جروح مفتعلة (*)
قصة: أسماء شهاب الدين
رغم اتساع ثقب الأوزون، لم تهبط الملائكة أرضه أبدا، ولم ينبن فيها حتى ينكسر، والبنت الصغيرة التي استخدم رحمها غذاء وكساء وسكنى لها، تحمل ملامحه هو، وتنشر ذرات كيانه في طقوس اليوم وإن هربت من وجهه إلى صفحات الكتب، وجروح المتشاحنين، وبعض الجرائم الصغيرة. والآن أصبحت أناها التي لم تكتمل برجولة رجل، أرحب ما في داخله.
بداية كان عليه أن يظفر ببنت الواحد والعشرين ذات الخصوبة الأعلى والتجارب العاطفية الأقل، والتي اختنقت بالأبوة والأخوة والصداقة واحتشدت بالتفوق والحسن....
عند هذه النقطة يحتضر هذا المنولوج الداخلى اليومى كل مرة. فردت كريم الأساس تحت عينيها بحذر. مساحات الأبيض الاصطناعي تفتقر لروح البياض وربما لونه أيضا فما زالت زرقة الكدمة تطل من خلف ذرات الكريم. تجاهد لتحريك عنقها لتحصل على بروفيل جانبي في المرآة، فيبرز ما تحت عينيها متورما . تغلق علبة (التواليت) وتستند برأسها إلى حافتها. تنتفض الطرقات على الباب. تعتدل في جلستها أمام المرآة. تتذكر أنه لا يحتاج إلى اختبار أدبه معها بهذه الطريقة ينفتح الباب، تركض ابنتها نحوها ، تقبلها على خدها.
تنشغل عيناها بفحص كمية الكريم على شفتى البنت، تقول لها البنت بصوت خفيض:
- بابا بيقول لك ما تتأخريش.
فتحت علبة (التواليت) مرة أخرى وهي تغمغم:
- حاضر .
اندفعت البنت إلى الخارج ثم أغلقت باب الحجرة سمحت للضيق أن يلتمع في عينيها. شعرت بأنه والبنت دون أن تدرى . وعلبة التواليت) جميعهم يتآمرون ضدها. لم يتبق لديها الكثير من الوقت امتدت يدها إلى البودرة كي تكمل طقوس التنكر المعتادة .
دائما تنبذر الدهشة فى ملامح رئيس قسم الطب الشرعي والسموم حين تعلن عن رغبتها المتكررة في تطبيق النوبتجيات الليلية. كان مطلبا غامضا لامرأة تحشر في بنصر يدها اليسرى دبلة ذهبية، ولها طفلة في عمر ما قبل المدرسة يؤثر الصمت فى مواجهة صمتها . أما بالنسبة لممرضات وممرضى القسم كاد الأمر أن يكون واضحا ... كدمات وجهها التي تتفنن في تهذيب نزقها ، بعض الإجازات المرضية من وقت لآخر، وتقليص مساحة المقربين حولها إلى ما يقترب من الصفر. كانت تناجياتهم حال ظهورها تثقب ظهرها وتدفعها للاختباء. لكنهم حين حضر زوجها المهندس ليصطحبها ذات مرة لرعاية ابنتهما التي كانت تعانى تشنجات ارتفاع الحرارة وصفوه بـ " ابن الناس وتخلخلت معتقداتهم ولم يبق من قصتها التي حاول أن يكتبها الكثيرون غير هالات الغموض وتوتر القولان .
كان يوما من تلك الأيام التي يطلقون عليها الـ cold days والتي تقل فيها حالات الطوارئ وتستقر الأمور بعض الشيء. فكرت أن تمر بالطبيب النفسي الممارسة فعل تجاذب أطراف الحديث، أى حديث هذا الطبيب الذي رشحته لزوجها في لحظة صفو زائفة فانتهى الأمر به إلى أن أصبح طبيبها. قتلت فكرتها حين نبتت في رأسها احتمالية أن يهديها الزوج اتصالاً تليفونيا بوليسيا بالمستشفى. اشترت بعض المجلات النسائية لتستعين بها على الليل.
ألقت سلامًا غير متحمس على طاقم التمريض الرابض في العنبر. جلست معهم، صمتوا تماما ، تناولت التليفون، هاتفت المنزل للاطمئنان على البنت. اخترقت أذنها كلمة (آلو) التي نطقها بانفعال. صمتت تماما، سمعت قهقهة رجالية عالية. سارعت بوضع السماعة وهرولت إلى غرفتها. خيل لها أنها ذات القهقهة التي رجتها منذ زمن ... سلوى المدعوة بالصديقة الوحيدة التي كانت تخفض جناحيها لها ولا تمل من الاستماع إلى محادثتها التليفونية الطويلة التي قوامها الشكوى والشكوى. استدرجتها لفضفضة أعمق وداست أقدامهما الجرح. صاحت فيها سلوى مباشرة
- اغتصبك؟
لم ترد. قذفها سلك التليفون بقهقهة رجالية. كان زوج سلوى يستمع إليهما عبر سماعة تليفون الغرفة المجاورة.
أحكمت إغلاق الباب والشبابيك. اكتشفت أنها قد نسيت مجلاتها على الطاولة هناك. لم تستطع العودة من أجلها. فتحت الراديو الذي يستقر بجانبها ، ضحكة طويلة لإحدى المذيعات وموسيقى لا تطلق فيها أية رفرفة، استلقت على السرير ....
ضغط جسده بقوة على جسدها. اختناق. كممها بكفيه. تحركت يداها في اللا اتجاه رفع ساقيها. صرخت ثانية صفعها، فقدت عضلاتها تصلبها وسالت دموعها ساخنة.
انتفضت فجأة للطرقات على الباب. أغلقت الراديو، وقامت للباب تفتحه وهي تستعيد إدراكها للمكان والزمان وتلتقط أنفاسها ، تقول الممرضة:
- حالة يا دكتورة.
رطبت وجهها ويديها بالماء البارد. اتجهت إلى العنبر.
امرأتان سمينتان ترتديان جلابيب سوداء. تربت إحداهما على كتف الأخرى. جلست قبالتهما. مدت الممرضة يدها إليها بالتقرير الطبي الابتدائي. كانت إحداهما تبكي وتتمخط في كم جلبابها. سألتها:
- حصل إيه؟
سارعت المرأة الأخرى بالصياح:
- ضربها يا دكتورة و...
أشارت لها أن تصمت ثم التفتت إلى المرأة الباكية. قالت:
- منه الله. الـ.... ابن الـ ... الـ... الـ ....
من بين كلمات الحكاية التى قصتها على مسامعها المرأة وجارتها، اقتلعت معنى واحدًا .. اعتداء متكرر من زوج على زوجته غالبا ، بقصد استحلاب أموالها أو إجبارها على معاشرته أمام أبنائها أو بدون سبب واضح. بدأت بفحص رأسها خدش مستعرض بالوجه في الجهة اليمنى طوله حوالى 1 سم ويبعد عن الخط المنصف للوجه حوالى ٤ سم وعن زاوية العين اليمنى حوالي 2 سم. مدت يديها لذراعها الأيمن جرح مغزلى الشكل بالجهة الأمامية من الذراع طوله حوالى ٢.٥ سم والمسافة بين حافتيه حوالى اسم. ينصف تقريبا المسافة بين مفصلي الرسغ والمرفق منتظم الحافة. حاد الزاوية. نظيف القاعدة وغير مصحوب بكبار، ومن الواضح أنه تسبب عن آلة صلبة حادة كما قالت المرأة فعلاً، ولكن التمزق في كم الجلابية لا ينطبق على جرحها القطعي طلبت منها ان ترفع ملابسها. شاهدت كدمة طولية يتشارك فيها اللونان الأخضر والأصفر، نقرت على ظهر المرأة وسألتها :
- من إمتى دى؟
- عشرة أيام ولا حاجة.
كانت الجروح سطحية بالجهة اليمنى أى فى متناول يد جارتها. وحديثة أيضاً، ربما مرت عليها ساعتان أو أقل قليلاً. لقد كذبت بشأن زمن الاعتداء عليها ... جروح مفتعلة، أما الكدمة في ظهرها والتي تسببت عن خيزرانة غليظة فيرجع تاريخها إلى خمسة عشر يوما أو أقل قليلاً كما قالت!
اصطحبتها وحدها إلى حجرة مجاورة. سألتها مباشرة عن الدافع وراء هذه التمثيلية. كانت خائفة. ربتت على كتفها واستحثتها على الكلام. قالت لها إنها قد اكتشفت اليوم فقط سرقة زوجها لما تبقى من مصاغها ليقدمه العروسه الجديدة. قالت أيضًا إنه يضربها باستمرار ومن يمنعها دوماً من تحرير محضر له هو ابنهما الذي أصبح مجندا الآن.
استشعرت صدق المرأة أو أرادت ذلك ربما . ربتت على كتفها مرة أخرى. خرجت أخذت تحرر التقرير في ظل مخاوف المرأة:
بمعرفتي أنا الطبيب ..................
..................................................
.................................................
المدة اللازمة للعلاج؛ أقل من عشرين ٢٠ يوما ما لم تحدث مضاعفات أخرى.
ثم وقعت التقرير بحيوية.
(*) من مجموعة (ربما كالآخرين، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ۲۰۰۳، وللكاتبة أيضا مجموعة المرأة الأولى).
القصة منشورة في المجلس الأعلى للثقافة - لجنة القصة - من المجلد الأول " من عيون القصة المصرية " مختارات قصصية، إعداد وتحرير حسين حمودة، وتقديم خيري شلبي، طبعة خاصة بمناسبة انعقاد مؤتمر القصة الأول للقصة القصيرة، مج ١، 2009
بانوراما القصة القصيرة المصرية
خيري شلبي..
إرسال تعليق