الشجرة والعصافير


قصة: إبراهيم عبد المجيد

1

لا يزال اليوم الأول فى عينى "سالم". الشمس تحتوى السماء الفضاء الواسع ضيقه الجفاف الأرض أجدبها الحسك والملاحظ قال له أن لا يتحرك من هنا. فعليه تزويد القطارات بالمياه من "الغراب". 
لم يعرف، ولا يزال، لماذا أسموا هذا الجهاز بالغراب ماسورة واسعة ترتفع عمودية لثلاثة أمتار فوق خزان تحت الأرض، تنحنى عند النهاية المسافة متر لتتصل بخرطوم من المشمع يتدلى طويلاً إلى أسفل. يأتي القطار يقف بجوار "الغراب" فيدخل "العطشجى طرف الخرطوم في خزان مياهه، بينما يفتح سالم الصمام المركب فوق الماسورة لتندفع المياه من الخزان الأرضى، لكن القطارات كانت لا تزيد عن اثنين وثلاثة في كل يوم. لا يتكرر حضورها أبدا ، ولا يتكرر حضور أى سائق أو عطشجى أتى من قبل حتى قطار المياه الأسبوعي والذي ينقل المياه إلى الخزان الأرضى، كان يأتى دائما مختلفا وبسائق وعطشجى مختلفين. وتحت السقيفة الهزيلة المكونة من ثلاثة ألواح من الخشب.


يتساءل سالم ويفكر لماذا لا يبادله "حسان الحديث؟ إنهما ينتصفان اليوم يعمل كل منهما نهارا أو ليلا شهرا ثم يتبادلان ذلك، لكن حسان متجهم لا يلقى أو يرد تحية في الصباح أو المساء.

أدرك سالم أن الأيام ستمضى لا معنى لها فغرس شجرة كبرت فرأى معنى السنين، لكن ظل كل شيء حوله كما هو الحسك لا يرتفع أو يختفي الغراب يركبه الصدأ ولا يتزعزع طريقا القطارات على جانبي الغراب يمتدان ساكنين إلى الأفقين السور البعيد الذي يفصل المنطقة عن المدينة لا يتهدم الملاحظ اختفى ولا أحد يأتى ليتابع العمل. وسالم يعرف أن الدنيا أوسع ما حوله إن القطارات لا بد تذهب إلى القرى والمدن البعيدة، إن عمله هام فالقطارات بلا ماء تحترق، وكان ما يدهشه حقا هو أن الشجرة التي صارت وريفة لم تجلب العصافير الفضاء حوله واسع، وربما لا يوجد عصفور يستطيع الطيران هذه المسافة كلها، لكن ما معنى شجرة بلا عصافير أو أعشاش؟

وفي صباح خريفى وجد الشجرة مقطوعة من أسفل جذعها وساقطة فوق الأرض، وقد تهشمت، والتوت معظم أغصانها انحدر قلبه ليسقط بين القضبان ويدوسه قطار ثقيل. ولأنه لم يجد حسان في انتظاره لم يشك في أنه قد فعلها.

كانت الشجرة رغم أى شيء واحدة خضراء في فضاء بليد. زهت كثيرا في عينيه حين كانت تسقط فوقها أشعة الشمس وندى الصباح، رطب ظلها لحمه وعظامه، وكم ساعدته على احتمال النظر إلى "الغراب" الموحش. ولم يشا أن يطول حزنه غرس غصنًا من أغصانها . أقام من أفرعها الباقية كوما ليتخلص من السقيفة المضحكة، وكان يوما عامرًا بالعمل. أنت قطارات كثيرة سوداء تحمل معدات عسكرية ضخمة. حين سأل سائقاً مترددا ماذا جرى؟"، أجابه بكلمة واحدة "الحرب"، وأتى حسان في المساء باسما :

- لماذا قطعت الشجرة؟
- لا أحب العصافير.
- لكن العصافير لم تأت.

مكذا قال سالم الذي سرعان ما دهش الإجابة زميله ولنفسه أكثر

وما يدريك؟ قال حسان بلا مبالاة أراك غرست شجرة جديدة.

قال سالم في عزم وثبات:

- إذا قطعتها قطعتك، وهذا الكوخ لا تدخله.

كان حسان أقوى من سالم وبارد الأعصاب قال:

- حتى برغم السنوات الخمس التي مضت على صداقتنا.

انصرف سالم فى ضيق. كيف مضت سنوات خمس بسرعة هكذا ؟!

2

في غرفته الصغيرة فوق البيت المنخفض فكر سالم في أنه لم تقم علاقة بينه وبين أحد من السكان وكان قد استيقظ منذ عام على ضجة هائلة. رأى بلدوزرات وعربات وعمالاً يهدمون البيوت، وسكان المنطقة يحملون متاعهم، ويركبون مركبات اصطفت في طابور طويل عرف أنه سيتم نقلهم إلى الطرف الآخر من المدينة. وأنه سيقام محل البيوت القديمة مصنع كبير للنزل. لكن أحدا لم يهدم البيت الذي يسكن فوقه، ظل وحيدا وسط الأطلال التي سرعان ما اختفت اشتراها تجار بالنهار وسرقها لصوص بالليل. ولأن العمل يجرى بالمصنع فلم ينقطع الضجيج بالليل والنهار واستيقظ مرة أخرى فوجد المصنع قد أحيط بسور عال جعل البيت خلفه. لم يعد ممكنا للسكان، ولا له، أن يروا غير السور. لم يعد ممكنا أن يراهم أحد . ومنذ أيام فكر سالم أن يهجر العمل الذي يسرق الشهور والأيام، لكنه لاحظ في عودته أن حجرات البيت صارت مغلقة بأقفال غليظة والليلة يفكر أن ينتقل ليعيش في مكان آخر قرر أن يعيش بجوار الشجرة والغراب والعصافير لقد كبرت الشجرة الثانية، وأقبلت العصافير الكثيرة تقف فوق الغراب. جلب سالم أخشابا، وجعل الكوخ أكثر اتساعا وقوة. لاحظ أن حسان يقيم كونًا أيضا. نقل أثاثه القليل إلى الكوخ فعل حسان مثله. قال سالم في نفسه قد يؤدى هذا إلى صداقة حقيقية. لم يقدم حسان أكثر من تحية في الصباح والمساء. صار كل منهما يمضى نصف اليوم في العمل، والنصف الثاني داخل كوخه. قرر سالم أن يسقط "حسان" من الحساب، وإذا قطع الشجرة يقطعه بالفعل كما هدده يوما. وانصرف للعصافير التي تأتي الآن كل يوم. إنه يغرق لها الأرض بالمياه، تشرب، تتقافز ، تتقلب، ترقص.

لكنها لا تقف فوق الشجرة تقف فقط فوق الغراب. اشترى لها حبوبا من المدينة نثرها فوق الأرض. تلتقطها وتصوصو وتزهو . جرب أن يروضها يشير إليها أن تصعد إلى الغراب فتصعد. تهبط واحدة إثر أخرى فتفعل. تتصرف واحدة فأخرى فتمتثل. يفتح لها كفيه فتقف عليهما متواترة وصار بعضها يقف فوق كتفيه ورأسه، وفى المساء قبل أن يخرج حسان من كوخه تتصرف، لم يخش سالم عليها من حسان فهو - سالم - حين يعمل ليلاً لا تجيء بالنهار، لكنها أيضا لم تكن تأتى إلى سالم بالليل. كان يحلم بها وهو يقظ، وأيضا في النوم وحدثته كثيرا فقالت إن "حسان" يمضى نصف الليل الأول يلملم ما تبقى من حبوب على الأرض ويأكله. يمضى نصف الليل الثاني يهز الشجرة لتسقط الأعشاش. وتضحك العصافير لأنه لا توجد أعشاش بالشجرة. ويتعذب سالم لأنه فشل في أن يجعلها تعشش فوق الشجرة أو تقف فوق أغصانها، وتكبر الشجرة في عينيه حتى تملأ الفضاء الواسع، ثم تعود تنكمش حتى تصبح عوداً جافا هشا، وصوت العصافير يدغدغه فيضحك ويتقلب في الفراش وكثيرا ما فكر سالم أن أحدًا من السائقين أو العطشجية لم يندهش له حين يراه يعمل والعصافير فوق كتفيه ورأسه أدرك أن القطارات صارت قليلة جدا. ربما يمر الأسبوع ولا يأتي غير قطارين أو ثلاثة. وحين رأى قطارات خضراء كثيرة تمر دون أن تقف لتتزود بالمياه، ولا تنفث دخانا مثل القطارات السوداء، قال في نفسه إنهم لا بد يتخلون عنه، لكن الملاحظ ظهر قادما من بعيد فبدا طوق نجاة. كان يعرج في مشيته. وحين اقترب رأى سالم وجهه متغضنا وشعر رأسه الأبيض لا يخفيه "البيريه" الأسود.

-أخيرا عدت يا سيدي.

-تلفت الملاحظ حوله.

-هل صرت تعيش هنا؟

-أجل.

-الا تذهب إلى المدينة؟

-تغيرت المدينة كثيرا.

لم يشعر سالم أن ذلك يعنيه في شيء. كانت العصافير تنتقل من كتف إلى الأخرى ومن رأسه إلى أعلى الغراب، ولا تبدو دهشة على وجه الملاحظ الذي استطرد مبتسما :

- هدم مصنع الغزل وبيتك القديم. أقيمت مكانهما عمارات وفنادق جديدة.

لا بد أن سنين كثيرة قد مرت حقاً . هكذا فكر سالم بينما ساله الملاحظ:
- اين حسان؟
- لعله نائم في كوخه.
- أما يزال يقطع الأشجار ؟
- هذا الشيطان يعرف كل شيء".

- لقد صار العمل قليلاً. أعرف ذلك. القطارات الخضراء لا تعمل بالفحم ولا تحتاج إلى ماء كثير لكن لا تقلق ولا تبرح المكان حتى أعود إليك.
- متي أو سيدي؟

قال سالم ذلك وهو يشعر بنفسه وقد صار صغيرا جدا ، وبأنه يسأل شيئا بعيداً بعيدا جدا لا يراه.

- ربما بعد عشر سنوات أخرى أو أكثر. ربما غدًا. لا تقلق.

ومد الملاحظ يده فأمسك عصفورا من فوق كتف سالم اليمني ليضعه على الكتف اليسرى وانصرف تاركا سالم وحده في الفضاء. حين اختفى من المنطقة كانت العصافير قد صارت جميعها تقف فوق الغراب. نزلت إحداها لتشرب فصرخ فيها سالم ذعرت. فتح لها كفه فطارت إليها. قال في ضيق:
- مضى وقت طويل أعلمكم فيه المحبة؟
- .......................
‏- لماذا تنزلين دون إشارتي؟
- ........................
- اشربي.

لكن العصفورة لم تشرب طارت وخلفها العصافير انتشرت في الفضاء فأحس سالم أن للكون جانبين ظالمين يطبقان عليه توقف القطار العجوز الأسود، الذي ينفث الدخان الكثيف الأبيض، ليتزود بالمياه

حين انتهت أول حرب اختفى كثير من السائقين والعشطجية صغار السن. اخبره سائق عجوز أن كثيرا منهم استدعوا إلى الحرب وأنهم ماتوا في الصحراء تحت القنابل أو تاهوا في الرمال، أو قتلهم البدو، وأخذوا سلاحهم والماء.

كان القطار الأسود يجر عرباته محملة بالعتاد العسكري الثقيل مرت بعده قطارات خضراء كثيرة تحمل عتادًا عسكريا ولا تقف. كانت هناك حرب أخرى.

3

حين رأى سالم حسان واقفا والفاس بين يديه، وشرر يطل من عينيه لاحظ اهتزاز ساقيه صار حسان هرما. قرر سالم أن يهاجمه. لقد ظل معظم ليل أمس يسمع صوت ضربات قوية ظنها الريح تطير القضبان القطارات السوداء العجوز تضرب الأرض الخضراء الفتية.. وكعادته منذ طارت العصافير كان يسمع صوت العصفورة التي نهرها وهى تقول إنه لا يمكن لأحد أن يقاوم العطش، وأن الطيور تنسى كل شيء في الفضاء الواسع. لم يخطر بذهنه أن حسان يقطع الشجرة. لكنه وجد ساقيه أكثر اهتزازا اتجه إلى الشجرة محزونا وجعل ينزع أوراقها الكثيفة، قال حسان:
- ماذا تفعل؟
- أريد الفروع نجففها ونشعلها بالليل.

كان القضاء حولهما أوسع من الأرض الأرض أوسع من السماء أحس كلاهما أنه لا بأس أن تكون السماء أرضًا، والأرض سماء، فليس بالكون أحد. لكن حسان قطع غصنا قدمه إلى سالم.

- قم واغرسه حتى يصير شجرة.

- لماذا قطعت الشجرة الثانية؟

قال حسان مبتسما :

- إنها الخامسة وأنت تنسى.

كان وجه الأرض أشد قتامة من اليوم الأول. ارتفعت أشجار الشوك وتضخمت. باتت القضبان خارجة عن أماكنها في أكثر من موقع. بدا الغراب الذي ينحنى عند الهامة، ويتدلى منه خرطوم أجرب مهترئ، مثل "مقاتل قديم يلقى السلاح". تناول سالم الغصن وغرسه وبالليل قال:

- هذا شتاء لا يرحم.

كان حسان ينفخ فى النار الموقدة. لقد نقل متاعه إلى كوخ سالم وصارا يعيشان معا. وحين أفزعهما صوت ارتطام قوى قال حسان:

- لقط سقط الغراب. تآكلت الماسورة، وانكسرت.

وحين انتهت الحرب الثانية اختفت القطارات السوداء تماما. لاحظ سالم أن الثقوب انتشرت في ماسورة الغراب، وكان حين يفتح الصمام ليشرب أو يغتسل تخرج المياه من الثقوب مثل النافورة، وصار قطار المياه الأسبوعي يأتي كل شهر ليملأ الخزان الأرضي، ثم اختفى بدوره حفر سالم بشرا لنفسه ليشرب منها، حفر حسان لنفسه بترا أخرى. الآن يشربان من بئر واحدة.

شرد سالم وفكر فى اليوم الأول. ترى كم يكون عمره الآن؟ فاجأه

حسان قائلاً:

- ألا تود العودة إلى المدينة ؟ لقد تغيرت كثيرا

أجاب سالم:

- قال الملاحظ ذلك منذ زمن.

قال حسان:

- لقد هدموا العمارات وأعادوا بناء مصنع الغزل.

جذب سالم أسمالاً قديمة وضعها خلف ظهره، فكر (كانما كان المقصود فقط هدم بيتى القديم) قال حسان:

- إنهم يتحدثون عن حرب أخرى.

لم يعلق سالم، قال:

- هل ستقطع الشجرة الجديدة؟

كان ما يزال يحلم بالعصافير لقد سقط الغراب، وربما إذا عادت تقف فوق الشجرة، لكن الرياح كانت تصفر في الخارج. صوت الرعد يتعاقب كأنه جبل يسقط من فوق جبل البرق يتسلل ليملأ الكوخ بالرهبة. ووضع حسان براد الشاي فوق النار وهو يقول:

- لدينا حطب يكفينا عاما آخر، ولا يجب أن نموت بردا بأي حال.

1) إبراهيم عبد المجيد : من مواليد ١٩٤٦ ، من مجموعاته القصصية: (مشاهد صغيرة حول سور كبير)، وزارة الثقافة ۱۹۸۲ ، الشجرة والعصافير)، هيئة الكتاب مختارات فصول ۱۹۸۵ ، إغلاق النوافذ)، هيئة الكتاب مختارات فصول ۱۹۹۲ ، (فضاءات)، سلسلة أصوات الثقافة الجماهيرية ، ۱۹۹۲، (سفن قديمة) دار ميريت للنشر، ۲۰۰۱ ، ليلة أنجيلا)، مكتبة الأسرة ۲۰۰۳

القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009


Post a Comment

أحدث أقدم