\\\
دانيـــــــــال
قصة من أيام هند لسيد الوكيل
كان الواحد منا لا يكاد يبين من الأرض، وكان
هو يمشي بيننا طويلاً، كديك شركسي برقبته المدودة للأمام، وعينيه الجاحظتين، وأنف
يشبه منقار ببغاء.
في
حصة الألعاب نتسابق لضمه إلى فريق السلة، نرجوه:
- العب معانا يا خواجا.
وإذا
غضبنا عليه نتوعده: طيب يا شركسي الكلب.
ولا أحد منا يقول له يا دانيال، ولا يغضبه ما
نناديه به من أسماء ساخرة. فقط يرمح على مساحة الرمل المستطيلة، ولا نكسب فريق
الشياطين الحمر من غيره.
انقطع نسيج الذكريات لما نهنهت (تريز عوض)
بجواري، كان صوتها غائرًا وضعيفًا، والحروف مفتتة بين النهنات:
- هو أخويا، وراجلي، وابني. بعد موت عمك عوض، ماليش حد في الدنيا غيره.
دسّتْ منديلها في الحقيبة المنتفخة، بعد أن
مسحت دموعها، ثم عدلت وضع تُرمُس الشاي، عندئذ لاحظتُ، أنها لا تضع خاتم زواج في
يدها:
تأخرنا على ميعاد الزيارة.
منقادا للتداعيات كنت أمشي بجوارها، تداعيات
للبعيد أكثر. حين كنا نراه في البالكونة، طفلاً يحشر رأسه الدقيق بين أسياخها
الحديدية، ويتابع لعبنا في الشارع، تصايحنا وتعاركنا. ينفعل ويتجاوب في صمت من
بعيد، يبتسم إذا وقع أحدنا، أو أحرز هدفًا في فريق الشارع الآخر. رويدًا رويدًا..
يجيب الواحد منا إذا سأله:
ـ جون ولا لأ يا كابتن.
ورويدًا رويدًا، صار يقاسمنا كل شيء.
قلت: هو في المستشفي من امتى يا تريز؟
قالت: هو رجع من كندا تعبان، وتعب أكتر بعد
موت ماما الله يقدس روحها.
ـ كندا!! ايه حكاية كندا دي؟
موت عوض افندي كان مفاجئًا لنا، مات على
السلم ـ حاملاً دراجته الرالي على كتفيه ـ قبيل درجات من باب شقته مات. لما ساءت أحوال الأسرة، رأت الست نانا أن
السكن في شبرا أوفَرَ من السكن في العباسية.
ياااه.. لماذا التقي بك اليوم يا تريز لأتذكر كل
هذا؟ قبلات ودموع الجارات، تريز الجميلة بفستانها القصير، كاميون العزال يسير
بطيئًا حتى شارع الخليفة المأمون، دانيال رابض فوق المراتب والمخدات، يضحك، ويرد
هجماتنا، ومشاكساتنا بزعافة طويلة، وحين يعدل الكاميون نفسه على أول أسفلت الشارع،
يسرع، فنجري وراءه، ولا نلحق به، فنلوح له من بعيد، تزداد المسافة بيننا وبين
الكاميون:
مع السلامة يا خواجه.. ابقى تعإلى يا ولا.
يجئ إلى العباسية على فترات متباعدة، زيارات
قصيرة، لكنه أبدًا لم يدعنا لزيارته في بيتهم الجديد بشبرا ولا مرة. وفي مدى
الأيام نكبر، وتكبر المسافات بيننا.
آخر مرة قابلت أحمد عبد اللطيف قال: دانيال
أخد ماجستير في ديناميكا الموائع. طول عمره شاطر.. بس يا خسارة.
لم أعرف ما هي الخسارة، كان الأتوبيس قد جاء
فودعني بسرعة، وفوق السلم راح يلوح بموعد للتلاقي، ولم يذكر المكان.
فعلاً، طول عمره شاطر، من أول يوم دراسي قال
له الأستاذ: أنت تقعد في الآخر يا طويل يا أهبل، فجلس. وأنا من الذين جلسوا في
الأمام.
في
حصص الإنجليزي والعلوم والرياضة نجلس في الآخر بجواره، يسألنا المدرس فتتسابق
أيدينا، من تحت لتحت تلكزه، وتشده. ورؤوسنا غاطسة في الدكة، ورأسه عاليًا
كالسيمافور، يتلفت حوله فينهره المدرس: اسكت انت يا طويل يا أهبل.
ولكنه لا يضربه، كان يعرف مكرنا، ويعرف أنه
أشطرنا.
أقسمتُ لتريزا أن أحدًا لن يدفع ثمن تذكرتي
المستشفي غيري. ارتاحت لذلك وقالت: وانت ذنبك ايه؟
مشيتُ وراءها في الممر الرملي الطويل، حتى أول
العنابر التي تشبه بيت الفيل في حديقة الحيوان، لولا سور الحجارة العالي وشظايا
الزجاج المشرعة أعلاه. على الباب لافتة باهتة تؤكد أنها مستشفي العباسية للأمراض
العقلية والنفسية.
عندما رأوها راحوا يهرولون إليها بلهفة جراء
جائعة، فتفرق عليهم السجائر، وتصب لهم الشاي في أكواب البلاستيك التي تخرجها من
حقيبتها. يفرون بغنائمهم خلف العنابر، أو تحت الأشجار، بعيدًا عن بعضهم، وعن عيون
الحرس، والتومرجية.
قلت
لها: كلهم عارفينك هنا يا تريز.
قالت: غلابى والنبي... ما لهمش حد يسأل
عليهم.
التجاعيد تحت عينيها تشعرني بامتداد الزمن،
الصفاء الأزرق المغدق بالحنان يكسر هاجس الرغبة القديمة في عيني، الجسد ببكارته لم
يزل، مغلف بنعومة بيضاء نقية، لم يمسسها بشر.
من بعيد، لم أخطئ الرقبة الطويلة، والأنف
المنقار، والعينين رغم العدسات الداكنة والشروخ فيها، والصلع الموروث عن عوض
أفندي، أصبح دانيال نسخة منه، فيما احتفظت تريز بجمال أرهقه الزمن.
بدا لي مثل طائر أسطوري في نحوله الزائد
والشعر المهوش في وجهه.
قالتْ تريز: ده صاحبك مصطفي، فاكره؟ مصطفي.. بتاع العباسية.
لم يرفع عينيه عن صحن الألمونيوم الذي بين
يديه، وثمالة الماء المالح في قعره، كان يغمس قطعة الخبز فينتفش في الماء، ويزقها
في حلقه، يلوكها ببطء، يبتلعها كثعبان، فتتحرك تفاحة آدم في طول الرقبة.
قلتُ: فاكر يا دنيال ؟ أيام مدرسة اسماعيل
القباني؟
يفيض الحنان في عينيها، فتمد يدها بخبيزة
أخرى، صغيرة في حجم الكف:
- خد يا دانيال.. القربان اللي بتحبه، أبونا
مصلي عليه.
تطلعتْ إليّ بحزن عينيها:
ـ كل مرة على دي الحال.. الأكل ميه وملح..
ولا يفتكر حد.
وتتفجر النهنات من جديد، محاولات كبتها تزيد
ارتجافة العود اللين، ورجرجة الصدر تحت الشال الكحلي.. إحساس مر يملؤني كما لو كنت
مسئولاً عما يحدث في الكون، ورغبة في أن أضمها، وأمسّْد شعرها.
كان
أحد المرضى يقترب، ويشيع بصوته الرخو الغليظ مزيدًا من الثقل، وثمة ألفة من نوع
ما، رغم كل شيء. قال:
ـ ما تزعليش يا مدام.. أنا بخلّي بالي منه.
ثم يلتفت إلى دانيال الذي كان مهمومًا بالبحث
عن شيء ما تحت إبطه:
ـ مش كده يا خواجا؟
فيهز دانيال رأسه كدمية مفصلية لحيوان، فيما
يحمر وجه تريز، وتطفح شفتاها بابتسامة باهتة في لون طلاء العنبر، وتداري انفعالاً
بدا إثر كلمة (مدام).
ـ لما تيجي له الحالة يرطن بالإنجليزي،
فطلّعوا عليه: الخواجا.
ابتسمت وأنا أتذكر أننا كنا نناديه بنفس
الاسم. ولكنه كان سعيدًا به. ترى.. ماذا حدث له في كندا؟!
اختفي المريض وراء سور الجزورينا سريعًا كما
ظهر، قابضًا على كوب الشاي بفرح طفولي، واضعًا السيجارة خلف أذنه. وتريز كانت
تتكلم عن حالات الهياج التي تنتاب دانيال، واللسان الذي ينزف من قسوة العض عليه،
فيما كانت شمس فبراير تغلف كل شيء برخاوة لم تنجح تريز في تبديدها.
كانت
تحاول سرد حكايات قديمة، وتتكلم عن شخصيات لم نعد نعرف عنها شيئًا، أو تتكلم عن
المرضى الذين مازالوا يتوافدون إليها طمعًا في سيجارة أو كوب شاي:
ـ كتير منهم عاقل، ولا تعرف ايه اللي جابهم
هنا.
بدا أن دانيال نجح في التخلص من الذي تحت
إبطه، وأسلم شفتيه بشهوة لفلتر سيجارته، يمتصها حتى آخرها، ثم يتمدد بطوله على
سلمة العنبر محملقًا فيما لا أدري ماذا؟ فليس من شيء سوى أشجار الكافور الترابية،
وسكونها القاسي، وسور الأحجار تلمع على حوافه انكسارات أشعة الشمس، وتتفتت على
أنصال شظايا الزجاج. وفيما كنا نتأهب لمغادرة المكان التفتُ إليه بنظرة أخيرة،
ومحاولة لتبديد الكآبة، قلت:
- مع السلامة يا خواجا. وابتسمت، فطافت على
شفتيه ابتسامة تذكرني بتلك التي تكون لحظة أن يسقط كرته في سلة فريق الشياطين
الحمر.
إرسال تعليق