سبابتها (*)

قصة: فكرية شحرة

 

ما زالت سبابتها اللعينة تشير إلي؛ تصوبها نحوي أكثر مما مضي؛ تطلقها من بعيد كرصاصة يخرس ضجيجها كاتمٌ للصوت.. أستيقظ أحيانًا من النوم وكأنها في الرؤيا تغرزها في عيني حتى أستيقظ. كل هذه السنوات وما زلت أشعر حين أسير في الزقاق الفاصل بين منزلنا ومنزلهم بإصبعها يمتد طويلا حتى يصل إلى مؤخرة رقبتي عبر نافذتها..

ذلك اليوم عندما شقَّ سكونَ الظهيرة صرخةٌ ملتاعة من منزلهم، كأنها ضمت المنازل كلها، وألغت وجود الأزقة الفاصلة بين البيوت حين سمعناها، أعقبها نحيب وعويل مختلطًا ببعضه. قالت أمي إن النساء اللاتي هرولن إلى منزلهم لاستطلاع الخبر قلن لها: إن ابنة جارنا فقدت يدها في خلاط الكهرباء، بعد هذا الخبر بساعات صدر توضيح أكثر دقة، حيث قيل إنها فقدت إصبعها فقط. 

حينها فكرت بسبابتها التي تشير إلى دائمًا، واعتراني الذنب للمرة الثانية بسببها. مسكينة سعاد، كانت أجمل أخواتها، تعجبني دون كل بنات الحي، تعجبني فيما عدا سبابتها اللعينة التي تشير نحوي دائمًا. فَقْدُ إصبعها الآن شوَّه جمالها.

بعد حادثة إصبعها بثلاثة أيام كنت عائدًا إلى البيت عبر الزقاق الذي يفصل بين منزلينا فجأة ارتطم بوجهي شيء ما وسقط تحت قدمي. كان إصبعها!  ما إن تبينته حتى صرخت بفزع هائل، تراجعت إلى الخلف حتى سقطت أرضا في هلع حقيقي قبل أن تصلني قهقهات صديقي "سيف" الذي تدلت ساقاه أعلى سور الزقاق. 

الخبيث! قفزت محاولًا جذب ساقيه كي أسقطه انتقاما لفعلته، لكنه رفعهما بسرعة وضحكاته تتعالى أكثر. رفعت قبضتي متوعدًا وأنا أصرخ فيه: "وثقت بك حين قصصت عليك تلك الحكاية.. أيها الخبيث، لقد أفزعتني بحق. هبط "سيف" من السور، وهو يحاول الاعتذار من بين ضحكاته: "هي دعابة فلا تغضب هكذا، واحتفظ بإصبعها المطاطي للذكرى"

يا لها من ذكرى! لا أكاد أنسى سبابتها حتى في أحلامي وخيالاتي كي أحتفظ بإصبع مطاطي ليذكرني، لا أدري من أين جلبه الخبيث سيف أو كيف واتته فكرة إفزاعي؟!

رفعته مكرهًا من الزقاق الفاصل بين منزلنا ومنزلهم خشية أن يراه أحد أطفال الحي ويأخذه إليها فتحزن أكثر لفقد إصبعها. إصبعها الذي أشار إليَّ يومها، وظل يلاحقني كل هذه السنوات، وجعلني أعبر مرحلة الطفولة بهذه الوصمة المخزية. فكرت أن أخطبَها يومًا، كنت سأختارها دونًا عن أخواتها كلهن، لولا إصبعها الذي أشار إليَّ، وربما لأنها الآن دون هذا الإصبع!

مسكينة؛ لعلها تعاني من هذا التشوه المريع، ومع ذلك فهي تستحق فقده، لقد أشارت إلى دونا عن جميع الصبية يومها.

كنا مجموعة من أطفال الحي اعتدنا أن نتسلق أسوار البساتين لنأكل الفاكهة، ومن بينها حديقتهم.. أحيانًا كنا نسرق أحواش بعضنا من أجل المغامرة في لهو متعمد، كل يوم نسطو على أحد البساتين، ويخرج أحد الكبار ليصرخ فينا ويقذفنا بالحصى الصغيرة، فعند نضوج الثمار توزع إلى كل منازل الحي. 

يومها تسلقنا سور منزلهم لنخطف ثمار المانجو الحامض الذي لم ينضج بعد، لم يكن هذا سبب ظهور سبابتها في حياتي.

السبب أني يومها بداعي الفضول ابتعدت عن شجرة المانجو، وذهبت لأختلس النظر إلى سقيفة المنزل المنفصلة، هناك وجدتها.. كانت عارية تماما! تغتسل داخل حوض في ركن السقيفة، بدلًا من أن أنصرف وجدتني مدفوعًا بالفضول إلى مراقبتها!  ظننت أنني سأشعر بالقرف من رؤية جسد فتاة عارية، ذلك لأن الأمهات يحرصن على إخفائه جيدًا، لأنه جسد مختلف عنَّا. لكنني شعرت بجوار الرهبة كأن دمائي ترتفع حرارتها في عروقي ويلفني الدفء والارتباك.  بدت لي وأنا أتفحصها غير ناضجة أيضًا مثل ثمار البستان التي نسرقها، ظللت أتتبع يدها اليسرى وهي تزحف على جسدها النحيل وتفركه، ويدها اليمنى تصب الماء من إناء صغير، تأملتها وهي تفرك بين ساقيها في كل مرة تدور فيها يدها على جسدها الذي تأكد لي أنه غير ناضج، فليس لها بروز صدر أمي وتلك المنحنيات الكبيرة.

لكنها أيضًا جميلة، حامضة كثمرة مانجو غير ناضجة، حتى صدرها الصغير رؤيته دغدغت مفاصل جسدي، وكأني طفل صغير يفكر بالرضاعة. انفجرت في جسدي يومها رعشة خوف وخدر منعتني عن الحركة. لم ينتبه الأولاد لغيابي، كانوا سعداء بالتقاط صيدهم بصمت وهدوء، وكنت مستمتعًا بما أشاهده أيضًا بصمت وهدوء، لا أدري كيف تحولت حركتها إلى قلقة، وانتهت سريعًا من حمامها، ظلت تعصر شعرها الطويل فترة طويلة، قبل أن ترتدي ثيابها سريعا وهي تحدق إلى حيث أقف؛ تحدق مباشرة كأنها تراني.

هل رأتني من خلف الجدار؟! سقطتْ أحشائي خوفًا وحرجًا، وقفت تحدق إلى حيث أقف برهة؛ هل أظهرُ لها من خلف الجدار؟! لا يمكن أن يظهر لها الثقب جسدي كما أظهر لي تفاصيل جسدها العاري! فلماذا تصوب نحوي نظراتها الحادة هذه؟! تراجعتُ برعب هائل، لن يغفر لي والدها وإخوتها هذه الفعلة أبدًا، هكذا كنت أفكر وأنا أطلق ساقي للريح يومها، قد يخنقني أخوها الأكبر في أحد الأزقة عقابًا على تلصصي على جسد أختهم وهي عارية.

لأسبوع كامل وبحجة المرض اختفيت عن أزقة الحي تماما، أترقب بقلق أي كلمة لوم أو تأنيب من أبي أو أمي.

ولأنني لم أسمع خبرًا حول فعلتي أيقنت أنها حتى لو رأتني وعرفتني فلن تجرؤ على إخبار أهلها لا أظنها ستسلم من التعنيف، فأمي ستعنف أختي أيضًا لو شاهدها ولد متلصص مثلي. بعد الحادثة بأيام عدت إلى حياتي بشكل طبيعي وإن لم يغادرني قلق مبهم، ربما شعور بالذنب أو ربما شعور بالرغبة بمشاهدتها تغتسل مرات ومرات!

لم أعد لغزو بساتين الجيران في لعبة السطو أبدًا، شعرت أني كبرت فجأة، صرت أسير في أزقة الحي دون أن أرفع بصري إلى بساتين الغير، أو أتشوف أحواشهم.. أشعر أن في داخلي بستانًا غير ناضج يكبر كل يوم.

إلى أن أتى اليوم الذي ظهر والدها الضخم، كان ضخمًا يومها حين كنت أنا صغيرًا في الرابعة عشرة، كانت برفقته، لم تكن ترتدي غطاء الوجه بعد، فهي تصغرني بعامين فقط، ومن بعيد انحنى والدها يحدثها، ورأيتها ترفع سبابتها نحوي.. 

سقطت أحشائي أرضًا، لم أرَ الطريق أمامي، لا أدري من الخجل والعار أم من الخوف والهلع! "يا إلهي ماذا أقول له لو سألني كيف جرؤت على فعلتي تلك؟! هل سيخنقني؟! هل سيخبر أبي؟!"  لم أشعر يومها بنفسي وأنا أتراجع إلى الخلف وأطلق ساقي للريح. لم أعد أخرج إلى الحي، عكفت على كتبي ومذاكرتي هروبًا مما سيحدث! ولم يحدث شيء، الجميع يتصرف معي كعادتهم.

منذ ذلك اليوم وسبابتها اللعينة تلاحقني، في سري أدعو على سبابتها أن تقطع، وحين أتى صوت الصراخ من منزلهم تفاقم شعوري بالذنب أكثر. عندما خُطِبَت أختاها فكرت أن حظها في الزواج سيقل بعد أن فقدت إصبعها. إصبعها الذي يلاحقني في كل مكان حتى نومي، أراها في المنام تغتسل وأنا أحاول فرك جسدها النحيل وقد أصبح ناضجًا كثمرة مانجو شهباء.

لكنها تسلط إصبعها نحوي وتقول: "أنت".

هذا الصباح طلبتُ من والدتي خطبتها من والدتها، ربما تكفيرًا عن خطيئتي نحوها، وربما لأنني أحببتها ولم أحب سبابتها تلك التي صارت الآن مقطوعة.

في حفل صغير أقيم في منزلهم دخلت كي ألبسها خاتم الخطبة، وكم كانت صعقتي حين وجدت سبابتها موجودة! حتى إني خلسة قمت بعدّ أصابعها ووجدتها عشرة..

كانت جميلة مثل أصابعها العشرة، ناضجة مثل ثمرة مانجو شهباء. علمت أن أختها الكبرى التي تزوجت العام المنصرم هي من فقدت إصبعها. سألتها ذات يوم بعد زواجنا وأنا أضم إلى صدري جسدها الناضج:

- لماذا أشرت نحوي ذلك اليوم حين كنت واقفة مع أبيك؟

أجابتني بحياء: "لقد سألني أبي من ستتزوجين حين تكبرين، فأشرت إليك!

-------------------------------------------
(*) قصة قصيرة من مجموعتها القصصية "نافذة وأربعون جدارا" والصادرة عن الدار العربية ناشرون بيروت. بعنوان سبابتها

Post a Comment

أحدث أقدم