ثقة.

لكنه أيضا قد تجمد في نفسه العزم على النصر، وتحجرت إرادته في عناد، وهو يشعر بالخطر يحدق به من كل ناحية، من هذا الوجه الذي يعرفه لكنه نسى اسمه، وهذه القهوة بموائدها التي يستلقى بينها سرير بنته المريضة كان البنت بشكل غير واضح، غير واضح أبدًا ، موضوع لعبته الليلة، الأمر يتعلق بها بشكل أو آخر.

واندلعت في نفسه شهوة لأن يحيط هذا الصدر الضيق الناحل، صدر بنته الطفلي لما تكاد تنبثق في حلمتيه الصغيرتين عصارة المراهقة الخام، يحيطه بذراعيه ويدفن رأسه فيه، كان فيها شيئا من امرأته التي تركها بالبيت من زمن طويل، وأن يرتمى عليها فيخفيها عن هذا العالم في عتمة حبه لها ، أن يهب لهذا الجسم العارى المريض صحته وقوته، وحياته كلها ، أن يكفر، نعم يفكر بكل ماء حياته عن ذنبه الذي لا يعرفه الآن، ولا وقت لديه يفكر فيه، ولكنه مسئول بشكل ما عن مرضها وانكشافها للضوء الصلب الجاف الذي يسقط عليها بكل ثقله فيطوها وينوء بها، ويشلها. وتلج به رغبته أن يستغفرها ، بنته أن يبكى على حرف سريرها، على طرف قدميها الصغيرتين البارزة عظامهما في نحول رقيق، وأن يبرها ويعوضها ، بل يضحى بنفسه من أجلها ، نعم يضحى بنفسه، فهذا هو المطلوب منه. لا أكثر ولا أقل. حتى تأنس من هذه الحيرة التي تطل من عينيها، حتى تستريح، وتتغطى، وتبتسم.

لكن الناس ينظرون إليها كما لو كانت شيئا قد الفوا رؤيته ويستمرون في شأنهم. وهو يشعر بما يقهره على استئناف لعبته، فها هو الآخر ينتظره ويلعب معه كان الأمر كله غير مسل على الإطلاق، فليس هناك نصر ولا غلبة واللعبة دائرة.

وكان الليل هادئا وهو يرجع إلى البيت، والنجوم ترمقه من بين سطوح المنازل، والحيطان ترتفع على جانبيه، صامتة في كبر، والأنوار قد انطفأت في النوافذ، والأحجار مقفلة على الحيوات التي تنبض تنعس وتمور خلفها ، مسدودة، مصمتة والتعب يتفتر بجسمه، ولا هدنة هناك، وإنما هو الشوق ينزع به إلى الدفء يتلمسه من جسم امرأته في الليل، حتى الصباح، وقد عاد لا يدفعه إلا الرهق، حتى يأوى إلى قطعة من الأرض ألفها، ويؤوب إلى حضن أنثاه، ينشد ليلة راحة، حتى الصباح.


(*) نشرت في مجموعة (حيطان عالية) ، مطبعة أطلس، القاهرة، ١٩٥٦. إدوار الخراط (من مواليد (۱۹۲٦)، من أعماله القصصية: حيطان عالية) اختناقات العشق والصباح)، (إسكندريتي)، (كولاج).

القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009

بانوراما القصة القصيرة المصرية 
خيري شلبي..



Post a Comment

أحدث أقدم