الورقة البحثية الأولى
أزمة السرد والنقد
د. خالد حسن طايع
أزمة السرد والنقد
(1)
تحت العنوان العام لهذا المؤتمر: (أزمة السرد) تأتي هذه الورقة البحثية حاملة عنوان (أزمة السرد والنقد) ليتحدد توجهها ومحتواها وهدفها. وما يعنيني في هذه المقدمة، قبل كل شيء، هو ضبط مصطلح (السرد) وفقا للدلالة العامة لعنواني المؤتمر والورقة البحثية. فمن ناحية يمكن الوقوف على دلالة لـ(السرد) باعتباره المصطلح المقابل لمصطلح آخر عريق وعتيد هو (الشعر). ومن ناحية أخرى يحمل المصطلح دلالات مغايرة تتضح باستدعائه مصطلحا آخر مقابلا له في الإجراء النقدي هو (الحكي). فوفقا للثنائية الأولى (النثر/ الشعر) يشير مصطلح (السرد) إلى فنون متعددة، مثل: المقالة، القصة القصيرة، الرواية، المسرح النثري،.. بل يتم – وفق هذا الفهم - استدعاء أنماط فنية قديمة مثل: المقامة، والحكايات الشعبية، والأمثال، وغيرها. وإعمالا للثنائية الثانية (السرد/ الحكي) يحمل مصطلح السرد دلالة مغايرة؛ فعلى حين يشير مصطلح (الحكي) إلى المحتوى أو المضمون - إذا استعملنا المصطلح القديم - مجردا من مختلف التجليات الإبداعية أو طرائق التعبير، فإن مصطلح السرد يشير إلى هذه الطرائق وتلك التجليات، أو بمعنى آخر: "الطريقة التي تُحكى بها القصة" أو إلى "الفعل السردي المنتج". (المتن الحكائي) في مقابل (المبني الحكائي).
(2)
تأسيسا على ما سبق فإن هذه الورقة البحثية لا تناقش أزمة النقد في علاقته بالسرد من منظور قضية (التجنيس الأدبي)؛ فدعك من قضية قصيدة النثر وغيرها من القضايا التي تتناول الحدود الفاصلة بين الشعر والسرد؛ إذ تبدو مثل تلك القضايا بعيدة موضوعنا، ولكن ثمة قضايا أخرى يتسع المجال، هنا، للحديث عنها إن نحن فتحنا الباب لها، ولم نحدد دلالة المصطلح ووجهة التناول، من هذه القضايا: مفهوم كل من الرواية الطويلة والرواية القصيرة والقصة الطويلة والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، والفروق بين هذه الأنواع. لكن أيا من هذه القضايا لا يعنينا. كما لا تناقش ورقتنا البحثية أزمة السرد والنقد من وجهة آليات الكتابة وتقنياتها في العمل السردي. وإنما تتجه الدراسة حصرا، وفق مفهوم عام ومتواطأ عليه، إلى العلاقة بين السرد ممثلا في فني القصة القصيرة والرواية من جهة وبين النقد من جهة أخرى، مفترضة وجود أزمة بينهما.
(3)
ولنا أن نتساءل بدءا: هل ثمة أزمة واقعة؟ الإجابة بوضوح وبلا مواربة: نعم. وآية ذلك شواهد عدة لا تخفى علينا جميعا، ويتردد صداها سرا وجهرا، منها:
- إبداعات سردية واعدة لا تجد متابعات تليق بها، وكتابات أخرى رديئة يُحتفى بها.
- جلسات بحثية تشهدها أندية الأدب ومؤتمراتنا الأدبية المختلفة تكاد تخلو من الحضور، وأبحاث يتم تقديمها في هذه المؤتمرات لا تقارب النصوص موضوع البحث مقاربة واعية، وكثيرا ما يستعمل أصحابها عبارات معلَّبة (أكلشيهات) تبدو صالحة لأن تُستعمل مع عمل.
- كلنا يعرف قصصا لباحثين جلسوا على المنصات ليتناولوا أعمالا لم يقوموا بقراءتها، أو اكتفوا بقراءة عناوين العمل: "أعطني عنوان العمل ومضمونه العام ودع الباقي عليّ).
- دراسات نقدية منشورة في المجلات والدوريات المتخصصة يغلب عليها الغموض، ويستعمل أصحابها ترسانة من المصطلحات المربكة ورسومات ملغزة يفترض أنها وُضعت للتبسيط فإذا هي ألغاز تحتاج إلى فهم.
هذا غيث من فيض نعيش فيه جميعا. فالأزمة إذن واقعة. ويبدو من المناسب - إن أردنا البحث بعمق عن مسببات هذه الأزمة - أن نحللها إلى أطرافها؛ لنحدد مسئولية كل طرف، ولنحاول في النهاية الوصول إلى حل أو (انفراجة) ما دمنا نستعمل مصطلح (الأزمة).
تشير (أزمة السرد والنقد) إلى الأطراف الآتية: الكاتب- النص الإبداعي – النقد (النظرية النقدية أو المنهج) – الناقد – وأخيرا يمكن أن نضيف إلى المعادلة طرفا آخر علينا أن نأخذه بعين الاعتبار لتكتمل الدائرة وهو المتلقي.
(4)
يشير الطرف الأول؛ الكاتب بداهة إلى المبدع. وجزء كبير من مسئوليته يتمثل في رغبة كثيرين أو قليلين في أن تحظى كتاباتهم بدراسات نقدية تمجد العمل، حتى وإن كان التمجيد لا يستند إلى حقيقة. فثمة إنتاج أدبي يمكن وصفه بالركيك لا يتحمل أصحابه النقد، ويتهمون الناقد الجاد بأنه – إن وضعنا الأمر في أرقى مراتب حسن الظن – بأنه لم يتعامل مع نصوصهم تعاملا حسنا أو لم يفهمها، ويصل الأمر إلى اتهام الباحث بأنه يحمل ضغينة تجاه صاحب العمل؛ لذا تغلب (الشللية) على الوسط الأدبي ويبحث كل أديب عمن يكيل له المدح. ثمة حساسية مفرطة لدينا في تقبل النقد.
ويشهد الواقع المعاش ممارسات تدين الأدباء، فمنهم من ينشر نصوصه الإبداعية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتخدعه عبارات المجاملة العابرة من أصدقاء ربما لم يطالعوا العمل، وفي الوقت نفسه تثير حفيظته التعليقات الجادة التي تشير إلى جوانب سلبية في العمل. لقد صار الـ( الإعجاب/ اللايك) مرادفا للقراءة البحثية!
إننا هنا لا نطالب الكاتب بأن يقدم، بالضرورة، نصا فارقا، فكلٌّ حسب قدراته وموهبته، ولكن عليه أن يجتهد في البحث عن بصمته الإبداعية الخاصة، وأن يطالع التجارب الإبداعية السابقة، لا ليحاكيها بالطبع، ولكن ليستفيد منها وليجتهد في كتابة نص مغاير، كما عليه أن يطالع ما طرحه النقد في مجال (السرديات)؛ فمبحث واحد وخطير مثل مبحث (الراوي) كفيل بأن يوقفه على منجز ضخم يجنبه الوقوع في أخطاء الكتابة. وأخيرا على الكاتب ألا يتخذ من الكتابة (واجهة) اجتماعية، وأن يكون موضوعيا في تعاطيه للإبداع وفي نظرته إلى منجزه، وفي تعامله مع النقد.
(5)
يشتبك الطرف الثاني؛ العمل الإبداعي مع الطرف الأول المنتج له، إلا أنه - وفق طرحنا له - يحمل خصوصية ما؛ إنه يشير إلى الإمكانات الوافرة المتاحة لدى الكاتب لصياغة عمله. هذه الإمكانات جسدتها تجارب إبداعية سابقة، وبلورتها النظريات النقدية. إنها تقنيات السرد المختلفة: كالتلاعب بالزمن، واختيار نمط معين من الرواة يناسب العمل وما يترتب عليه من اختيار (منظور للرؤية/ وجهة النظر/ التبئير point of view) دون غيره، واستعمال مستويات مختلفة من اللغة،.. وغير ذلك مما يتيح خلق نص إبداعي يمكن وصفه بالفارق إن أجاد المبدع استعمال أدواته.
وفي سياق البحث عن (أزمة السرد والنقد) يلاحظ ما يلي:
أ- على مستوى الكم إذا ما قارنا بين ما تقدمه المطابع كل عام من أعمال إبداعية في مجالي الشعر والسرد بفرعيه فإن التفوق الواضح سيكون للسرد. والأمر بات يحتاج إلى وقفة وبحث لمعرفة الأسباب التي جعلت الشعر يتراجع، والشعراء لا يقرؤون حتى أنفسهم، بينما تمتلئ أرصفة باعة الكتب بالروايات.
وبطبيعة الحال من هذه الأعمال السردية ما هو مميز لا يحظى للأسف بمتابعة نقدية، ومنها ما هو رديء يثير السؤال حول مشروعية تناول نقديا، وهو ما سنقف عليه عند الحديث عن النقد والناقد.
ب- مازالت عبارة (زمن الرواية) التي انطلقت منذ عقود سارية وفاعلة، وتزداد رسوخا. والحق إنني أرى أن الرواية – مقارنة بالقصيدة والقصة القصيرة – هي الفن الكاشف عن صدق الموهبة أو زيفها؛ ففي إطار موجات التجديد في الشعر يمكن للشاعر أن يقدم نصا (فارغا) بدعوى الحداثة والتجريب، وأن يدافع عما فيه من غموض يصل حد الاستغلاق التام بتواضع فهم المتلقين ووعيهم. وأنا هنا لا أهاجم هذا النمط من الكتابة منتصرا للقصيدة التقليدية، وكل ما هنالك أن الأخيرة واضحة السمات، وعيوبها – إن وُجدت أو رصدها معارضوها من وجهة نظرهم – واضحة: كالمباشرة والوقوع في غواية اللغة القديمة التي يراها أصحاب القصيدة التقليدية مقدسة، وغيرها من الملاحظات التي لن ينكرها أصحاب النص الشعري التقليدي، بل إنهم يعتبرونها من مفاخرهم، أما أصحاب النص الشعري الحداثي الزائف فإنهم يتهمون وعيك. والأمر ذاته يحدث مع القصة القصيرة في تياراتها الجديدة ذات الطابع التجريبي، مثل القصة القصيرة جدا التي قد تقع في سطر أو سطرين. هذا النمط فتح الباب أما تجارب منها ما هو مميز، وكثير منها زائف بدعوى اختزال الحياة في كلمات قليلة. ومن هنا تظل الرواية عملا كاشفا فاضحا لقدرات صاحبه؛ فهي تحتاج إلى نفس طويل ودربة وموهبة في صياغة الشخوص ورسمها والتدرج بها وبالأحداث، كما تحتاج إلى حرص شديد في اختيار نمط الراوي وموقعه، وفي اختيار لغة السرد ولغة الحوار، وقبل ذلك إلى التفكير في بناء روائي محكم ومغاير،.. إلى غير ذلك من تقنيات لا يصل بها إلى بر الأمان إلا روائي يمتلك موهبة حقيقة.
ما أود قوله إن الشاعر الحداثي وكاتب القصة - والقصيرة منها خاصة - يمكنهما خداعك، أما من يغامر بكتابة الرواية فستفضحه موهبته الضعيفة.
ج- ظاهرة روايات الـ"البيست سيلر": تشير بوضوح إلى نمط من الكتابة يلقى رواجا بين الشباب، وتنفذ الطبعات المتتالية بما لم يحدث مع روائيين كبار (البعض يشكك في مصداقية الأرقام). هذا النمط من الروائيين خرج من رحم مغاير وغير معتاد للرحم الذي خرج منه الروائيون والأدباء عامة، أقصد نوادي الادب ومقاهي الأدباء وتجمعاتهم المختلفة. وقراء هذا النوع من الروايات، إجمالا، لا يكادون يعرفون شيئا عن الروائيين الذي أسسوا لفن الرواية العربية وعمن جاء بعدهم وترك بصمة واضحة في خريطة الإبداع العربي، كما أنهم لا شأن لهم بالمؤتمرات الأدبية وأبحاثها ومبدعيها.
والكلام عن هذه الظاهرة يطول الكلام ويتفرع، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من المسئول عن سيادة هذا النمط من الكتابة الذي توارى أمامه إبداعات معاصرة حقيقية، وإبداعات قديمة لا يعرفها قراء هذا النمط من الروايات؟ هل النقد مسئول عنها؟ لا أظن. هل كُتّاب الرواية ممن يعدون أنفسهم امتدادا لكتابة إبداعية حقيقة دشنها أساتذة كبار ووصلت لقمتها مع مبدع كبير هو نجيب محفوظ، وشهدت تجارب لافتة وحقيقية على يد مبدعين كبار مثل: يوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله وصنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم (القائمة تطول جدا ويكاد يجهلها، كما أشرت، شباب القرّاء) – هل يتحمل كتاب الرواية هؤلاء المسئولية؟ السؤال صعب وشائك، والإجابة عنه ليست سهلة وتشير إلى أسباب متفرعة، تثير في جانب منها الحرج؛ حرجهم هم أولا قبل حرج الباحثين.
(6)
النقد ثالث عناصر تلك الأزمة، كثيرا ما يكون ثقيلا على نفوس المبدعين، رغم أنهم – كما يشهد تاريخنا الأدبي القديم – أول من مارسوه (ما يروى عن النابغة وعن مدرسة عبيد الشعر مثال لذلك).
أ- على مستوى التنظير يجد الناقد نفسه أمام ما وصف كثيرا بأنه (متاهة النقد)؛ فثمة مناهج نقدية متعددة: المنهج الانطباعي – المنهج التاريخي – المنهج الاجتماعي – المنهج النفسي – المنهج الأسطوري – المنهج الجمالي – المنهج البنيوي – المنهج السيميائي – المنهج التفكيكي – النقد الثقافي – النقد النسوي – الأسلوبية- وهناك التأويلية التي تبدو أقرب إلى كونها إجراء نقديا يسعى إلى فهم النصوص الغامضة وفك شفراتها، وفي سبيل ذلك ينفتح على مختلف المناهج ويستعين بها) وحقيقة الأمر أن كل منهج من المناهج السابقة ينطوي على مئات المصطلحات والعديد من الاسهامات النقدية المتنوعة لنقاد ينتمون إلى المنهج نفسه؛ فمثلا ليست هناك بنيوية واحدة ولكن هناك العديد من المدارس والمقاربات والتعريفات كلها تنطوي تحت مظلة واحدة هي (البنيوية).
والمناهج السابقة منها ما يوصف بأنه قديم وعفا عليه الزمن، كالمنهج الاجتماعي، ومنها ما يقف في خصومة مع غيره من المناهج. ومنها ما لا يعتد بالمتلقي، ومنها ما أعاد للمتلقي اعتباره.
ب- شهد النقد العربي في العقود الأخيرة طفرة هائلة نقلته من النقد الانطباعي (ينهض على إحساس الناقد وتأثره بما يكتب، ويغلِّب المضمون على ما سواه. وتعد إسهامات طه حسين ومحمد مندور أبرز الأمثلة على ذلك النمط) والنقد التاريخي (الذي يرى أن الإنتاج الأدبي انعكاس للمحيط العام ويخضع للبيئة واللحظة التاريخية. وتمثله كتابات طه حسين وشوقي ضيف عن تاريخ الأدب العربي) والنقد النفسي (قراءة العقاد لحياة وشعر كلم من أبي نواس وابن الرومي تدخل في هذا النمط من التحليل النقدي) إلى الاطلاع على النظريات النقدية الحديثة التي طمحت إلى أن يكون النقد علما مبنيا على أسس محددة. والحق أن هذا التفاعل كان له، إجمالا، صورة مشرقة وجوانب إيجابية، وإن صاحبه معضلات كبرى:
- النظريات النقدية الغربية وليدة البنية الثقافية لمجتمعاتها، والنقد الأدبي أحد جوانبها، فهي ذات أبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية وأيديولوجية صاحبت ظهورها في مجتمعاتها. (لا ضير في ذلك؛ إذ يمكننا الاكتفاء بالجانب العلمي البحت منها).
- التفاعل مع هذه النظريات جاء متأخرا، فترجمة الكثير منها جاء بعد أن اختفت هذه النظريات في مجتمعاتها أو خف صوتها وساد بديلا عنها نظريات أخرى (البحث الذي قدمه عالم اللغة فردينان دي سوسير (1857- 1913) "بحث في الألسنية العامة" والذي دشن به لظهور البنيوية نُشر، بعد وفاته، عام 1916. وشهد عام 1967 كتابي جاك دريدا "في علم الكتابة" و "الكتابة والاختلاف"، اللذين كان علامة في الانتقال إلى ما بعد البنيوية).
- في حمى التفاعل والنقل كثيرا ما كانت الترجمة مغلوطة، مشوهة، غامضة. تقرأ النظرية الأدبية عند المترجم فتكاد تجزم أنه هو نفسه لم يفهم شيئا.
- كما يمكن وصف عدد من هذه الترجمات بأنها منقوصة؛ فهي تنقل جانبا من النظرية الغربية ولا تنقل الصورة كلها. فمن يقرأ كتابا مترجما لـ "رولان بارت" أو "تزفيتان تودوروف" يظن أنه أحاط بالبنيوية، فضلا عن إحاطته بمنهج الكاتبين. إن الوقوف على الصورة الكلية الشاملة التي مر بها عليها النقد الغربي أمر مرهق، وربما خارج عن طاقة الفرد.
- يشكو الباحثون من فوضى المصطلح؛ فالمصطلح الواحد تجد له أكثر من ترجمة، والدعوات المتعاقبة لتوحيد المصطلح وضبطه لم تسفر عن شيء.
- لكن الصورة ليست بتلك القتامة، فثمة نقاد راسخون تعاملوا مع المنتج الغربي بوعي، ويمكن للباحث أن يجد ضالته لفهم النظريات النقدية في كتابتهم، وأبرز هؤلاء النقاد ينتمون إلى المغرب العربي، وعلى رأسهم عندي د. سعيد يقطين (المغرب) ود. عبد الملك مرتاض (الجزائر). وآخرون مثل شعيب حليفي وعبد الفتاح كيليطو؛ ليثور التساؤل حول تفوق النقاد المغاربة! ربما جاء تفاعلهم مع النظرية الغربية واعيا وفاعلا لأسباب عدة، لعل أهمها امتلاكهم للغة الأجنبية (الفرنسية غالبا)، فهم يترجمون النظريات من مصادرها لا عبر وسيط، ومن خلال لغة يتقنونها.
- أمر آخر لا يجعل الصور قاتمة، وهو أن هذا التفاعل الأمين مع النظرية الغربية قدم لنا منجزا ضخما ورصينا في مجال (السرديات) يمكن وصفه بأنه يحقق ما يطمح إليه النقد ليكون علما منضبطا، يقوم على أسس واضحة. ويحتاج المرء إلى مصدر أمين ليفتح أمامه الباب كيف يعرف أهم القضايا المثارة في السرديات، مثل: الفرق بين الحكي والسرد، والموضوعات التي يشير إليها كل عنصر من عناصر السرد: الراوي – الزمان – المكان – الشخصية،.. والفرق بين سيميطيقيا السرد المنشغلة بالمحتوى الحكائي، والسرديات المنشغلة بالتعبير أو الخطاب أو الكيفية التي تم من خلالها تقيم المحتوى الحكائي.. إلى غير ذلك من القضايا والموضوعات.
- هذا المنجز ضخم، ويتيح للناقد‘ إن أراد، مادة علمية تسمح له بأن يقدم دراسة قيمة (يمكن هنا أن نسجل أن نقد الشعر، فيما أرى، ما زال يعاني، ولم يحقق المستوى نفسه من المنجز النقدي).
وهنا نصل للطرف الرابع من المعادلة؛ الناقد.
(7)
الناقد فيما أرى هو الحلقة الأهم، ولعله - حتى لا يتهمنا المبدعون الذين أتينا على ذكرهم ومسئوليتهم في فقرة سابقة بالتحامل عليهم - أكثر العناصر مسئولية عن أزمة السرد والنقد. فكما يقدم الكاتب نصا رديئا فإن نقاد يقدمون كذلك بحوثا لا تجيد التعامل مع النصوص، ويتصف كثير منها بالغموض.
- تأمُّل الحالة التي عليها الرحم الذي يُفترض أن يخرج منه النقاد، أعني الجامعة، يمكننا من الوقوف على أهم الأسباب التي تكمن وراء ضعف مستوى الخطاب النقدي؛ حيث تمتلئ أقسام اللغة العربية في الجامعات بأساتذة في تخصصات الأدب والنقد والبلاغة لا يمكن وصفهم بالنقاد؛ فهم مدرسون فحسب، وحتى من هذه الزاوية كثيرا ما يشكو الطلاب ضعف مستواهم العلمي. وبلا مواربة لقد وصل هؤلاء الذين أساؤوا للقب الناقد إلى مناصبهم لأنهم كانوا طلابا حفظوا مناهج لا تسل عن مضمونها المتواضع ووضعوها في كراسات الإجابة، هذا إن أحسنا الظن ولم نشر إلى أساليب ملتوية - أقلها وأنزهها (الواسطة) - جعلت منهم مدرسين لا علاقة لهم بالأدب، وغير مهمومين به ولا بالنقد، ولا يعنيهم تكوين وعي طلابهم وذائقتهم الجمالية.
- لا يمكن بطبيعة الحال أن ننكر وجود أساتذة جامعيين يحملون لقب النقاد بجدارة، وهؤلاء أتاح لهم تكوينهم وشغفهم بعالم الأدب أن يدخلوا من بابه الواسع؛ فيكونوا مهتمين ومهمومين ومنشغلين بدراسته. لكن كم عدد هؤلاء مقارنة بالكم الهائل من مدرسي الجامعة؟ ففي إطار الجنوب هل يمكن لأي منا أن يذكر عشرة، أو حتى خمسة، من أساتذة الجامعة في جامعات سوهاج وجنوب الوادي وأسوان بفروعها المختلفة يشاركون في الحراك الأدبي والنقدي ويمكن أن يحملوا لقب الناقد؟ ألا يدعو للعجب أن يكون أصحاب أبرز المساهمات النقدية هم مبدعون حملوا على عاتقهم عبء النقد؛ حين رأوا الصمت مطبقا ومحيطا بمبدعي الجنوب فلا أحد يلتفت إلى إبداعهم! من هؤلاء عبد الجواد خفاجي - رحمه الله - وفتحي عبد السميع وأشرف البولاقي.
- في ظل توافر المناهج النقدية وتعدد النظريات فإن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الحدود الحاكمة للعلاقة بين الناقد والنظرية من جهة وبين النص من جهة أخرى. جزء من أزمة النقد أن كثيرا من القراءات تطبق النظرية تطبيقا متعسفا؛ فتميت النص. هذا إفلاس من الناقد ودليل قاطع على عدم تفاعله مع النص تفاعلا لائقا. إنها محاولة لخداعنا وستر العجز من خلال الاحتماء بنظرية غربية مدججة بالمصطلحات. وكأن امتلاء الدراسة بالمصطلحات وأسماء النقاد الغربيين يبهر ويسكت!
- ماذا عن الأعمال الرديئة وموقف النقد منها؟ هل يلتفت الناقد إليها مشخصا من خلالها العلة؟ أم ينصرف عنها إلى الأعمال الجيدة؟ لا نريد أن ندخل في جدل بيزنطي حول القيمة وأن وصف بعض الأعمال الفنية بالرداءة دون نقد وفحص مسبقين يعد حكما متسرعا يجافي روح النقد. إن الأعمال العظيمة تفرض نفسها وتنتزع الشهادة بعظمتها من الجميع.
تختلف الآراء حول هذه القضية لكنني أرى أن الناقد إذا أراد أن يقدم خطابا نقديا محترما عليه أن يتناول عملا إبداعيا عظيما.
- ما المنهج أو الطريقة الملائمة للتعامل مع النص الإبداعي؟
هذا السؤال يستدعي سؤالا أسبق وأشمل: هل النقد فن أم علم؟ وأسئلة أخرى عن حدود العلاقة بين النص الإبداعي والنظرية النقدية التي يخضع لها النص؟ وإلى أي مدي يمكن أن يعلو صوت النظرية والمنهج على صوت النص الإبداعي موضوع الدراسة النقدية؟
إجابة السؤال الأول – هل النقد علم أم فن؟ - تشير إلى وجهتي نظر مختلفتين، والتطرف في تبني إحداهما ثمنه فادح؛ فمن يرى النقد فنا خالصا ينزع عنه الملمح العلمي الذي جاهد النقد طويلا للتحلي به، ويعيده مرة أخرى إلى حضن النقد الانطباعي الذي لا يخلو - رغم جمالياته ووجاهة نظر أصحابه شريطة أن يمتلكوا وعيا وخبرة - من تسرع واستسهال. ومن يراه علما خالصا بحثا عن الموضوعية يرمي به - كما يشهد الواقع ممثلا في الكثير من الممارسات النقدية - في جحيم الغموض؛ إذ يحيل الناقد إلى آلة منزوعة الحس، مجردة من الذوق الجمالي، تطبق المنهج تطبيقا آليا. ويدافع أنصار هذا النهج من التناول النقدي عن مسلكهم بأنهم يقدمون (علما) لذا من المنطقي عندهم أن يعلو صوت النقد على صوت النص موضوع التناول وأن تمتلئ الدراسة النقدية بالمصطلحات العلمية. لكن اللافت أن هذا الاستغلاق الذي خيم على النقد شهد في الفترة الأخيرة ردة فعل تدعو إلى التخفّف من سطوة النظرية، وإلى البعد عن الإلغاز بإفساح مجال أكبر لذائقة الناقد وحسه الجمالي.
وما أراه أن النقد، مهما تسلح بأدوات علمية، يجب أن يكون في النهاية خطابا جماليا، هدفه، في نهاية المطاف، أن يفتح أعيننا على مناطق جمالية في النص الإبداعي. ومن هنا فإني أؤمن بما يراه كثيرون بأن الناقد الحقيقي يحمل في داخله مشروع مبدع ضل طريقه إلى الإبداع (البعض يقول إنه فشل كمبدع) فاتجه إلى النقد؛ لم يخسر الأدب لكن النقد ربح. إن الناقد، كما أرى، مطالب بأن يقف أمام النص الإبداعي (أكرر وأشدد أن هذا النص يجب أن يكون نصا عظيما ليمنحك القدرة على إنتاج خطاب نقدي مميز) متأملا ومتسائلا عن المدخل المناسب لولوجه. وهو يقف متسلحا بعلمه ورصيده من الإحاطة بالنظريات النقدية، دون أن يفرض على النص نظرية مسبقة؛ فيكون كمن يضع العربة أمام الحصان. والوصول إلى المدخل المناسب والمنهج الملائم يقتضيان حوارا هادئا مع النص، ينهض هذا الحوار على تأمل طويل؛ فيحمل الناقد معه النص أينما حل، وفي لحظة أشبه بلحظات الفتح والإلهام عند المبدع سيمنحك النص نفسه؛ ألم نقل إن الناقد الحقيقي مشروع مبدع ضل أو فشل. ومهما تسلح الناقد بالنظرية، ومهما استعمل من مصطلحات وجداول ورسومات فثمة في النص الإبداعي مناطق لن يصل إليها الناقد إلا ببصيرة الفنان وحسه الجمالي وذائقته المدربة. ومن هنا فإن النقد الحقيقي عمل مرهق وشاق، والحوار مع النص له ثمنه من وقت الناقد وأعصابه.
(8)
وفقا لقواعد الفن فإن المتلقي أحد عناصر الرئيسة في دائرة عملية الإبداع والتي تتلخص في: المبدع/ المرسِل- النص/ الرسالة – المستقبِل/ المتلقي. هذا المتلقي قد يكون(الناقد) وقد ناقشنا موقعه في الأزمة، وقد يكون قارئا عاديا. ومن ثم فمن المفترض أن يكون عنصرا يملك حضورا قويا يصلح لمناقشة موقعه بتوسع في إطار (أزمة السرد والتلقي). لكن الواقع يفرض حقيقته المخالفة لمنطق الفن؛ فالقارئ بوجه عام غير مكترث لما نناقش؛ مما يجعله على هامش الطرح، إلى أن يحدد لنفسه موقعا مغايرا.
ما زلت أعتقد - وهو اعتقاد أكدته الأيام والشواهد - أن رجل الشارع غير مشغول بما نطرحه؛ فعشرات بل مئات المؤتمرات والفاعليات الثقافية خلت وستظل تخلو من حضور المواطن العادي، حتى وإن كان من القراء المتابعين للطرح السردي، ومن المفارقة أن عددا كبيرا من هذه الفاعليات الثقافية وما قدمته من أبحاث كان يتمحور حول الإبداع والتلقي! أو يثير موضوعات تستدعي بالضرورة دور المتلقي، مثل(صورة الجنوب في الدراما). مؤتمرنا هذا يضاف إلى قائمة الشواهد.
لمن يتوجه كتاب السرد بكتاباتهم؟
أظن، وليس كل الظن خطأ، أننا معشر الأدباء والباحثين(ترضي غرورنا كلمة المثقفين) نعيش معزولين على جزيرة نائية، أدباء يكتبون لأنفسهم، وباحثون يتجهون بأبحاثهم لأدباء كثير منهم لا يقرأ إلا الأبحاث التي تتناول أعمالهم فحسب.
قد يرى البعض أننا نغفل التنوع في المشهد؛ فنضع كافة الجمهور في خانة واحدة، حسنا.. الجمهور العريض في أوطاننا لا يهتم بالقراءة، ولا تشغله مثل تلك القضايا التي نناقشها. وفئة أخرى تهتم بطرح إبداعي ما اصطلح على تسميته بـ(البيست سيلر). هل بقي من المتلقين ممن يمكن أن تضمهم قضية (أزمة السرد والنقد)؟ لا أظن. المتلقي يحضر هنا في القضية لغيابه فاعلا فيها.
إن نظريات النقد الحديثة – وخاصة نظريات التأويل - التي أعادت للقارئ اعتباره اشترطت نمطا خاصا من القراء يمتلك قدرا من الوعي والقدرة على التفاعل مع النصوص.
إن السياق العام الذي أفرز أساتذة جامعيين لا يرقون لمرتبة النقاد هو ذاته الذي أفرز هذا المتلقي المخاصم للثقافة والإبداع الحقيقيين؛ فالتعليم عندنا لا ينمي أبدا العقل النقدي الفاعل. وما يدرسه الطلاب في المدراس والجامعات لا يخرج عن دائرة البلاغة القديمة (علوم البيان والبديع والبيان) ويقتل الذائقة الجمالية ويكرس للثقافة المحافظة.
ما المخرج من الأزمة؟
لقد حاولنا الإشارة إلى مسئولية كل طرف. والأمر قبل ذلك يحتاج إلى ثورة حقيقية في كل المناحي، ثورة تضع مجتمعنا في سياق العصر وشروطه التي لا ترحم؛ وإلا سيظل الكلام عن الحداثة والتنوير صرخات تبتلعها صحراء مخيفة يزداد غوص أقدامنا في رمالها.
إرسال تعليق